قضايا
إبراهيم برسي: صحيفة المثقف في فخّ الاستضافة.. كيف ننقد من داخل الفضاء الذي ننتقده؟

لم يكن الفكر يومًا ترفًا يتسلى به العابرون في مسالك التلقي، بل كان—وسيظل—عتاد الوجود في مجابهة ظلامه، وخنجرًا يفلّ هشاشة المسلّمات التي تُختزل بها الحياة. وإن كان للفكر من موئلٍ يحتشد فيه، فإن الصحف والمنابر الثقافية كانت دومًا انعكاسًا لما استقرّ في وعي الجماعة من تصوّرات، ومختبرًا لإعادة إنتاج الأسئلة التي تشاغب صلادة اليقينيات.
غير أنّ الصحافة الثقافية، في سعيها للقبض على وهج المعنى، قد تسقط في فخاخٍ لا تخرج منها سالمة، إذ تترنّح بين النخبوية التي تُفقدها جدواها، والتسطيح الذي يسلبها فرادتها. وهنا، في هذا الحيّز الذي أتسلل إليه الآن ككاتبٍ تتنازعه أسئلته بقدر ما تشدّه مسؤولياته، أجد نفسي مضطرًا لأن أمارس النقد لا بوصفه سلطةً تُلوّح بأحكامها، بل كالتزامٍ لا ينفكّ عن صميم الموقف المبدئي للمثقف العضوي.
إنّ المثقف—بمعناه الغرامشي العميق—ليس محض كائنٍ يلوك المصطلحات ويتنقل بين النصوص، بل هو حاملٌ لرسالةٍ تضطلع بكسر الاحتكارات المعرفية وإعادة توزيع الوعي كحقٍّ للجميع، لا كسلعةٍ يُتاجَر بها في مزاد الصفوة. وإنني إذ أتناول صحيفة المثقف بالنقد، لا أنطلق من موقع الندّية العابثة، بل من إيماني بأن النقد—في جوهره—ليس إلّا فعل حبٍّ شديد التطلّب، لا يرضى بما هو قائم لأنه يؤمن بإمكان ما يجب أن يكون.
وإني إذ أُمنح هذه المساحة لأمارس فعلي النقدي داخل هذا الفضاء، أجد نفسي أمام تناقضٍ لا بدّ من الاعتراف به: كيف لمن يمارس النقد الجذري أن يقبل باستضافةٍ في ذات المنبر الذي يواجهه بالسؤال؟ لكنّ هذا التناقض ليس مما يُخيفني، بل هو عينه ما يؤكد الحاجة الملحّة لفحص الحدود التي تقف عليها الصحافة الثقافية في عالمٍ باتت فيه الفجوات بين الفكر والمجتمع أكثر عمقًا.
إنّ مشكلة المثقف لا تكمن في غياب المحتوى، بل في طبيعة الخطاب الذي يكرّس المسافة بين الكاتب والقارئ، بين الفكرة وواقعها، بين التنظير وإمكانات التفعيل. ففي كثيرٍ من الأحيان، تظلّ المقالات محصورةً في سياقاتٍ أكاديميةٍ تجريدية، تصوغ المعضلات بمنطق المغلق على ذاته، دون أن تمتلك نَفَس النقد الذي يغامر بالدخول إلى عمق الفوضى ليعيد تشكيلها.
وإنني إذ أؤمن بأن الفكر لا يُختزل في المخرجات النصيّة وحدها، بل هو فِعلٌ تغييريٌّ بالأساس، أجد نفسي متسائلًا:
كيف يمكن لمشروعٍ ثقافيٍّ أن يبقى حبيس دوائر محدودة من التلقي دون أن يُعيد مساءلة شروط خطابه؟
كيف تُبنى الصحافة الثقافية على دعوى الانفتاح بينما تبقى محصورةً في ترديد ذات الأسماء وذات المفاهيم، كأنّ لا خارجَ ممكنًا لهذا النسق؟
لكن، إن كان لي أن أُوجّه السهام، فلا ينبغي أن أكتفي بتوجيهها نحو الصحيفة وحدها، بل لا بدّ أن أوجّهها نحوي أيضًا. فأنا، في نهاية الأمر، جزءٌ من هذا الفضاء، شريكٌ—بوعيٍ أو بغير وعي—في إنتاجه وإعادة إنتاجه.
فهل يكفي أن أنقد المنابر الثقافية وأنا أستثمر وجودي فيها؟
هل أستطيع التبرّؤ تمامًا من النخبوية التي أُدينها، وأنا أمارس الكتابة بأسلوبٍ لا يبرأ هو الآخر من تعقيدٍ يجعل الوصول إليه محفوفًا بالمجازفات؟
إنّ الكتابة، في جوهرها، هي موقفٌ مزدوج: ممارسةٌ للمعرفة، ومساءلةٌ لا تنقطع عن طبيعة هذه الممارسة. وإن كنت أتمسّك بدوري كمثقفٍ عضوي، فلا ينبغي أن أرى نفسي فوق النقد، بل عليّ أن أسائِل ذاتي بالقدر ذاته من الحِدّة التي أُسائل بها الخطابات الأخرى.
إنّ الالتزام بالمثقف العضوي ليس شعارًا يُرفع، بل امتحانٌ عسيرٌ يتطلّب من صاحبه أن يبقى في اشتباكٍ دائم مع الواقع، لا أن يتحصّن خلف المفاهيم. وإنني إذ أكتب الآن، لا أُحاول أن أُبرّئ نفسي من التعقيدات التي تحكم وضعي ككاتب، لكنني على الأقل أضع هذه التناقضات في الضوء، بدلاً من أن أُداريها تحت لافتاتٍ برّاقة عن التنوير والمقاومة الثقافية.
وإنّني إذ أُمارس هذا النقد، أُدرك أن لا خلاصَ فرديًا في معركة الفكر، وأنّ كل محاولةٍ لإنتاج خطابٍ جديدٍ تظلّ ناقصةً ما لم تنفتح على نقاشٍ أوسع، على جدلٍ لا يخشى الانهيار، بل يجعله وسيلته للوصول إلى أفقٍ أكثر رحابة.
ليست المثقف هي المشكلة في حدّ ذاتها، بل طبيعة الصحافة الثقافية ككلّ، بما فيها أنا وأنت والآخرون، بما فيها كل من ظنّ أنه يمسك بناصية الفكر وهو في الحقيقة لا يزال أسيرًا لأنماط التعبير القديمة.
فإن كانت هذه المساحة قد أتاحت لي أن أقول ما أقول، فذلك لا يعفيها من النقد، كما لا يعفيني من مسؤوليتي في أن أجعل نقدي متجاوزًا لحدود القول، متجذرًا في فعاليةٍ لا تكتفي بأن تُشير إلى المشكلة، بل تسعى لصنع بدائل أكثر حيوية.
هذا المقال ليس بيانًا ختاميًا، وليس حكمًا نهائيًا، بل هو محض استهلالٍ جديدٍ لسؤالٍ قديم:
كيف يكون الفكرُ فاعلًا، لا مجرد تكرارٍ لمرايا تُعيد انعكاس ذاتها بلا انقطاع؟
***
إبراهيم برسي