قضايا

مجيدة محمدي: مجتمع ما بعد الحرب.. الرجة / الثورة / التأسيس

مقدمة: يعتبر مجتمع ما بعد الحرب من الظواهر التاريخية المهمة التي شهدتها العديد من الحضارت والأمم، حيث تنعكس تبعات الحروب على الحياة اليومية للأفراد والشعوب، وتترك أثراً عميقاً على بنية المجتمعات، وتؤدي في كثير من الأحيان إلى تغيرات جذرية على المستويين السياسي والاجتماعي. حيث يشعر هذا المجتمع عادة بحالة من الرجة الناتجة عن الدمار والعنف الذي خلفته الحرب، ويظهر نتيجة لذلك تفاعل معقد بين القوى الثورية التي تسعى إلى التغيير وإعادة بناء النظام الاجتماعي والسياسي، وبين القوى التي تسعى إلى الحفاظ على الهياكل التقليدية القائمة، مما يقود في نهاية المطاف إلى مرحلة التأسيس التي يتم فيها وضع أسس جديدة للمجتمع.

الرجة وتأثيراتها الاجتماعية والاقتصادية

عند انتهاء الحروب، يُصدم المجتمع بآثار العنف والخسائر البشرية والمادية، مما يُعرف بـ"الرجة". وتكون هذه الرجة ليست مجرد تغير في الأوضاع السياسية، بل تمتد إلى كافة جوانب الحياة، لتشمل الاقتصاد، والتماسك الاجتماعي والأخلاقي، والثقافة. على سبيل المثال، تتراجع مستويات النمو الاقتصادي، وتتدهور البنى التحتية، وتنتشر البطالة والفقر والإجرام كما تعاني الأسر التي فقدت أفرادها من آثار نفسية واجتماعية عميقة، وتصبح الحاجة إلى الرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية الملحة تحدياً كبيراً أمام الدول التي تحاول استعادة عافيتها بعد الحرب.

أمام هذه الظروف التي تشكل حالة من الإحباط لدى المواطنين، قد ينتج سخط شعبي واسع تجاه النخب السياسية القائمة أو السلطة التي قد تكون مسؤولة بشكل مباشر أو غير مباشر عن وقوع الحرب. وبالتالي، تبرز مطالبات بضرورة إجراء تغييرات جذرية، فتحدث هزات كبيرة في الثقة بالنظم السياسية القائمة، ويصبح من الصعب على الأنظمة التقليدية الحفاظ على شرعيتها في ظل هذه الأزمات.

الثورة كاستجابة للرجة

تُعد الثورة في كثير من الأحيان نتاجاً مباشراً لحالة الرجة. ففي ظل غياب الثقة بالنظم القديمة، وازدياد المطالبات الشعبية بالإصلاحات، تنشأ الحركات الثورية التي تسعى إلى إحداث تغيير جذري في البنية السياسية والاجتماعية. و قد تستند الثورات إلى أهداف وأيديولوجيات مختلفة، وقد تتخذ أشكالاً متعددة، بدءاً من الاحتجاجات السلمية وحتى التمردات المسلحة.

و تستمد هذه الحركات قوتها من مشاعر الغضب والإحباط لدى المواطنين، وتعمل على تعبئة الجماهير لتحدي القوى التقليدية، وتدفع باتجاه تبني نماذج جديدة لإدارة الدولة وتحقيق العدالة الاجتماعية. لكن، رغم طموحات الثوار، غالباً ما تواجه الثورة مقاومة شديدة من النخب الحاكمة، والتي قد تلجأ إلى استخدام العنف أو الاستعانة بدول أجنبية لدعم استقرارها.

لكن رغم هذا، في كثير من الأحيان، تؤدي الثورات إلى تغييرات جذرية في النظام السياسي، حيث يتم الإطاحة بالحكومات القائمة أو تغيير الدساتير وتأسيس حكومات انتقالية.

وقد شهدت العديد من المجتمعات ثورات ناجحة كانت بداية لفترة من التغيير الإيجابي، بينما شهدت مجتمعات أخرى ثورات انتهت إلى الفشل أو إلى المزيد من الفوضى والانقسامات الداخلية.

