قضايا

محمد السليطي: الحق بين المرجعية والنص

دراسة مقارنة في المذاهب الإسلامية حول السلطة والمعرفة

الملخص: تسعى هذه الورقة إلى تحليل مفهوم "الحق" في الفكر الإسلامي من خلال مقارنة منهجية موسعة بين عدد من المدارس والمذاهب الإسلامية، بدءًا من السنية والشيعية، ثم المعتزلة، والصوفية، والأشاعرة، والفلاسفة.

وتركز الورقة على حديث: "الحق مع علي، والحق يدور معه حيث دار"، ومقولة الإمام علي: "اعرف الحق تعرف أهله، ولا يعرف الحق بالرجال"، باعتبارهما مفتاحين لقراءة الخلاف المنهجي بين الفرق في تحديد مصدر الحق، وأثر الانتماء المذهبي على تبني أو رفض النصوص.

المقدمة

في مَهبِّ الجدل بين النص والعقل، وبين الاتباع والتأويل، تبرز ثنائية "الحق والرجل" بوصفها من أعقد الثنائيات في الفكر الإسلامي. هل يُعرف الحق بالرجل؟ أم يُعرف الرجل بالحق؟ وهل يتبع النص الإمام، أم يتبع الإمام النص؟ أسئلةٌ ظلت معلقة بين أجيال العلماء، تتقاذفها المذاهب والمدارس، ويُعاد إنتاجها مع كل جولة خلاف جديدة.

تسعى هذه الورقة للإجابة عن سؤال مركزي: هل الأشخاص هم مرآة الحق، أم أن الحق هو الميزان الذي يُعرف به الأشخاص؟ ومن هنا، تصبح دراسة حديث: "الحق مع علي، والحق يدور معه حيث دار"، ومقولة: "اعرف الحق تعرف أهله، ولا يُعرف الحق بالرجال"، أكثر من مجرد تحقيقٍ سنديّ أو تحليل لغوي؛ إنها مدخلٌ إلى الكشف عن بُنية العقل المذهبي، وكيف صاغت كل مدرسة رؤيتها للحق انطلاقًا من مرجعياتها العقائدية والمعرفية.

الغرض من هذه الورقة هو تقديم هذا التنوع في التأويلات بوصفه رصيدًا معرفيًا ثمينًا لا تهديدًا للوحدة، وإظهار كيف أن الخلاف لم يكن دائمًا نتيجة تعصب، بل كثيرًا ما كان انعكاسًا لطبيعة الأدوات التي تبنتها كل مدرسة.

خلفية الحديثين وتاريخ توظيفهما

حديث "الحق مع علي":

أوردته كتب: الحاكم في المستدرك (ج3 ص129)، الطبراني في المعجم الأوسط (ج6 ص221)، الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (ج14 ص321)، ابن المغازلي في مناقب علي (ص115)، وغيرهم.

في المصادر الشيعية: الكليني في الكافي، الصدوق في علل الشرائع، المجلسي في البحار، الطبرسي في الاحتجاج.

أقوال العلماء:

السنة: الحاكم قال عنه: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، لكن الذهبي في التلخيص قال: "بل فيه انقطاع".

أما ابن تيمية فقال في منهاج السنة (7/137): "الحديث كذب، أو موضوع، والحق لا يدور مع أحد بل يُعرف بدليله"، جامعًا بين نقد السند ورفض المنهج.

الشيعة: اعتمدوه في إثبات الإمامة، كما فعل الشيخ المفيد في الإرشاد (ج1 ص219)، والعلامة المجلسي في البحار (ج29 ص302).

مقولة "اعرف الحق تعرف أهله":

رواها الجاحظ في البيان والتبيين (ج2 ص60)، وابن عبد البر في التمهيد (ج6 ص97)، وشرحها ابن أبي الحديد في شرح النهج (ج2 ص175).

وغالبًا ما يُستشهد بها في الخطابات العقلانية والفلسفية كأداة لتجاوز الشخصنة، وتُفسر بأن الدليل هو الطريق إلى الحكم على الرجال.

التحليل اللغوي والمنهجي

الحديث يجعل عليًّا والحق في علاقة دوران: فمن الذي يدور؟

لغويًا: علي هو الثابت، والحق يدور معه، أي أنه يتمحور حوله.

ابن تيمية رفض هذا المعنى، وقال: "الحق لا يدور مع الرجال، بل يُعرف بالدليل، ومن وافقه كان معه، لا أن الحق يتبع الأشخاص".

المفارقة: مقولة علي نفسه تنقض هذا المعنى إذا فُهم حرفيًا، مما يفتح المجال لتعدد القراءات.

المواقف المذهبية والفكرية

1. المدرسة السنية الأصولية

رفض الحديث لضعف سنده: قال الذهبي في تلخيص المستدرك: "فيه انقطاع، وفي متنه نكارة".

الشاطبي في الموافقات (ج5 ص51): استخدم قول علي كقاعدة في الرد على التعصب المذهبي.

