قضايا

علي حسين: ماذا لو تحدث نيتشه مع دوستويفسكي؟

‏‏لا شيء يثير القارئ مثل اللقاءات الخيالية بين العقول العظيمة: ماذا لو تحدث انشتاين مع قدوته سبينوزا ؟ كيف سيكون ردّ فعل جين أوستن على داروين؟ هل سيطمئن ماركس لأحاديث ستالين عن الشيوعية؟ قالت سيمون دي بوفوار إن سارتر تمنى لو أنّه التقى بسيغموند فرويد، كان سارتر في الرابعة والثلاثين من عمره عندما توفّي فرويد، وكانت في رصيده ثلاثة كتب هي: (تعالي الأنا موجود)، (التخيل)، ورواية (الغثيان)، وبعد شهر من وفاة فرويد -توفي في 23 سبتمبر عام 1939- أصدر سارتر كتابه الرابع (نظرية الانفعالات)، وفيه يسخر من نظرية اللاشعور الفرويدية، فطبيعة الوجود عند سارتر هي الوعي «بشيء ما»، أما حالة اللاشعور، فقد كان سارتر ينظر إليها باعتبارها مظهراً من مظاهر سوء النية عند أصحاب مدرسة التحليل النفسي، ومحاولة لإنكار الحرية التي يجب أن نختارها لمصيرنا. كان سارتر يؤمن أن فرويد عبقريّ، لكن عبقريّته لم توصله إلى إثباتات لا يمكن دحضها، وإنما في الإقناع وجذب الأتباع.

‏من بين جميع الادباء والفلاسفة كان هناك رابط خفي لكنه متين بين دوستويفسكي ونيتشه، في كتابه عن نيتشه يؤكد الناقد " يانكو لافرين " انه من المعقول ان لايكون دوستويفسكي قد سمع باسم نيتشه.. لكن هل سمع نيتشه باسم دوستويفسكي؟ كانت المرة الاولى عندما عثر نيتشه عام 1886 اثناء تواجده في مدينة نيس الفرنسية وبالصدفة في احدى المكتبات العامة على مؤلفات دوستويفسكي..يكتب نيتشه في احدى رسائله الى احد اصدقاءه: " هل تعرف دوستويفسكي، ما من احد غير ستندال استطاع ان يرضيني ويهزني بالصورة التي نجح هو بالقيام بها، انه عالم نفسي، أنا على وفاق معه ".. وفي رسالة اخرى يبدي نيتشه اعجابه برواية " منزل الاموات " قائلا عنها انها اكثر الكتب الموجودة انسانية،بينما كرر اعجابه برواية " في قبوي " واشار في رسالة اخرى الى أن روايات دوستويفسكي " اثمن مادة نفسية عرفها وانه شاكر وممتن له "، وكان دوستويفسكي قد دعا الى تاكيد قيمة الذات الفردية التي حولها نيتشه فيما بعد ألى ارادة القوة، فقد اعلن على لسان ايفان في ا" لاخوة كارامازوف " ان الذات الفردية هي المنبع الرئيسي لافعالنا مهما بلغ سوء حظ الانسان ومهما اصابه الاذلال..يكتب عالم النفس الفرد ادلر ان: " اي انسان حساس ممن احسوا بمدى تنبه دوستويفسكي الى ما تتضمنه النفس البشرية من ميل الى الطغيان لا بد له من الاعتراف بضرورة اعتبار دوستويفسكي حتى ايامنا هذه معلما لنا، المعلم الذي حياه نيتشه ". لا بد كذلك ان يكون نيتشه قد قرأ رواية الجريمة والعقاب، ويجمع كتاب سيرة نيتشه ان سالومي الفتاة الروسية التي احبها نيتشه بجنون كانت هي التي دفعته الى معرفة الادب الروسي..فالواقع ان معظم الموضوعات التي عالجها نيتشه، كان دوستويفسكي قد كتب عنها شهادته، فهو عالم نفس ومريض نفسيا، ومن المؤكد ان فهمه للنفس البشرية قد ازداد عمقا بسبب طبيعته الخاصة ومرضه، وما مر على حياته من تقلبات بين النجاح والاخفاق، وهي الحياة التي وجد فيها نيتشه صدى لحياته، وهناك سمة مشتركة بين الاثنين وهي ان اعمالهما جاءت نتيجة للصراع الداخلي الذي كلن يعيشانه، فقد كان دوستويفسكي شكاكا غير مؤمن في داخله،يصارع بشدة من اجل الايمان، بينما كان نيتشه يحاول ان يستأصل آخر اثر ديني في داخله.. إلا ان الاهم بالنسبة الى نيتشه ودوستويفسكي هو ما يمكن ان نسميه الاهمية المطلقة للانسان في العالم والكون.. رفض دوستويفسكي ان يقبل بالوجود فارغا من رمز أعلى، ومن هنا محاولاته في تخطي شكه كي يصير مؤمنا بالمعنى الحقيقي، وفي حماسته للايمان، اضطر الى استكشاف مسالة الله من زاوية المؤمن وزاوية الكافر، ولهذا نجد ان دوستويفسكي يحاول التغلب على يأسه عن طريق التحول الى الدين، الى الله... يصرخ دوستوييسكي إذا كان الله غير موجود، فان كل شيء مباح، لكنه في الوقت نفسه كان يعرف انه حتى إذا كان الله موجودا، فان كل شيء يمكن ان يظل مسموحاً.. لن يوجد ضمير بدون الله حسب دوستويفسكي، رغم انه كان يعرف انه بين اولئك الذين يعبدون الله كان الكثيرون منهم بدون ضمير..ان ابطال دوستويفسكي لا يمزقهم التردد بقدر ما يمزقهم اليقين بموت الله والرغبة المستمرة لوجود نظام او قانون يعوض عن ذلك الغياب.

