قضايا
إبراهيم برسي: ما بعد الحداثة في مواجهة المقدس.. هل يمكن للعقل العربي أن يتحرر؟

العقل العربي، كمنتج تاريخي وسياسي، ظلّ خاضعًا لبنية سلطوية معقدة تتجاوز الأنظمة السياسية إلى أنماط التفكير والسرديات المهيمنة التي تمأسست عبر قرون من الاستلاب. إن هذا العقل لم يتشكل في فضاء حر، بل صيغ عبر أجهزة أيديولوجية متشابكة، تضافرت فيها السلطة السياسية، والدين المُمنهج، والمؤسسة العسكرية، والاقتصاد الريعي، لتخلق ذاتًا عربية هشّة، مستلبة، محاصرة بسرديات قسرية تمنعها من الانخراط في مشروع نقدي جذري.
هذه الهيمنة لم تقتصر على الجماهير، بل امتدت إلى المثقف الذي كان من المفترض أن يكون القادر على تفكيكها، لكنه في الغالب استحال إلى كائن مُذعن، خاضع، يكرر ما تنتجه المؤسسة بدل أن يكون قاطعًا معها. لكن هذا الاستلاب لا يمكن قراءته فقط من خلال المنظور السياسي، بل يجب فهمه أيضًا كنظام نفسي معقد، حيث يتحول القمع الخارجي إلى جزء من بنية اللاوعي، فتتم عملية ضبط الذات ليس فقط عبر القوة المباشرة، بل عبر آليات داخلية تجعل الفرد يتماهى مع القامع إلى حدّ الدفاع عنه.
وهنا يمكن استدعاء تحليل فرويد حول “الأنا الأعلى” بوصفه سلطة داخلية تتولى تأديب الذات، أو ما يسميه ألتوسير بـ “الاستدعاء الأيديولوجي”، حيث يُعاد إنتاج القمع داخل الفرد ذاته، لا عبر العنف فحسب، بل عبر منظومة القيم التي تفرض نفسها بوصفها طبيعية وغير قابلة للنقاش.
هذا الاستلاب يبدأ منذ اللحظة الأولى التي يُوضع فيها الفرد داخل منظومة تعليمية مُصممة لإعادة إنتاج التراتبية، لا لتحديها. المدرسة ليست فضاءً للشك، بل مصنعًا لإنتاج الامتثال، والجامعة ليست ساحةً للسؤال، بل مسرحًا لاستعراض الهيمنة وإعادة توزيعها.
هذه السيرورة تجعل العقل العربي غير قادر على إنتاج نقد ذاتي، لأنه غارق في تصديق السرديات الكبرى التي تصنع له وهم التفوق أو الاستثناء، رغم أنه في جوهره يعاني من هشاشة بنيوية تجعله غير قادر على مجابهة الأسئلة الوجودية للحداثة وما بعدها.
هنا يمكن الاستفادة من تحليل جان بودريار لفكرة “المحاكاة”، حيث لا يعود العقل العربي يعيش في واقع حقيقي، بل في محاكاة لواقع مصطنع تخلقه الدولة ووسائل الإعلام والمؤسسة الدينية، بحيث يبدو كل شيء طبيعيًا، حتى لو كان قائمًا على التزييف.
في هذا السياق، يصبح الخطاب الديني أداة حيوية لاستمرار الإذعان، ليس بوصفه دينًا قائمًا على تجربة روحية فردية، بل باعتباره جهازًا سلطويًا يُستخدم لإعادة إنتاج الطاعة، بحيث يُختزل الدين في سردية رسمية تُعادي النقد وتُعيد إنتاج المقدس في قالب يخدم البنية السلطوية.
وهنا لا يمكن الحديث عن العقل العربي دون استحضار مفهوم الهيمنة لدى غرامشي، حيث تصبح الأيديولوجيا وسيلة لضبط الجماهير عبر الاستيلاء على وعيها، لا عبر القمع المباشر فقط، بل عبر خلق منظومة تجعل الاستلاب يبدو طبيعيًا، بل مرغوبًا.
فالفرد العربي، وقد تشبّع بهذه البنية، يمارس نوعًا من الطاعة الطوعية، ليس خوفًا فقط، بل لأن أي محاولة للخروج على هذه السرديات تجعله في مواجهة الفراغ، حيث لا بديل جاهز سوى إعادة التفكير في كل شيء، وهذه مهمة مرعبة لمن نشأ على تقديس الموروث بوصفه يقينًا لا يُمسّ.
هذا ما يجعل السلطة أكثر فاعلية، حيث لا تحتاج دائمًا إلى ممارسة العنف المباشر، بل يكفي أن تجعل الجماهير ترى في الخضوع شكلًا من أشكال الهوية والانتماء.