التأسيس وبناء مجتمع جديد

بعد انتهاء الثورة، تبدأ مرحلة التأسيس، والتي تهدف إلى إعادة بناء المجتمع على أسس جديدة تتناسب مع القيم والأهداف التي سعى إليها الثوار. وتعتبر هذه المرحلة تحدياً كبيراً لأي مجتمع، حيث يتطلب بناء مجتمع ما بعد الحرب وضع خطط واضحة للنهوض الاقتصادي، وإعادة هيكلة النظام السياسي، وترميم النسيج الاجتماعي الذي تأثر بالدمار والصراعات.

ويتضمن التأسيس عادةً وضع دستور جديد يضمن الحقوق والحريات الأساسية، وتأسيس مؤسسات سياسية قوية تحافظ على سيادة القانون وتحقق العدالة الاجتماعية. كما تعمل الحكومات في هذه المرحلة على إعادة تأهيل البنية التحتية المدمرة، وتشجيع الاستثمار والتنمية الاقتصادية، وتوفير فرص العمل لإعادة دمج العاطلين عن العمل، خاصة من الشباب.

أما على الصعيد الاجتماعي، تسعى الدول في مرحلة التأسيس إلى تعزيز التماسك الاجتماعي من خلال برامج المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، التي تهدف إلى معالجة الانقسامات الاجتماعية والنفسية التي خلفتها الحرب. كما تتطلب هذه المرحلة تضافر جهود الدولة مع المجتمع المدني لتحقيق التغيير الإيجابي، ومساعدة الأفراد على التأقلم مع الواقع الجديد.

تحديات التأسيس وآفاق المستقبل

رغم أهمية مرحلة التأسيس، إلا أنها مليئة بالتحديات. فمن الصعب التخلص من آثار الصراعات بسرعة، وتحتاج المجتمعات وقتاً طويلاً لتحقيق الاستقرار الكامل. ومن بين أبرز التحديات التي تواجه مجتمعات ما بعد الحرب نجد:

1. الاستقرار السياسي: قد تتعرض الحكومات الجديدة لضغوط كبيرة من القوى القديمة أو من جماعات المصالح، مما يؤدي إلى صراعات سياسية وتحديات داخلية قد تعيق عملية بناء المجتمع الجديد.

2. الأزمات الاقتصادية: تتطلب إعادة بناء الاقتصاد موارد مالية ضخمة، قد لا تكون متاحة بسهولة. لذلك، تضطر الدول إلى الاستدانة أو الاعتماد على المساعدات الدولية، مما قد يضعها تحت رحمة الجهات المانحة ويحد من سيادتها.

3. التماسك الاجتماعي: تعاني المجتمعات المنقسمة بسبب الحروب من صعوبة استعادة الثقة بين الأفراد والجماعات، وتحتاج إلى برامج دعم نفسي واجتماعي تساعدها على تجاوز هذه الانقسامات.

4. تحديات العدالة الانتقالية: قد يكون من الصعب تحقيق العدالة الكاملة في مرحلة ما بعد الحرب، حيث تتعارض المصالح، وتتطلب محاسبة المسؤولين عن الجرائم السابقة، وهي عملية حساسة قد تولد توترات جديدة.

خاتمة

يمثل مجتمع ما بعد الحرب نموذجاً معقداً للتحولات الاجتماعية والسياسية، حيث تتفاعل فيه الرجة مع الثورة لخلق مناخ جديد يؤدي إلى التأسيس. تتطلب هذه العملية صبراً وجهوداً مضنية من جميع أفراد المجتمع ومؤسساته، لتحقيق سلام واستقرار دائمين. ورغم التحديات، فإن التاريخ يظهر أن العديد من المجتمعات نجحت في النهوض من تحت رماد الحروب، وأعادت بناء نفسها على أسس أكثر عدالة وازدهاراً، مما يمنح الأمل للمجتمعات التي تسعى للتعافي والتجديد.

***

مجيدة محمدي – أديبة وباحثة / تونس

 

في المثقف اليوم