قضايا

الطيب النقر: الطلل البالي

أنت تكلف نفسك مشقة شديدة، إذا أردت أن تصور عواطفك وأنت في تلك المرحلة العمرية الباكرة تصويراً صادقاً، لن تستطيع أن تضع يدك عليها، أو تأخذ منها ما تريد، أو ما تعتقد أنه معين لك على توطيد نظم مقالك هذا، فقد انقطعت الصلة بينك وبينها، وانزوت حواضرها الزاهية في ذاكرتك شيئاً فشيئاً، حتى استحالت آخر الأمر، إلى دهناء قاحلة  تدمدم رياحها الهوج بين جنبات نفسك، وكيف لا تنحسر وتتضاءل أحداث تلك الأيام الناصعة، وأنت لم تقوي فيها عناصر الثبات والاستقرار، ففي الحق أنت لم تعيرها نظرة، أو تمنحها التفاتة، تكفل لها أن تحتفظ بحظها من الحياة، حينها كنت ستجد متاعاً عظيما، وستعينك تلك الالتفات على احكام هواجسك،  وتجويد خواطرك، وستبتهج أنت بهذا التجويد، ولكنك لم تفعل شيئاً من ذلك، كما أن تفاصيل حياتك الرتيبة التي أنفقتها في بكاء يعقبه بكاء، ولوعة تخلفها لوعة، قد أسهمت في تقزمها وانهاكها، حتى صارت أطلالها ورسومها ضعاف ومهازيل، فذاتك التي لم تدرك أن تلاشي حافظتك، خسارة لا سبيل إلى تعويضها بحال من الأحوال، من المحقق أنها لم تخضع للتوازن الدقيق بين طارفها وتليدها، بعد أن سارت وتيرتها منتصرة مهللة  لحاضرها الذي تاهت في دهاليز عنفه، وقسوته، وصياله المتصل.

إنها مسألة عظيمة الخطر إذن، ألا تأتلف حياتك من ماضي، وحاضر، ومستقبل، ففقدان الماضي يجعل حقيقة هذه الحياة جافية، لا عهد لها برونق أو رواء، وأيسر ما يمكن أن يقال، أنها قلما تستطيع أن تتصل بمواقف ثرة حافلة بالعبث والجمال، وسيظهر عجزها الفاضح، إذا أرادت أن تتصل بالموضوعات التي يطرقها الناس في العادة، والتي تكون كثيرة الدوران على ألسنتهم، لن تكون أيها البائس، مؤهلاً لأن تسترجع المرتفع منها والمنخفض، وستزاد عندها خشية اليأس والخيبة، إذا أخفقت أن تستحضر سوالف علة السعي لها، وغاية الجهاد فيها، أثرها الذي تتركه في النفس، وصداها الذي ينعش الروح، ويدفع الملال.

لن تقدر أن تقيف عند هذه النماذج التي يقدمها لك صديقك كلما هاتفته، لن تتذكر أبداً، تلك العين التي كان ينبع منها الماء، ويختلف عليها أطفال وشباب المدينة، إلا إذا حدثك صديقك المخلص بهذا، وأمعن وتفانى في تذكيرك، العين التي كانت تفتننا بسحرها وجمالها، وتأسرنا بهدوئها وسكونها، كنا نهرع إليها كلما أضنانا العبث، وأعيانا المرح، ولقست أمزجتنا صخب المدينة وضجيجها، كانت هذه العين محدودة ضيقة، ولكنها كانت تعجبنا على كل حال، لأنها تحرك أفئدتنا للبشاشة، وتنزع مهجنا إلى الانتشاء، وذيوع صيت هذه العين راجعاً أيضاً إلى العصبية التي كانت تحدث الشقاق، وتجلب العداوة، وسبب هذه الخلافات اظهار القوة، والسعي لبسط النفوذ، و لعل تلك المعارك التي كانت تدور في نواحي هذه العين، لم تكن أقل امتاعاً للنفس، وارضاء للقلب، لأننا لم نكن ونحن في تلك السن، متجردين من الخضوع لفكرة الذود عن حياض "المنطقة" التي نقطن فيها، فالاشتباكات والنزاعات، كانت تدور بين فصائل تنتمي لأحياء سكنية متفرقة، كنا ننغمس في هذا النوع من الجهالة، ونرتهن لسيد الجيوش، وأمير الجحافل، ونتفانى في طاعته، نهجم على أعدائنا حينما يطلب منا الهجوم، ونولي الدبر حينما نراه لم يستطيع عليها صبرا، لأجل ذلك كثيراً ما كنا نعود إلى منازلنا ورؤوسنا التي أعياها النضال، والتي لم نكن نحرص على مقوماتها، مهشمة لأن قذائف من جندل قد استغرقتها، وأجسامنا اللاغبة مختومة بمقابض من معدن، وأطرافنا مجذوذة أضناها الضرب والتنكيل، كم كانت رائعة حياتنا تلك على سذاجتها، هذه العين على مرّ الأحقاب والأجيال، ظلت شاهدة على ما يقع لأبناء هذه المدينة من حوادث، وما يعرض عليهم من خطوب.

إن هذه  الخواطر التي لا أجد بُداً من تسجيلها، وتلك الحروب والمخاصمات، التي كانت تقع بيننا وبين أبناء المناطق السكنية الأخرى في صبانا الأغر، والتي هي أشبه بحياة الأعراب في باديتهم، لا يمكن أن ننكرها اليوم انكاراً قاطعاً، بل هذه الأطياف في مجملها تستحق أن نحتفل ونتباهى بها، لأنها أهلتنا لأن نلم بدقائق واقعنا المرير، ونحيط به من جميع أطرافه، وأن نستيقن ماضينا البعيد الذي نفكر فيه، ونحْنُ إليه، يستحق أن نتخذه مقياساً لتصورنا للأشياء، وحكمنا عليها.

***

د. الطيب النقر

 

في المثقف اليوم