قضايا
محمد الشاوي: مَقامُ الفَيلسوف حيثُ أَقامَه

عزيزي القارئ المُحبِّ للحكمة.
أمّا بعد، يُذكر في تاريخِ الأغارقة قصصٌ وعبرٌ تُبذرُ في عقلك ووجدانك على حدٍ سواء. وفي هذا التاريخ مَعينٌ من دليل المبتدأ والخبر، لا ينضب من الحكمةِ والرشادِ والأمل. نسوقُ إليكَ أيها القارئ، مقام فيلسوفٍ عظيمٍ من الأغارقةِ الشامخين، عِلمًا وفهمًا وافهامًا وتفاهمًا. إنه فيلسوفٌ يَعلُو في سماءِ الحكمةِ الإغريقية ولا يُعلى عليه. ازداد بمدينة ستاغيرا عام 384 (ق. م)، عاش بأحضان محبوبته ورمز عطائه الفلسفي مدينة أثينا، وانتقل أيضا إلى مدينة أسوس، المدينة التاريخية التي انتصر فيها الإسكندر الأكبر على داريوس الثالث ملك الفرس عام 333 (ق. م). تتلمذ على يد الفيلسوف أفلاطون، فكان الأوّلَ على دفعته في الأكاديمية. فهل عرفتم من يكون؟
إنه الفيلسوف صاحب العقل الإغريقي الجبّار أرسطو، صاحب المقولاتِ، والتحليلات، وَواضع علم المنطق، والخطابة، والأخلاق... وعلوم ومعارف أخرى ذات الإرتباط بالطبيعة والإنسان. وهو مؤسّس "اللوقيون" أو "الليسيه"، المدرسة الفلسفية النموذجية التي بزغ فيها نجم التقليد الفلسفي المشائي الذي عُرف به هذا الفيلسوف.
أمّا بعد، أسوقُ إليك أيها القارئ الباحث عن الحكمة المُحبِّ لها والمُتلمسِ نفحاتها، قصةً طريفة، بطلها أرسطو وتلميذه الإسكندر المقدوني الأكبر، عظيم الأغارقة المُبجل الذي لا يهدأ له بال، ولا يرتاح له حال، إلا بجوارِ الفيلسوف المَشَّاء. فهل يَخفى على كاتبِ هذه السطور إنْ كانَ فاهمًا أن يُوصلَكَ إلى مرتبةِ الافهام؟ ولا على ساردِ هذه القصة إنْ كانَ مُقتنعًا بنور الحكمة الوضَّاح أن يَعجز عن الإقناع؟ فمُحالٌ مُحَالْ..!!
إليكَ بالقصة: كان للإسكندر الأكبر مجلسٌ في قصره، ذائع الصيت، وكان يُجلسُ على يمينه بهذا المجلس، أستاذه الفيلسوف أرسطو الذي أخذ عنه الحكمة والعلوم والمعارف، فجعله مقربا منه أينما حلّ أو ارتحل. وبينما يُجلسُ على يساره رئيس وزرائه، والرجل الثاني في الدولة بعد الإسكندر. وفي يوم من الأيامِ، تقدم إلى مجلسه أحد المُتزلفين من خُدّام الدولة الأوفياء، من الذين يُبدون لكَ غِيرتهم على هيبة الدولة حسب زعمهم الكاذب المُريب، ونِفاقهم الخبيث الذميم. وأمثال هؤلاء وَأُولئك، ممن يُظهرون تَزلفهم للبلاط على طريقة الذئاب التي تتخفى بدُربةٍ ومهارةٍ وإتقانٍ خلف رداءِ المكر والخداع، وتُظهر لكَ بُرقع الطهارةِ والصفاء.. وما أكثر هؤلاء المنافقين داخلَ بلاطِ الحُكَّامِ وخارجه! هُمْ خُدَّامُ الأعتاب الأوفياءِ الصلحاء، الظرفاءِ الأسوياء..!!
اقترب الرجل المُتزلف، وهو يحيي الإمبراطور بابتسامةٍ ماكرة مرسومة على فكيه، مُكشِّرًا عن نابيه، مُطأطئًا رأسه في تذلل وتواضع، غير مُظهرٍ لذيلهِ الطويل المَلْفُوفِ على بطنه، وهو يمشي على حافريه. عوى المتزلف الذئب قائلا:
- سيّدي الإمبراطور! إسكندرنا الأكبر المقدوني المُعظم المخلّد!
أتسمح لي سيدي بطرح سؤالٍ نابعٍ من غيرتي على دولتكم.
- تفضل خادم أعتابنا الذي يغار على هيبة دولتنا.
- نعم سيدي! أعزتكم الآلهة وباركتْ إمبراطوريتكم!
- قلتُ لكَ سلني يا هذا..!! ماذا تريد أن تقول؟ بدون كثرة المقدمات..!!
- حسنا مولاي! كيف تضعون في مجلسكم المُوقر المبارك هذا، على يمينكم، وعلى مقربة منكم، الفيلسوف أرسطو، وعلى يساركم خادمُ الدولة رئيس وزرائكم؟
كيف يُعقل يا مولاي الإسكندر الأكبر أن تُعلونَ شأنًا من الذي ليس بممثلٍ للدولة والسلطة، وتُقلون شأنًا من رئيسِ وزرائكم الذي جعلتموه في هذا الموضع منكم؟
عفوًا يا مولاي.. أعتذر لجنابكم العالي بالآلهة على تطفلي.. إنّني فقط أتحدثُ عن هيبةِ دولتكم وعظمة مجلسكم الذي نعتبره جزءًا لا يتجزأ من إمبراطوريتكم المُمتدة حتى أطراف الأرض.
