قضايا
طه جزّاع: أوهام السلام

في كتابه "الفلسفة الرواقية" الصادر في القاهرة عام 1945 والذي كتب أكثر ابوابه إبان دراسته في جامعة باريس منذ منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، يقول عثمان أمين : يؤخذ على أفلاطون وأرسطو في مذهب الأخلاق أنهما لم يعرفا من روابط الصداقة والعطف إلا ما يكون بين المواطنين من أهل المدينة الواحدة، ولم يعمما صفة الإنسانية تعميماً تتخطى به حدود المكان والزمان، فحاول أصحاب الرواق القضاء على تلك العصبية، فأحلوا " الإنسان" محل " المواطن" ومالوا إلى اعتبار الإنسانية أسرة واحدة أعضاؤها أفراد البشر عامة أياً كانت نحلهم وألسنتهم وبلادهم. تلك هي " الجامعة الإنسانية " التي نادى بها الرواقيون، فلقد حملوا منذ القرن الثالث قبل الميلاد لواء فكرة السلم حين أهابوا بالإنسانية أن تحرر نفسها مما يفرق بين الأنسان وأخيه الإنسان، ونظروا إلى الناس جميعاً وكأنهم اسرة واحدة، قانونها العقل ودستورها الأخلاق. وفي القرن الثامن عشر، يطرح الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت مشروعه للسلام الدائم. انطلاقاً من عنايته الخاصة بموضوعة السِلم، وصياغته للمصطلح الذي أُطلق بعد وفاته بنحو ربع قرن على "عصبة الأمم"، ويقال أن الرئيس الأميركي ويلسون الداعي إلى انشاء عصبة الأمم كان يحتفظ لقراءاته اليومية بكتاب الفيلسوف كانت الذي نشره عام 1795 وأعلن فيه بوضوح أن انشاء حلف بين الشعوب هو السبيل الوحيد للقضاء على شرور الحروب وويلاتها، وقد بَسَّط في مشروعه الشروط الضرورية التي تجعل انتهاء الحرب ممكناً، ومنها إن معاهدات السلام لا تُعد معاهدات إذا انطوت نية عاقديها على أمر من شأنه إثارة حرب من جديد، وعدم السماح لأي دولة في حرب مع أخرى أن ترتكب اعمالاً عدائية من شأنها عند عودة السلم امتناع الثقة المتبادلة بين الطرفين، كالقتل والتسميم ونقض شروط التسليم والتحريض على الخيانة.
لكن لا عصبة الأمم منعت قيام الحرب العالمية الثانية، ولا الأمم المتحدة التي قامت على انقاضها تمكنت من صنع السلام الحقيقي بين الشعوب، وبقيت مآسي الحروب وويلاتها تشوه وجه العالم، وبقي السلام مجرد كلمات جوفاء في كتب الفلاسفة، فكانت مجرد دعوات وأمنيات وأوهام لم تجد لها نصيباً من التحقق على أرض الإنسان.
***
د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي