قضايا

مجدي إبراهيم: آفة الثقافة العربية

يغلب على استخدام كلمة (آفة) الجانب الأخلاقي ولا يغلب عليها جانب التحليل العقلي، فهل يُفهم من العنوان أن المقصود هو الحديث عن الأخلاق من حيث افتقار الثقافة العربية الى قلة العناية بالضوابط الخلقية؟

الحق أن الأخلاق جزءٌ لا يتجزأ من التفكير العربي لا ينفصل عنه ولا تنفصل هي عن سياقاته المعنية، ولكننا لسنا نقصدها بالمباشرة في هذا المقال، لأن ما ينطبق على الكل هنا ينطبق على الجزء بغير مراء؛ إذ الكل الذي سنتحدث عنه يشمل جزيئات الأخلاق وغير الأخلاق في مناقشة مسائل التقدّم أو التخلف في العقل العربي سواء.

وقد تناولنا في المقال اللاحق (التدّين والثقافة) حديثاً غير مفصول عمّا سنذكره تباعاً ما دمنا لا زلنا نطرح قضية تجديد العقل العربي، والخطاب الدّعويّ منه على وجه الخصوص في إطار تأصيلها واستنادها على العقل من جهة وعلى القلب من جهة أخرى. فإنّ العقل العربي بحاجة إلى إعادة صياغة في إطار بنيته الدينية التي تشكل بما يدع مجالاً للشك إحدى ركائزه الأساسية.

ولا خلاف على أن الدين - بقيمه ومعتقداته - هو لبُّ عملية التجديد والبناء، وأن الخطاب فيه ينبغي أن يقع دوماً تحت مبضع النقد الفاحص، لأن الخطاب الديني فيه يشمل تلك الأبنية ويدل عليها من حيث القوة أو الضعف، أو من حيث التسامح وقبول الآخر، أو من جهة التطرف والعنف ورفض المغاير المختلف، يدل عليها من أقرب طريق.

فإذا ارتفع الخطاب وترقى في ذاته ارتفعت قيمته في الناس وترقت في المجمعات، ودلّ من أقرب الطرق عن التعبير على تلك الحقيقة العليا المتسامية. وإذا هبط وانتكس هبطت معه القيم الدينية، ووصم الدين بما ليس فيه من جرّاء الخطابات المترهلة المنتسبة إليه، وهو في الغالب منها براء. وليس يقدح في الدين سوى الفهم المغلوط الذي يقترب من دواعي الانتكاسة والهبوط في رافدين عظيمين: رافد القلب الذي هو ممد الهمم بالإحساس والتبتل، ورافد العقل الذي يفند وينقح ويختار.

إنه؛ إذا كانت معاجم اللغة تشير إلى أن أصل (الوهم) هو التُّهَمة. والتهمة: هى توهّم الإنسان أن أخاه قد أساء إليه أو تجاوز حَدَّاً من الحدود، وأصلها الوُهَمة، وعلى ذلك يصبح الوهم تهمة ووهمة؛ فكل موهوم متهوم وكل متهوم متوهم أو موهوم؛ فإنّ ثقافتنا العربية على هذا الأصل متهومة عندنا؛ لأنها مؤسسة على الوهم مستندة على تصورات هى في الغالب قائمة على الوُهمَة.

آفة الثقافة العربية؛ إذا هى لم تستطع أن تفعِّل "عقيدة التوحيد" على صعيد التذوق والتبْصرة أو على المستوي العقلي والفكري والثقافي، وأن تصل من النزوع إلى الفصل والمباعدة إلى الانخراط في وجوب الوحدة بحيث تُقرن الأشباه والأضداد وتربطها بعضها مع البعض الآخر بما يجعل منها وحدة توحيديّة واحدة في غير تنافر تفرضه شكلية الأداء أو تناقض يجيزه منطق المحسوس …

أقول؛ إنّ آفة الثقافة العربية إذا لم تقتدر أن تجعل من التوحيد غايتها ومطلبها؛ فهى لا شك تنطلق في أغلب أحوالها وتعدد مواقفها من وهم، وتعود على وهم، وتتصور الحقائق على الجملة فضلاً عن التفصيل بفاعلية الوهم المعشعش في أدمغة منتجيها؛ ومنتجو الثقافة لا يبلغون من الحقائق المجرَّدة مبلغهم من العلم بفاعلية الوهم أبداً، وإنمّا يبلغونها بالتجرَّد وببذل النفس طواعية في سبيلها؛ لكننا محكومون في أفكارنا وآرائنا وأحكامنا ومنطلقاتنا الفكرية والشعوريّة بالهوى لا بالعقل المرّوض على التفكير البصير.