الغزالي في المنقذ من الضلال ص55: "إني نظرت فرأيت تقليدي في الدين كفري بديني، فرجعت إلى النظر والاستدلال".

ابن القيم في إعلام الموقعين (ج1 ص39): "الحق يعرف بدليله لا بقائله، ومن جهل هذا ضل".

تحليل: السنة الأصوليون جعلوا الحق مستقلًا عن الأشخاص، مفضلين الدليل على المرجعية الفردية.

2. المدرسة الشيعية

أ-الأصولية:

الشيخ الطوسي في العدة في الأصول: يرى أن الإمامة لا تُثبت بالعقل وحده بل بالنص.

العلامة الحلي في نهج الحق وكشف الصدق (ص247): "إن قول النبي: الحق مع علي، دليل على عصمته؛ لأن الحق لا يفارقه".

السيد الخوئي في البيان في تفسير القرآن (ص252): يفسر أن الإمام هو المتحد مع الحق ذاتًا.

ب- الإخبارية:

محمد أمين الاسترآبادي في الفوائد المدنية ص22: رفض العقل أصلًا كمصدر للمعرفة، واعتبر أن النصوص وحدها تهدي إلى الحق.

يوسف البحراني في الحدائق الناضرة (ج1 ص18): اعتبر أن "الأقوال التي تُنسب لعلي يجب أخذها وفق ظاهرها دون قياس أو تأويل".

تحليل: المدرسة الأصولية ربطت الحق بالإمام كنص ومعصوم، بينما الإخبارية ربطته بالنصوص وحدها.

3. المعتزلة

الجاحظ في الرد على النصارى (ص35): "الحق لا يُعرف بالآباء ولا المشايخ، ولكن بالدليل، فمن وافقه كان من أهله وإن جهل الناس".

النظام: "الحق لا يكون تبعًا للأشخاص وإنما الأشخاص هم أتباع للحق ما داموا عليه".

القاضي عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة (ص179): "إثبات العصمة لا يجوز إلا بالبرهان، ولا يُستدل عليه بالأقوال المنسوبة".

تحليل: المعتزلة أبرزوا مركزية العقل كميزان للحق، بعيدًا عن الأشخاص.

4. الصوفية

ابن عربي في الفتوحات المكية (ج1 ص290): "علي باب المدينة، ومن دخل من بابه وجد الحق في باطنه".

عبد القادر الجيلاني في الفتح الرباني (مجلس 16): "علي كان حجة الله في أهل زمانه، لأنه غلب الهوى واتبع الحق ظاهرًا وباطنًا".

السهروردي في عوارف المعارف (ص142): "الولي الكامل هو الذي لا يفترق عن الحق لا ظاهرًا ولا باطنًا، ومثال ذلك علي بن أبي طالب".

تحليل: المتصوفة ركزوا على البعد الروحي، فرأوا علي تجليًا للحق الباطني لا السياسي. ويُلاحظ أن بعض المتصوفة ربط بين علي وتجلي الحق الباطني دون أن يضفوا على الحديث بعدًا عقديًا كما فعلت المدرسة الشيعية.

5. الأشاعرة

الجويني في الإرشاد (ص307): رفض الاعتماد على الأخبار الآحاد في الأصول، واعتبر أن الحكم على الرجال يتبع ثبوت الحق لا العكس.

الغزالي في الاقتصاد في الاعتقاد (ص83): "إذا دار الأمر بين الحق والداعية إليه، فالواجب أن يُرجع إلى الدليل، لا إلى صدق الرجل وحده".

الرازي في أساس التقديس (ص141): "العقل أصل في إدراك العقائد، فلا يُبنى على أخبار غير متواترة، ولو كانت من أفاضل الصحابة".

تحليل: الأشاعرة اقتربوا من المعتزلة في تقديم العقل والدليل، مع تحفظهم على النصوص غير المتواترة.

6. الفلاسفة المسلمون

ابن سينا في النجاة (ص112): "البرهان هو ميزان المعرفة، ولا يُقبل قولٌ بلا دليل، ولو كان من المعصومين".

ابن رشد في فصل المقال (ص25): "الحق لا يضاد الحق، وإنما يُعرف ببرهانه، فإن وافقه النقل كان تأويله واجبًا".

الفارابي في المدينة الفاضلة (ص119): "الحاكم هو من عرف الحق، لا من كان تابعًا لسلطة أو إرث".

تحليل: الفلاسفة حرروا مفهوم الحق من الارتباط بالشخصيات، وجعلوه برهانيًا وعقليًا خالصًا. وقد اتجه الفلاسفة إلى تحرير مفهوم الحق من أي التباس بين الشخصي والمطلق، معتبرين أن المعرفة لا تتقوم بالرجال بل بالحجة.

الخاتمة

يُظهر التحليل أن فهم "الحق" في التراث الإسلامي لا ينفصل عن المنهج المعرفي والخلفية المذهبية. وبينما تميل مدارس كالمعتزلة والفلاسفة إلى تجريد الحق من الأشخاص، فإن مدارس أخرى كالإخبارية والطرق الصوفية تربط بين تجلي الحق والأشخاص بشكل وثيق.

