قضايا
يونس الديدي: الهروب من الألم.. هو ألم إضافي

حين تطرق المعاناة بابك، لا تسألها: “لماذا أتيت؟” بل اسأل نفسك: “هل أنا مستعدّ لأن أستمع؟”. نحن لا نُجرح من الألم، بل من محاولتنا الدؤوبة للهروب منه.
نعيش في عالم يحترف الترفيه والتخدير، ويقدّم لكل ألمٍ تطبيقًا أو حبة دواء أو وعدًا بـ”السعادة الفورية”، بات الحزن فيه شعورًا غير مرحّب به، والغضب علامة ضعف، والقلق مشكلة يجب التخلص منها حالًا. لكن ماذا لو كانت هذه المشاعر، بكل ثقلها وحرارتها وتناقضها، ليست خطأً يجب إصلاحه، بل رسالة يجب الإصغاء لها؟
ماذا لو كان الألم – لا السعادة – هو بوابتنا الأصدق لفهم الذات؟
الألم ليس عدواً.. بل زائرا
في الفلسفات الشرقية، خصوصًا في التعاليم البوذية وأطروحات إيكهارت تول، يُشبَّه الألم بالضيف الذي يطرق الباب. لا يأتي ليؤذيك، بل ليكشف لك شيئًا ما. لكن ما نفعله غالبًا أننا نغلق الباب بإحكام، ونضع كرسياً خلفه، ونرفع صوت الموسيقى حتى لا نسمع طرقه.
هذه المقاومة لا تُبعد الألم، بل تجعله يتمترس فينا بشكل أعمق. إن محاولاتنا لتجنّب الحزن، لإنكار الغضب، لكبت الخوف… لا تلغي هذه المشاعر، بل تعلّمها كيف تتخفّى. وما يتخفّى لا يرحل، بل يتربّص.
كتب عالم النفس الشهير كارل يونغ:
“ما تقاومه، يستمر.”
إنها جملة تختصر مأساة الإنسان المعاصر الذي يقاوم كل شيء، ثم يتساءل: لماذا يستمر كل شيء؟
القبول: ليس استسلامًا، بل بداية التحرر
القبول لا يعني الخنوع. ليس أن تقول: “هذا قدري وسأتحمّله بصمت”، بل أن تقول: “هذا شعوري الآن، وسأستقبله كما أستقبل صديقًا جاء يخبرني بشيء مهم”.
عندما نقول “أنا غاضب”، فنحن نكون في حالة اندماج مع الغضب. لكن عندما نقول “أنا ألاحظ شعورًا بالغضب في داخلي”، فإننا نخلق فجوة صغيرة. هذه الفجوة هي بداية الوعي، بداية الحضور، بداية الفصل بين الذات وبين الشعور، حيث يصبح الشعور ضيفًا لا سيدًا. وفي هذه المسافة الصغيرة، يحدث كل الفرق.
يحدث السلام
المشاعر ليست دائمة… لكنها تطلب أن تُرى
لنتأمل الأطفال قليلاً: يبكون، يغضبون، يصرخون، ثم يعودون للعب. لماذا؟ لأنهم لم يتعلموا بعد كيف يكبتون مشاعرهم. كل شعور يظهر ثم يرحل، لأنه نال حقه في الظهور.
لكننا، كبالغين، تعلمنا كيف نخزّن المشاعر، نضعها تحت السرير، خلف الابتسامات الاجتماعية والردود الأوتوماتيكية. نقول “أنا بخير” ونعني عكس ذلك. نُخفي وجعنا حتى عن أنفسنا.
وهنا تحدث الكارثة: ما لم يُعاش، يتكرّر.
وما لم يُعطَ مساحة، يتحول إلى ألمٍ مزمِن.
لا دواء للوجع سوى الإصغاء له
يخبرنا تارا براخ، إحدى رائدات التأمل في الغرب، عن تقنية تُسمى R.A.I.N. (تعني المطر)، وهي اختصار لأربعة مراحل للتعامل مع المشاعر الصعبة:
- Recognize: التعرّف على الشعور (أنا أشعر بالحزن الآن).
- Allow: السماح له بالتواجد (لا مشكلة في أن أشعر هكذا).
- Investigate: التحقق برفق (من أين يأتي هذا الشعور؟ ما حاجتي الآن؟).
- Nurture: الرعاية (أتحدث لنفسي بلطف، لا بلوم).
إنها دعوة للجلوس مع الألم، لا لمواجهته، بل لمرافقته.
تمامًا كما لا يمكنك أن تطرد الغيوم من السماء بالقوة، لا يمكنك أن تطرد الحزن من قلبك بالعنف.
مقاومة ما هو كائن… صراعٌ خاسر
حين نقاوم الواقع، نحن لا نغيّره، بل نضاعف ألمه. الألم جزء من الحياة، لكن المعاناة هي ما نضيفه إليه حين نرفضه.
إن مرضًا جسديًا قد يسبب ألمًا، لكن مقاومته بالغضب أو الإنكار أو الخوف، تحوّله إلى معاناة.
إن خسارة شخصٍ نحبه تُحزننا، لكن إنكار ذلك الحزن ومحاولة التظاهر بالقوة، يزيدان الجرح عمقًا.
كما قال المعلم الروحي أدياشانتي: “الحقيقة تحررنا فقط عندما نتوقف عن مقاومتها.”
الألم كمعلم
ما نعتبره “أزمة” قد يكون درسًا متنكرًا.
ما نظنه “نهاية” قد يكون بداية صامتة.
ما نخشاه أكثر… قد يكون ما نحتاج إليه لنتحوّل.
هل من السهل أن نقبل الحزن؟ لا.
هل من السهل أن نستقبل القلق دون أن نحاول إصلاحه؟ بالتأكيد لا.
لكن القبول لا يعني الراحة، بل الشجاعة.
أن تقول لنفسك: “سأجلس مع هذا الألم، لن أهرب هذه المرة.”
في الختام:
كل شعورٍ ترفضه… سيطرق الباب مرة أخرى.
كل وجع تنكره… سيتنكر في صورة أخرى.
وكل مقاومة… هي استمرارٌ للمعاناة.
أما القبول؟
فهو المصباح الأول في طريق التعافي.
هو اليد التي تفتح الباب وتقول:
“مرحبًا أيها الألم… أنا هنا الآن. ولن أهرب.”
***
بقلم الكاتب: يونس الديدي كاتب مغربي متخصص في الشؤون الاجتماعية والسياسية