هنا يظهر دور الجيش، ليس فقط كقوة قمعية، بل كمُنتج للسردية القومية التي تبرر وجوده كفاعل مقدس لا يخضع للمساءلة. فالأنظمة العربية لم تكن مجرد ديكتاتوريات عسكرية، بل كانت آلات ضخمة لإنتاج سرديات الاستثناء، حيث يصبح الجيش هو الحامي، والقائد هو الرمز، والمثقف هو المُبرر، والعدو هو الآخر المتخيل الذي يُعاد تشكيله حسب الحاجة السياسية.
وبهذا يصبح نقد السلطة ضربًا من الخيانة، حتى عند أولئك الذين يُفترض أنهم امتلكوا أدوات تفكيكها. من هنا يمكن استدعاء تحليل دولوز وغوتاري حول “آليات السيطرة”، حيث لم تعد السلطة في العالم الحديث مجرد قمع مباشر، بل تحولت إلى شبكات متداخلة من الضبط والإنتاج، حيث يصبح المثقف ذاته جزءًا من هذه المنظومة، إما عبر التواطؤ، أو عبر استدراجه إلى دوائر أكاديمية معزولة عن الفعل السياسي الحقيقي.
المثقف العربي، الذي كان من المفترض أن يكون في موقع المواجهة، ظل في الغالب عالقًا بين التواطؤ الصريح أو الصمت المُطبق. ربما لأنه، كما يرى فوكو، ليس كائنًا خارج السلطة، بل هو جزء من نظام إنتاج المعرفة الذي يحدد ما يُقال وما لا يُقال.
هذا يفسر لماذا ظل أغلب المثقفين يمارسون خطابًا دوغمائيًا، حتى عندما يرتدون قناع التقدمية. فهم إما موظفون لدى السلطة بشكل مباشر، أو خائفون من أن يُسحب الامتياز الرمزي الذي تمنحه لهم الدولة بوصفهم “مثقفين معترف بهم”، أو غارقون في ترف التحليل الأكاديمي المعزول عن الفعل السياسي.
وهنا تظهر المفارقة التي أشار إليها بيير بورديو حول “رأس المال الرمزي”، حيث يصبح المثقف خاضعًا لمنظومة السلطة لأنه يسعى إلى الحفاظ على مكانته، مما يجعله يعيد إنتاج الخطاب السائد حتى وهو يتظاهر بنقده.
لكن، وسط هذه العتمة، كانت هناك استثناءات. قلة من المثقفين حاولوا اختراق الجدار، من مهدي عامل إلى هشام جعيط، ومن صادق جلال العظم إلى نصر حامد أبو زيد، وغيرهم ممن دفعوا الثمن باهظًا لأنهم تجرأوا على خلخلة السرديات المهيمنة.
هؤلاء لم يكونوا فقط ضد السلطة السياسية، بل أيضًا ضد الذهنية القبلية والعشائرية التي تجعل المجتمع ذاته جزءًا من ماكينة القمع. فالثائر الحقيقي في العالم العربي لا يواجه فقط النظام، بل يواجه الجماهير التي تماهت مع القامع حدّ الدفاع عنه، كما رأينا في كل لحظة ثورية قُمعت بالهتاف نفسه الذي استخدمه القاتل.
إن هذه البنية المعقدة تجعل التحرر صعبًا، لكنه ليس مستحيلًا. ما يحتاجه العقل العربي اليوم ليس إعادة إنتاج ذات النخب الفاشلة التي صنعتها الدولة العميقة، بل ولادة مشروع ما بعد حداثي قادر على تفكيك كل شيء: الدولة، الدين السياسي، الجيش، المؤسسات الثقافية الرسمية، والأهم، نقد الذات بوصفها أيضًا جزءًا من المشكلة.
فالهروب إلى نظرية المؤامرة، أو تعليق كل شيء على شماعة “الخارج”، هو في ذاته شكل من أشكال إعادة إنتاج الهيمنة، حيث يتم إلغاء الفاعلية الذاتية لصالح خطاب الضحية.
لكن هذا المشروع لا يجب أن يكون مجرد هدم للسرديات القديمة، بل يجب أن يكون قادرًا على تقديم بديل، بديل لا يعيد إنتاج الشمولية في شكل آخر، بل يقوم على تحرير الفرد من كل وصاية، بحيث يكون قادرًا على إنتاج حقيقته الخاصة، بلا خوف، وبلا أوهام كبرى.
هذا البديل يجب أن يذهب إلى ما هو أبعد من المطالبة بإصلاح سياسي، ليصل إلى تفكيك عميق لكل البُنى السلطوية التي صاغت وعي الإنسان العربي منذ قرون، بحيث لا يكون التحرر مجرد شعار، بل تجربة وجودية كاملة تُعيد تعريف الذات والعالم.
***
إبراهيم برسي