هذا التباين لا ينبغي أن يُقرأ كاتهام أو تقييم، بل بوصفه تنوعًا فكريًا ثريًا يعكس عمق التجربة الإسلامية في التعامل مع النص والحقيقة.

إن الغرض من هذه الورقة ليس التفضيل أو الإدانة، وإنما عرض هذا الاختلاف بصفته رصيدًا معرفيًا مهمًا، يُظهر كيف قامت كل مدرسة ببناء تصوراتها عن الحق من خلال أدواتها المعرفية، ومنطلقاتها العقائدية، وظروفها التاريخية.

فكما أن تنوع الرؤى في أي حقل علمي هو علامة حيوية، فإن تعدد القراءات في التراث الإسلامي يمثل فرصة لفهمٍ أوسع، لا تهديدًا للوحدة.

المشكلة لا تكمن في الاختلاف ذاته، بل في تحوله إلى تعصبٍ مذهبي وجمودٍ فكري، حين يظن أتباع كل مذهب أنهم وحدهم يملكون الحقيقة المطلقة، وينفون عن غيرهم حتى شبهة الاقتراب منها. أما المتواضعون في طلب المعرفة، فإنهم يرون في اختلاف الآراء أبوابًا للحوار، لا متاريس للصراع.

إن أحد الأهداف الكبرى لهذا البحث هو التأكيد على أن الاعتراف بالاختلاف وتعدد طرق الفهم ليس عائقًا أمام التعايش السلمي، بل هو شرط من شروطه. فالمجتمعات التي تحترم تنوع الآراء والمذاهب هي القادرة على بناء دولٍ مستقرة، تحتضن الإنسان كقيمة مركزية، وتؤمن له الكرامة والحرية، وتُفسح المجال أمام النهضة والتقدم الحضاري.

هذه الورقة دعوة للتواضع المعرفي، لاحترام الآخر المختلف، وللتوقف عن اختزال الحق في جماعة أو شخص أو مذهب. وهي دعوة لمراجعة الذات قبل محاكمة الآخرين، وإدراك أن الحق إن لم يُعرف بالحوار والعقل، ضاع في زوايا الاحتكار والصراع.

ولعل أول خطوة نحو فهم مشترك للحق هي أن نعترف بأن البحث عنه لا يكون في أحاديات اليقين، بل في فضاء السؤال والاحتمال.

***

محمد ساجت السليطي - كاتب وباحث عراقي

........................

المصادر والمراجع

1. الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين. دار المعرفة.

2. الطبراني، المعجم الأوسط. تحقيق: طلال أبو النور.

3. الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد. دار الكتب العلمية.

4. ابن المغازلي، مناقب الإمام علي. مؤسسة البلاغ.

5. الكليني، الكافي. دار الكتب الإسلامية.

6. الشيخ المفيد، الإرشاد. دار المفيد.

7. المجلسي، بحار الأنوار. مؤسسة الوفاء.

8. الطبرسي، الاحتجاج. منشورات المكتبة الحيدرية.

9. الذهبي، تلخيص المستدرك. دار الكتب العلمية.

10. ابن تيمية، منهاج السنة النبوية. مؤسسة قرطبة.

11. الجاحظ، البيان والتبيين. دار الفكر.

12. ابن عبد البر، التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد. وزارة الأوقاف المغربية.

13. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة. دار إحياء الكتب العربية.

14. الشاطبي، الموافقات. دار ابن عفان.

15. الغزالي، المنقذ من الضلال. دار المنار.

16. ابن القيم، إعلام الموقعين. دار ابن الجوزي.

17. الشيخ الطوسي، العدة في الأصول. مؤسسة آل البيت.

18. العلامة الحلي، نهج الحق وكشف الصدق. مركز الأبحاث العقائدية.

19. السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن. مؤسسة الإمام الخوئي.

20. محمد أمين الاسترآبادي، الفوائد المدنية. طبعة حجرية.

21. يوسف البحراني، الحدائق الناضرة. مؤسسة النشر الإسلامي.

22. القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة. دار التنوير.

23. ابن عربي، الفتوحات المكية. الهيئة المصرية العامة.

24. عبد القادر الجيلاني، الفتح الرباني. دار المعرفة.

25. السهروردي، عوارف المعارف. دار الكتب العلمية.

26. الجويني، الإرشاد. دار الكتاب العربي.

27. الفخر الرازي، أساس التقديس. دار الكتب العلمية.

28. ابن سينا، النجاة. دار الآفاق.

29. ابن رشد، فصل المقال. دار الجيل.

30. الفارابي، المدينة الفاضلة. دار المشرق.

31. عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد. دار الفكر.

32. محمد عبده، الأعمال الكاملة. الهيئة العامة.

33.  علي عبد الرازق الإسلام وأصول الحكم الهيئة المصرية العامة.

34.  مالك بن نبي، شروط النهضة دار الفكر.

35. عبد الكريم سروش القبض والبسط في الشريعة مركز الحوار الثقافي.

في المثقف اليوم