‏يكتب ه.د.لورنس ان ان حب دوستويفسكي للمسيح " يمتزج بكراهية منحرفة مسمومة للمسيح، وعداءه الاخلاقي للشيطان ممتزج بعبادة خفية للشيطان. ان دوستويفسكي دائما منحرف، وعلى الدوام مفكر شرير وكاشف هائل ".

‏تشكلت وجهة نظر دوستويفسكي للعالم وهو في سن التاسعة والعشرين من عمره، بعد ان واجه حكما بالاعدام خفف فيما بعد الى النفي الى سيبيريا.. انه الآن يُلقي نظرة جديدة على الحياة والعالم فهذه مدينته بطرسبورغ تبدو اليوم: " اكثر مدينة تربصا بالانسان على الارض.. انه يرى اليوم ان شيطان الثروة حقق سلطانه، وان المواخير وبيوت الدعارة حلت محل الكنيسة.. انه يعلن الحرب ضد ما اسماهم " ثاقبي الارض ".

‏" اصبحوا ما أنتم عليه"، وهو تعبير صاغه لأول مرة في وكان عمره 22 عاما. ولعل صنع الحياة الخاصة فكرة راودت نيتشه منذ ان كان في الثالثة عشرة من عمره..مثلما راودت دوستويفسكي. في احدى رسائله التي كتبها نيتشه في مرحلة الشباب يطرح سؤالاُ وجوديا: " لماذا خُلقت.. اكيد انني لم أُخلق إلا لألاحظ انني خدعت عندما خلقت هكذا "، فيما اعتبر نيتشه الصراع مع الحياة هو الوسيلة الوحيدة للصمود والنمو.. فيما دعا دوستوفيسكي ايضا الى كفاح متواصل من اجل التاكيد على القيمة العليا للحياة. وقبل موته باشهر كتب دوستويفيسكي في يومياته انه حدث مرة ان التقى الانسان بالإله، وسمى دوستويفسكي ذلك اللقاء، اللحظة الحاسمة في تاريخ الجنس البشري.

‏في كتابه فلسفة نيتشه يكتب المفكر الالماني" يوجين فينك " ان كراهية نيتشه الوحشية بل والشيطانية للمسيحية، لا يفسرها إلا عدم امكانه التخلص منها، ونقده للاخلاق، ودعوته الى اللاخلاقية، انما تفسر باستقامته المطلقة، اما تمجيده للقوة، فيرجع الى ضعف بنيته، وسقم صحته، فيما يعتقد كارل ياسبرز ان نيتشه يعبر عن ذاته الخاصة، لكنه يريد ان يجعل من ذاته الخاصة ذاتا كلية: " انني ابحث كيف تكون ماساتي،ماساة عامة ".

‏ان فلسفة نيتشه لا تخرج عن كونها تصويرا لماساة الحياة الحقيقية، ولدور البطل في هذه الحياة، الذي ينتصر على الآمها واحزانها، وهو يختلف عن باقي البشر، لكن هل هو نبي، ام حكيم، ام انسان فرد يبحث عن الحمكة في ذاته ؟.