ابتسم الإسكندر المقدوني للسائل المُتزلفِ خادم أعتاب البلاط بسخرية وهو يبدي استهزاءه لغيرته المبالغ فيها على دولته، مستهجنًا كلامه ثم أجابه:
ـ اعلم أن رئيس وزرائي الذي تتحدث عنه، أستطيعُ أن أصنع منصبه هذا بمرسومٍ مني لا يأخذ مني غير سطرٍ أمليه على كاتبي، فيكتبه على جلد غنم أو ماعز على حد سواء!
ولِمَ أُكلّفُ نفسي عناء إملاء السطر؟
بل بكلمةٍ واحدةٍ أتلفظها، فآتي بآخر جديد على المقاس الذي أختاره لكي يحل محله وأُجلسه على يساري بمجلسي. إنّه بإشارةٍ مني يكون ذلك. أصنعُ ما أريد. وأنتَ أيضا لو كنتَ مكاني لاستطعتَ القيام بنفس الشيء. وكما قلتُ لكَ فالمسألة ها هنا لا تستدعي صعوبة إخراج القرار أو حتى العمل على تنفيده..!!
أمّا أرسطو فمن هذا الذي يستطيعُ أن يصنعَ مثله؟
هل يا تُرى بمرسوم؟ أم بسطر؟ أم بإشارةٍ مني...؟
ثم اعلم يا هذا أنّني أستطيعُ أن أُلغي رئيس وزرائي بنفس الطريقة التي أخبرتكَ بها قبل قليل.
أمّا أستاذي أرسطو فمن هذا الذي يستطيعُ منا أن يُلغيَ منصبه ومكانه؟
وأنا نفسي باستطاعة الشعب أن يثور عليَّ فينقلب ضدي، ويتم إبعادي عن الحكم فأصير مجرد رجلٍ عادي مثلي مثل أي مواطنٍ إغريقي..!!
أمّا أرسطو فمن منا يستطيع أن يجعله رجلا عاديا..؟!
إنّه كالآلهة! نعم كالآلهة! لا يد لنا في صُنعه أو إلغائه! لذلك فهو دائمًا الأعلى مرتبة منا جميعا.
بُهتَ المُتزلف واحمرَّ وجهه وجحظتْ عيناه في مجلس الإسكندر، وكأنّه استشعر صفعةً كالسيفِ القاطعِ، فازورَّ من لهيبها ثُمَّ تجمَّع وانصرفْ!
هكذا أيها القارئ كان مقام أرسطو عند الإسكندر المقدوني الأكبر عظيم الأغارقة. إنه مقامُ الفيلسوف حيثُ أَقَامَهُ بنفسه وعِلمه وأخلاقه، وشَهِدَ له بذلك تلميذه الإسكندر الذي شدّ به أَزْرَهُ، فكان الفيلسوف له عونًا على الحكم ومُوجِّهًا لسياسته داخل إمبراطوريته التي اممتدتْ حتى بلاد فارس. ولا عزاء أيها القارئ لمن ينكَّر لأستاذه ويرتمى في أحضان الانتهازية والوصولية لقضاء مآربه..!! وما أكثر هؤلاء بحكم وجودهم على سطح الأرض في صنعِ تاريخٍ بشريٍّ مِلؤه التملق والتزلف، وبما في هذا التاريخ من مُيوعةٍ مُبتذلة، ونفاقٍ مشروع، وكذبٍ مُباح..!!
لذلك أيها القارئ المُحبِّ للحكمة،
لا تستغرب إن وجدتَ الناس يجعلون من كلِّ جَرْوٍ وعْواعٍ إلا وله رأي ومعرفة وصوت وفلسفة وشعر...!!
عجبي لمن يريد من هؤلاء الانتهازيين أن يَسلب النار حرارتها والريح عصفها والشمس نورها، والذي لا نرى فيه إلا تفاهةً تَستتير بمِعطفِ المعجبين والهاتفين المُذكِّينَ للأنانية الهمجية وحبِّ الذات إلى درجة أن صارتْ نظرة المتعجرفين صغيرةً جدًا لعظمة الكونِ اللامحدود، وفي مقابل ذلك صارتْ نظرتهم كبيرة جدًا لذواتهم إلى درجة النرجسية والعياد بالله..!!
وقد صدق أرسطو عندما رد على هؤلاءِ المتعجرفين قائلا: "إن المعرفة تجعلنا متواضعين لأننا ندركُ بواسطتها مدى عظمة الكون وصغر أنفسنا".
وبعد، فَلْيُبَارِك كلُّ مُحبٍ للحكمةِ هذا الفيلسوف مباركةً تُخلِّدُ ذِكراه في سماءِ الفكرِ الإغريقي، ثُمَّ عليه وعلى سيرته العطرة أسمى عباراتِ التقدير والاعتزاز.
***
بقلم: محمد الشاوي