قضايا

خالد اليماني: العزلة الرقمية وتشييء الإنسان

توطئة: يشهد العالم المعاصر ظاهرة متسارعة تتسم بارتفاع غير مسبوق في كثافة الاتصال الرقمي. تبدو هذه الظاهرة في ظاهرها علامة على اقتراب البشر من بعضهم البعض، واتساع نطاق التفاعل والتواصل بين الأفراد على امتداد الجغرافيا. غير أن النظرة المتأنية إلى النتائج النفسية والاجتماعية لهذا التوسع تكشف عن مسار موازٍ ينمو بصمت: شعور متصاعد بالوحدة، وتفتت داخلي في الخبرة الوجدانية للفرد، وضعف متزايد في قدرة الإنسان على استشعار الحضور الحقيقي للآخرين.

هذا المفارقة، بين ما هو ظاهر من التواصل الرقمي وما هو باطن من العزلة الشعورية، هي ما تدفعنا إلى التفكير مجددًا في بنية الاتصال المعاصر. فالعزلة هنا لا تبدو وليدة غياب العلاقة، وإنما نتاج وجود علاقة مشوّهة تُبنى على أرضية تقنية مصممة وفق منطق اقتصادي قائم على مراقبة السلوك الإنساني وتوجيهه. وهذا ما يستدعي استحضار المنهج التفكيكي بوصفه أداة فلسفية تسعى إلى كشف البنية الخطابية التي تُنتج هذا الشكل الجديد من العزلة، وتتبع المسارات التي يُعاد من خلالها تشكيل التجربة الإنسانية في ظل منظومة اقتصادية-رقمية متكاملة.

المناقشة

يتأسس الاقتصاد الرقمي الراهن على مبدأ جوهري يتمثل في جذب الانتباه، وتحويله إلى مورد اقتصادي قابل للاستهلاك. ولكي يتحقق هذا الهدف، تُصمم المنصات الرقمية بطريقة تجعل المستخدم في حالة تفاعل دائم مع تدفق مستمر للمحتوى، وإشعارات متلاحقة، وخوارزميات مدروسة تدفعه إلى العودة والتكرار دون توقف. هذه الحالة لا تسمح للذات بالتوقف والتأمل، إنما تُبقيها في حركة دائمة، تستهلك الوقت والطاقة الذهنية والعاطفية.

في هذا السياق، التجربة الرقمية تتحول إلى مجال يعاد فيه تشكيل الإدراك. الجسد، بما هو وسيط أولي للوجود في العالم، يفقد حضوره الفاعل. لم تعد اليد التي تلامس الشاشة تشعر بحرارة الآخر، ولم تعد العين تنظر لتدرك العمق؛ تمرّ الصور والمقاطع في مخيلتنا بين الحقيقي والافتراضي. ومع هذا التراجع في الحضور الجسدي، يتراجع أيضًا الإحساس بالزمن كاستمرارية. تصبح اللحظة مقطوعة، موزعة على إشعارات، وردود، وتحديثات معلوماتية وإخبارية، تُفقد التجربة الزمنية الآنية الأصدق والأحق وحدتها الداخلية.

تشير الدراسات الميدانية الحديثة، ومنها ما أجرته الباحثة شيري توركل، إلى أن غالبية المستخدمين يشعرون بفراغ داخلي بعد فترات طويلة من التفاعل الرقمي. هذا الفراغ لا ينتج عن الاستخدام السطحي أو الخاطئ، بل عن التصميم البنيوي للمنصات التي تعتمد على تأجيل الإشباع العاطفي، وإبقاء المستخدم في حالة دائمة من الترقب والانتباه. يتم هنا استدعاء مفهوم «الإرجاء» كما صاغه جاك دريدا، وهو عملية يتأجل فيها المعنى باستمرار، ويظل الحضور ناقصًا، غير مكتمل. المنصات الرقمية تفعل الشيء ذاته مع العاطفة، حيث لا يتحقق الامتلاء، إنما يُعاد تدوير النقص كي يظل المستخدم في حركة مستمرة نحو وعد لا يتحقق.

من جهة أخرى، لا تتوقف البنية الرقمية عند تشكيل الذات، بل تمتد إلى ابتلاع كل أشكال المقاومة. النقد الذي يوجَّه إلى هذه المنصات، والتطبيقات التي تدّعي تقنين الاستخدام الرقمي أو الحد من الإدمان، تتحول بسرعة إلى منتجات استهلاكية، يُعاد تسويقها ضمن نفس البنية التي نشأت فيها. حتى لحظة الانسحاب أو التأمل تُعاد صياغتها ضمن الاقتصاد الرقمي، مما يجعل من الصعب التمييز بين الفعل الناقد والفعل الممتثل.

النتائج

تُظهر هذه الظواهر نتائج ثلاث يمكن الوقوف عندها:

أولًا، أن الاتصال الرقمي لا يقود بالضرورة إلى تقارب إنساني، بل قد يُنتج شكلاً جديدًا من العزلة، عزلة تتأسس على التفاعل المتكرر الخالي من العمق.

ثانيًا، أن الخوارزميات والتصاميم التقنية لا تعمل في فراغ، هي تتجذر في خطاب أيديولوجي يعيد تشكيل الزمن، والعاطفة، والعلاقة، و يؤطرها وفق منطق السوق.

وثالثًا، أن محاولات المقاومة الفردية، ما لم تتأسس على وعي نقدي بالبنية الكلية، قد تُستوعب بسهولة وتُعاد تدويرها، مما يتطلب إعادة التفكير في أشكال التنظيم والتأمل الجماعي القادرة على استعادة معنى الحضور، والزمن الحي، والجسد الفاعل.

الخاتمة

هناك حاجة ملحة وجودية لوعي جمعي فلسفي يضع الإنسان من جديد في مركز التجربة. وعي يستدعي الإرث التفكيكي، بوصفه تراثًا يتجاوز النظرية إلى مساحة كشفية للإنصات لما صمتت عنه الخطابات التقنية، ولفهم ما لم يُعلن في صميم تصميمها. بهذه الروح وحدها يمكننا أن نتقدم نحو علاقة رقمية تعزز الحضور وتفتحه على إمكانات أوسع للمعنى، والاتصال، والتجربة المشتركة.

***

خالد اليماني

في المثقف اليوم