‏يعتبر نيتشه انه يوجد شران يمنعان من بلوغ الحكمة ويجعلان الحياة الانسانية ذميمة: الماضي والمستقبل. ان بقينا مشدودين الى الماضي نسقط في الاهواء الحزينة ونتردى في الحنين والاحساس بالاثم او نكون في المستقبل، في الامل، في المثل الآتي الأعلى الذي يجعلنا بالذات نفرط في الواقع ويمنعنا من الاقامة في الحاضر، واذا كان نيتشه يريد تحطيم الاوثان، فليس فقط للتحطيم من اجل التحطيم، بل لإعداد حكمة اخرى، حكمة خاصة بالمصلحة، حكمة تقول نعم للعالم، تتصالح مع نفسها ومع العالم.

‏في هكذا تكلم زرادشت يذكر نيتشه ان في الماضي، يتمثل التجديف ضد الإله، ضد الدين، ضد اوثان المؤمنين المقدسة.اما من هنا فصاعدا، فسيقوم التجدبف في توجيه الاتهامات ليس ضد السماء، وانما ضد الارض: " ارجوكم بإلحاح ان تظلوا اوفياء للارض، ولا تعتقدوا في ما يقوله البعض عن الامل الفوق ارضي ".

‏لم يعتبر راسكولنيكوف بطل الجريمة والعقاب موت الإله أمراُ مسلما به فحسب، بل انه كذلك قسم الجنس البشري إلى صنفين " نحبة " من السادة، اقوياء الى درجة تجعلهم قانونا بانفسهم، في عالم لا إله فيه، وقطيع من الناس العاديين الذين لا عمل لهم إلا ان يتلقوا الاوامر وان يؤمنوا، وان يطيعوا.

‏يكتب نيتشه في اصل الاخلاق، ان الانسان يُفضل ان تكون له إرادة العدم، على الا تكون له إرادة بالمرة.

‏حمل نيتشه المطرقة ليواجه بها المعتقدات الدينية والاجتماعية، رفص الإله مثل ايفان كارامازوف عند دوستويفسكي، بحماسة، فايفان ثار بسبب آلام الاخرين، بينما كانت ثورة نيتشه منصبة على الالم الذي فرض عليه مواجهته، وكان من المفترض وهو المريض والعاجز ان يلتجيء الى الايمان من اجل العزاء والسلوى، لكنه لم يكن على استعداد للاستسلام او الخضوع، فقد اختار مثل ايفان طريق التمرد والعصيان، وعلى حد تعبير اويغن فنك في كتابه " فلسفة نيتشه "، لم تكن كبرياؤه تسمح له بان يهز ذيله امام الله، خاصة اذا عرفا انه كان يعتبر نفسه تدا له: " إذا كان هناك من آلهة، فكيف اطيق إلا اكون إها، اذن فليس هناك آلهة "

‏في روايات دوستويفسكي كما هو الحال في حياة نيتشه، نشهد التفاعل الغامض بين الروح والمادة والفكر والعمل، وشياطين العقل البشري، والمرض البدني والاضطراب الروحي، وألم المسيح الدائم مقابل معاداة المسيح. ونتذكر الرسالة التي كتبتها والدة راسكولنيكوف تدعوه فيها الى ان لايترك الصلاة لانها النجاة بالرسالة التي كتبها فرانزيسكا نيتشه إلى ابنها: "إذا كنت فقط سعيدًا، فعندها سنكون سعداء. هل تصلي لله،، كما اعتدت، وهل تؤمن بصلاح خالقنا ومخلصنا؟ أخشى في قلبي أن عدم الإيمان قد زارتك من جديد. إذا كان الأمر كذلك، أصلي من أجلك. تذكر، يا عزيزتي، في طفولتك، عندما كان والدك على قيد الحياة، كيف كنت تصلي جالسا على ركبتي، وكم كنا جميعًا سعداء بذلك ".

‏يخبرنا دانيال بلو في كتابه " تشكيل فريدريك نيتشه " ان صاحب "هكذا تكلم زرادشت عانى في شبابه من حالات صرع دون أن يفقد وعيه.

‏في كل قراءة لنيتشه نتوقف عند سؤال: عما إذا كانت الحيرة بين الخير والشر التي ادت الى جريمة راسكولنيكوف ؟، هي نفسها التي حثت نيتشه ان يحمل المطرقة لتهديم الماضي.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم