قضايا
قاسم حسين صالح: مع الدين.. ضد الدين (10): أبو حيان التوحيدي
أبو حيان التوحيدي (922 - 1023 م).. فيلسوف متصوف، عالم موسوعي، وأديب بارع.. لُقِّب بفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، والبلاغة وعلم الكلام، وتميزت مؤلفاته بتنوعها وغزارة مضمونها، وبأسلوبه الأدبي البارع الذي اشتمل على وصف للأوضاع العامة في عصره. ووصفه ياقوت الحموي في (معجم البلدان) بأن التوحيدي "لا نظير له ذكاء وفطنة، وفصاحة ولكنة، كثير التحصيل للعلوم في كل فن حفظه، واسع الدراية والرواية، فهو شيخ في الصوفية وفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، ومحقق الكلام ومتكلم المحققين وإمام البلغاء".
ويراه آخرون أنه كان المثقف "المحاصر المأزوم" بنكهة وجودية. وهناك من كتب عنه باعتباره نموذجًا مثاليًّا لحالة المثقف العربي "المتمرد" في القرن الرابع الهجري.. وعاش أغلب عمره الطويل في بغداد.. وأليها ينسب.
والمؤلم أن التوحيدي، الذي ألف "الإمتاع والمؤانسة" و"المقابسات" و"البصائر والذخائر"، أحرق كتبه في أواخر عمره ضنّا بها على من لا يقدّرها بعد وفاته، واشتكى من تجاهل إبداعاته ومن الفقر وقلة الرزق، وكتب لأحد أصدقائه يبين له أنه ليس أول من أحرق كتبه.. "فلي في إحراق هذه الكتب أسوة بأئمة يقتدى بهم".. أبرزهم سفيان الثوري، الذي مزق كتبه وطيّرها في الريح، وأبو عمرو بن العلاء الذي دفنها في باطن الأرض بلا أثر باق، وداود الطائي الذي "طرح كتبه في البحر وقال يناجيها: نعم الدليل كنت، والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول، وبلاء وخمول"، وأبو سليمان الداراني الذي جمع كتبه في تنور وسجرها بالنار ثم قال "والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك".
وذكر جلال الدين السيوطي في "طبقات اللغويين والنحاة" أن أبا حيان التوحيدي أحرق كتبه لمّا انقلبت به الأيام ووجد أنها لم تنفعه، فجمعها وأحرقها ولم ينج منها غير ما نقل أو تم نسخه قبل إحراقها. وروى التوحيدي عن شيخه أبي سعيد السيرافي، الذي لقب بـ"سيد العلماء"، أنه قال لولده محمد "قد تركت لك هذه الكتب تكتسب بها خير الأجل، فإذا رأيتها تخونك فاجعلها طعمة للنار".. ما يعني أن التوحيدي عاش مهمشا مغتربا كحال مثقفي هذا الزمان الأصلاء!
التوحيدي.. عالم كيمياء
قال عنه ابن خلدون "إنه إمام المدونين في علم الكيمياء، حتى إنهم يخصونها به فيسمونها علم جابر وله فيها سبعون رسالة كلها شبيهة بالألغاز"، وقال عنه أبو بكر الرازي "إن جابرا من أعلام العرب العباقرة وأول رائد للكيمياء"، فيما قال عنه القفطي إنه كان متقدما في العلوم الطبيعية بارعا منها في صناعة الكيمياء. وقيل فيه أيضا إن لجابر في الكيمياء ما لأرسطو في المنطق وإنه هو أول من علم علم الكيمياء للعالم.
زد على ذلك أن التوحيدي وصف بأنه أول من اعتمد المنهج العلمي التجريبي القائم على التجربة والملاحظة، واعتماد المنهجين الاستدلالي والاستقرائي، وأنه أحد أكبر طارحي وصائغي الأسئلة الوجودية والمعرفية في عصره، وكانت كتابته في زمنه كتابة تمرّد وجنوح وخروج عن مألوف الكلام ومكرور القول.
قادحون ومادحون
المفارقة في التوحيدي ان فلاسفة ومفكرين انقسموا فريقين (قادحون ومادحون).. اليكم نماذج منها:
- (الضال الملحد أبو حيان، علي بن محمد بن العباس، البغدادي الصوفي، صاحب التصانيف الأدبية والفلسفية، ويقال: كان من أعيان الشافعية... كان أبو حيان هذا كذابا قليل الدين والورع عن القذف والمجاهرة بالبهتان، تعرض لامور جسام من القدح في الشريعة والقول بالتعطيل). الحافظ الذهبي في (سير أعلام النبلاء).
- زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي، وأبو حيان التوحيدي، وأبو العلاء المعري، وأشدهم على الإسلام أبو حيان). ابو الفرج بن الجوز.
- (شيخ فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، ومحقق الكلام، ومتكلم المحققين، وإمام البلغاء، لا نظير له في الذكاء والفطنة والفصاحة.. كثير التحصيل للعلوم في كل فن حفظه، واسع الدراية والرواية، وكان مع ذلك يشتكي صرف زمانه، ويبكي في تصانيفه على حرمانه). ياقوت الحموي (معجم الأدباء).
- (كان فاضلاً مصنفاً وله الكثير من المصنفات الحسنة كالبصائر. وكان فقيراً صابراً متديناً صحيح العقيدة وكانت مبالغة عظيمة من الذهبي بوصفه لأبي حيان بأنه كان عدواً لله خبيثا.. تاج الدين السبكي في (طبقات الشافعية الكبرى).
***
أ.د. قاسم حسين صالح