قضايا

عماد خالد رحمة: السيميائيّة والمعنى.. مقاربة في فلسفة الدلالة وتجلياتها

إنَّ المعنى – كما ذهب إلى ذلك فلاسفة اللغة ومفكِّرو العلامة – ليس حكراً على اللغة وحدها، بل يتعدّاها إلى كل ما يصدر عن الفكر البشري من رموز وإشارات وأفعال. فكما أنّ للألفاظ معنى، فإنّ للأشكال معنى، وللحركات معنى، وللأصوات والصور والطقوس معنى، بل يمكن القول مع الفيلسوف الفرنسي رولان بارت إنَّ "كلّ ما يمكن أن يُقرأ يمكن أن يُؤوَّل"، أي أنَّ كل ظاهرة بشرية هي نصّ مفتوح على التأويل.

من هنا جاءت السيميائيّة (Semiotics) كعلم يعنى بدراسة العلامات ودلالاتها، بوصفها وسيطاً حيويّاً لفهم العلاقات بين الفكر واللغة والوجود الاجتماعي. ولعلَّ ما يجعل السيميائيّة حقلًا معرفيّاً متفرّداً هو قدرتها على النفاذ إلى البنية العميقة للظواهر، وكشف الطبقات الدلاليّة التي تختزنها، سواء أكانت لغويّة أم غير لغويّة. فهي لم تكتفِ بتفسير المعنى في النصوص الأدبية فحسب، بل خاضت – كما يذكر يوري لوتمان – في دراسة الأساطير، والعادات، والممارسات اليومية، والفنون بمختلف أشكالها، وفي مقدّمتها الفن التشكيلي الذي يعدّ أحد أوسع حقول العلامة وأغناها.

لقد كان الفيلسوف تشارلز ساندرس بيرس من أوائل من صاغوا رؤية فلسفية شاملة للعلامة، حيث اعتبرها "واسطة ثلاثية" تتكون من الدال (العلامة)، والمدلول (الموضوع)، والتأويل (الفهم البشري للعلامة). فيما ركّز فرديناند دو سوسير على ثنائية الدال والمدلول، ورأى في اللغة "نظاماً من العلامات التي تعبّر عن الأفكار"، مؤسِّساً بذلك للمنظور البنيوي الذي غيّر جذريّاً فهمنا لطبيعة المعنى. وتوسّع أومبرتو إيكو لاحقاً في تحديد وظيفة العلامة، مؤكّداً أن المعنى ليس معطىً جاهزاً، بل يُبنى عبر التفاعل بين النصّ والمتلقّي، وهو ما يُعرف بـ"التأويل المفتوح".

إنَّ جوهر السيميائيّة يكمن في تفكيك هذا التداخل بين العلامات والمعاني والسياقات. فالأشكال الهندسية في اللوحة التشكيلية مثلًا ليست خطوطاً وألواناً فحسب، بل هي رموز تختزن دلالات ثقافية وتاريخية ونفسية، قد تتجاوز قصد الفنان ذاته. وكذلك الإيماءات في الطقوس الاجتماعية أو الحركات في المسرح أو حتى الأزياء في الموضة، كلها نصوص سيميائية قابلة للقراءة والتأويل. ولهذا أكّد جاك دريدا أن "النصّ يتجاوز الكتابة ليشمل كل نظام دلالي يمكن تفكيكه".

أولًا: السيميائيّة في الشعر العربي الحديث

حين نقرأ قصيدة مثل: "أنشودة المطر" لبدر شاكر السيّاب نجد أن المطر ليس مجرد ظاهرة طبيعية، بل يتحول إلى علامة ذات حمولة دلالية كثيفة:

 "عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحرْ

أو شُرفتانِ راحَ ينأى عنهما القمرْ"

المطر هنا يرمز إلى الخصب والحياة والانبعاث، لكنه يتداخل مع دلالة الحزن والانكسار الجمعي في سياق سياسي واجتماعي مأزوم. وهذا ما يسميه بارت "المعنى الثاني" أو المستوى الإيحائي للعلامة، حيث ينفتح النص على تأويلات متعدّدة تتجاوز دلالة المفردات المباشرة.

ثانياً: السيميائيّة في الفن التشكيلي

في لوحة "غيرنيكا" لبيكاسو، نجد أن الخيول الممزقة، والأم الثكلى، والظلال الحادّة ليست عناصر تصويرية عشوائية، بل علامات دلالية مكثفة تجسّد فظائع الحرب الإسبانية. هنا تتحول الأشكال إلى لغة بصرية تتجاوز الكلمات، وهو ما يجعل اللوحة نصًّا سيميائيّاً بامتياز، يمكن قراءته على ضوء السياق التاريخي والسياسي والنفسي.

أما في أعمال شاكر حسن آل سعيد، فإنّ التشكيلات الخطّية المستوحاة من الحروف العربية ليست مجرد تجريد بصري، بل هي علامات روحية تحيل إلى فلسفة الصوفيّة وفكرة الاتحاد بالمطلق، حيث يصبح النص التشكيلي فضاءً للتأمل والمعنى المتعالي.

نحو فهم جديد للمعنى

يمكننا القول – في ضوء هذه الأمثلة – إنّ السيميائيّة لم تعد علمًا وصفيّاً فحسب، بل صارت أفقاً معرفيّاً لفهم الإنسان والعالم، لأنها تكشف لنا أن كلّ فعل بشري، مهما بدا بسيطاً، هو رسالة تنتظر قارئاً يفكّ شيفرتها. وهذا ما يجعلها علماً يتجاوز الحدود التقليدية للغة ليُعيد صياغة علاقتنا بالمعنى في أوسع صوره.

***

عماد خالد رحمة - برلين

 

في المثقف اليوم