قضايا
عبد الهادي المظفر: الجماعة الصالحة وغياب الأنا العاقلة المفكّرة

- تنبعُ حاجة الإنسان لمجتمعٍ يضمّه من ضعفِه الفردي، فمنذ بدايات تكوينه الإجتماعي تشكّل في جماعات وتكتّلات بشرية، أُطلق عليها المستعمرات البدائية، ثم تطوّرت لتُصبحَ القرى البدائية على ضفاف الأنهار، ثم بعد ذلك لأرياف وحضارات نمت على تلك الضفاف، ومع حركة مياه الأنهار تحرّك الإنسان منصهراً في جماعات تشترك معه أوّلا في اللغة والتاريخ والسُلالة.
إن هذا التشكيل البدائي هو لحمايته في المقام الأوّل من فردانيته الضعيفة منطلقا لجماعة تحميه من المفترسات، حتى أصبحت المجتمعات البشريّة كبقية المجتمعات الحيوانيّة من جنس وفصل قريب على حدّ قول المناطقة، مجتمعات تتكتّل للدفاع عن نفسها في معادلة الصراع من أجل البقاء.
و مع تطوّر الإنسان وتشكيلاته التنظيمية أصبح لتلك المجتمعات رئيس قبيلة كما في المجتمعات القبلية البدائية يومنا هذا في دول شتّى وغالبا ما يستحوذ رئيس القبيلة هذا على موارد القبيلة مقابل حمايتهم وعلى أجمل نساء القبيلة لإنتاج ذريّة تمتاز بالجمال والذكاء لخلافته، يقوم رئيس القبيلة بحل النزاعات وتوفير الحماية عبر نفاذ كلمته وتأثيره وقدرته في التنظيم في مواجهة الأخطار.
تطوّرت الجماعات البشريّة حتى أصبحت دولاً لها حدود سياسية وتكفّلت جماعات غير منتخبة بدايةً بتوفير ذلك التنظيم وبقي الفرد عبدا لتلك الجماعات النبيلة غير المنتخبة المتعالية، ومع تطوّر النظم السياسية أصبحت الدول أكثر تقدما وحريةً في اختيار من يمثلها.
و مع كل ذلك التقدّم بقيت الجماعات سواء كانت سياسية أم دينية أم اجتماعية أم ثقافية محافظة على تنظيمها في جسد الدولة، ومع غياب الفردانية وتكفّل الدولة بالحماية بقي الفردُ منضويا في جماعة تحميه أو على الأقل تكفل له نفوذه في الآخرين، فعندما ينخرطُ الفردُ في الجماعة يُصبح ماثلا فيهم مائلا إليهم، قوله قولُهم وقولُهم قولُه، تذوب ذاته وتنصهرُ في الجماعة، يفكّرُ بالوكالة وينقلُ ما يقولونه بحذافيرِه إذ لا رأي له فوق رأي الجماعة وهذا اللاوعي الجمعي يقوده للتحرّك كما الروبوت الذي يُعطى الأوامر لتنفيذها، فهو مغيّبٌ تماماً كما لو انه قد أُعطي مخدّرا ما لتوجيهه ، بل تغيبُ الأنا عنده حتى لا يكاد يذكر رأيه فيقول هذا ما أعتقد به، فيقول بدلا من ذلك:"هذا ما قاله فلان وما أدركه فلان ولا أدرك ما هو فوق ذلك!".
إن نظرية الجماعة الصالحة وإن كانت نافعة تنظيميا ولكنّها تُضمرُ وجود " جماعة طالحة"في الضد!، وهي ضاربة في تخوم التاريخ بعنوانات شتى لكنّها لم تظهر بشكلها الإصطلاحي إلا بعد نداءات الأفغاني جمال الدين، لتكوين (هويّة سياسية إسلامية) لمواجهة الغزو الإستعماري.
لقيت نداءات الأفغاني صداها فتأسست بعده اتجاهات فكرية بعضُها تطرّف أكثر وبعضها لان، لكن الفكرة الأساس هو نظم الفرد وسنخه في الجماعة حتى تستطيع الجماعة قوده أخيرا، هذا القَود الذي للآن نعيشه في جماعات مختلفة لا تعترف بهذه العُلقة الإنصهارية ولكنها تمارس ذات الطرق التنظيمية في دفع أتباعها لمواجهة الخصوم في ميكيافيلية واضحة متّبعين سياستي (الحمائم والصقور).
***
عبد الهادي المظفر