ومن شأن حكم الهوى أن يُملي علينا خيوطاً متشابكة ومختلطة بخليط عجيب من "الوهم"، ويظل الوهم يلفنا لفاً لا فكاك لنا من خيوطه الكثيفة المتشابكة، حتى ليملأ صدرونا بالتضخم، وعقولنا بالاعتقاد التقليدي المنبوذ، وذواتنا بالفراغ والسطحية، وسلوكنا بالتصرف الرزيل المشين، فيبدو كل ما نقوله أو نفعله إلى الوهم المتفشي في أعماقنا أقرب وأدنى من بلوغنا للحقائق التي يسبقها جهادُ للنفس شريف.

ومتى تغلغل الوهم في أفكارنا ومعتقداتنا؛ مضينا مع "الهوى" إلى غايته فيسوقنا الهوى إلى ضروب متشابكة لا شك فيها من الأنانية وحبّ الذات وتضخم الأنا … إلى كثير من الصفات التي يغلب عليها حُكمه فينا، ولا يغلب عليها فينا حكم العقل المقيّد بضبط الأهواء ومجاهدة الآفات، وبلوغ الحقائق من ثمَّ بمقتضى هذا الجهاد لا بفاعلية الهوى الذي يتحكم فينا تماماً كما تتحكم فينا العادات، والمألوفات، والمرذولات، تحكم الأغلال تغلنا عن الحركة، وعن الحرية، وعن الاعتقاد الحُر النزيه عن الأغراض:

اعتقاد التوحيد، وفهم التوحيد، وإدراك التوحيد، وتصحيح التوحيد، وتفعيل التوحيد في حياتنا الباطنة قبل الظاهر منها لبصر الشاهد العيان.

هذا هو الاعتقاد الذي يعلو متسامياً عن كل عقيدة مقيدة بقيود الوهم بلا هداية يرومها قصد السبيل؛ فنحن - والله - واهمون في أقوالنا وأحكامنا وثقافتنا وعقائدنا؛ لأننا محكومون فيها بالهوى، مسيَّرون فيها بالأنانية وحبّ الذات، ناشطون النشاط كله في بلوغ الأهواء منا مبلغ العقائد الثابتة؛ ونحن - في ثباتها وتحققها في الحق - واهمون !

فأي غربة غريبة تستشعرها الذات العربية أغربُ من كونها تنمي قدراتها على "الوهم" وتُرْبي إرادتها على الزيف؛ وتصل إلى الأمور من طريق "الوهم" لا من طريق "الحقيقة"، وتنطلق بادئ ذي بدء من حكم "الهوى" لا حكم "الإرادة العاقلة" ثم ماذا؟

فإذا بذواتنا العربية تتشتت وتتفرَّق حيث لا يجمعها رابط من التوحيد وطيد.

حتى إذا شئنا نقد أنماط التدُّين وجدنا من أكبر المشاكل التي تواجه ضمير المتدين: عزل التوحيد عن واقعات الحياة، حتى ليتسأل المرء إزاء هذه الانقسامات التي تشهدها صباح مساء: إذا لم يكن التوحيدُ معزولاً عن الواقع الديني أصلاً لما أضحى معزولاً كذلك عن الواقع النظري والفكري ثم الواقع الفعلي بكل ما فيه من تفرّق وتمزق وتشتت وانقسام !

الأمر الذي جعل الإيمان الديني لدى المسلم قشرة سطحيّة تخلو أو تكاد من المضمون العملي؛ ذلك "المضمون" الذي لا نشك لحظة واحدة في أنه ينتج لغة ومدنية وعلماً وفناً وحضارة؛ ولو كان تدينه بالفعل مرهوناً ببصيرة التذوق الدافعة إلى العمل والإنتاج؛ لربط كل الأشباه والأضداد وصعد بها عارجاً إلى توخِّي الوحدة.

ولكن الواقع الثقافي العربي الحالي يقول لك بأبلغ لسان: إن هذه البصيرة الذوقية مفقودة أو تكاد، هى مفقودة نعم ! وعندي من الأدلة على فقدانها أولاً قراءة هذا الواقع قراءة مستبصرة جيدة ومتابعة الأحداث الجاريّة فيه من قريب، والانغماس فيها، وتحليلها والوعي بملابساتها ونتائجها في العقل والشعور ....

وهى مفقودة ثانياً؛ لأنها في الأصل ما وجدت تامة، نشيطة، فعالة، وحيويّة، إلا في فرع واحد من فروع الثقافة العربية والإسلامية، وأعني به الفرع الذي يضم علوم التزكية سواء كانت تزكية خُلقية إنْ على مستوى الفرد، وإنْ على مستوى المجموع.

وهذه العلوم بالنسبة للوعي العربي والإسلامي كانت ولا تزال تمثل تراثاً مهجوراً، يُنْبَذ اليوم من العقل العربي كما كان قبلاً منبوذاً بالأمس؛ ولو قدِّر لهذا الفرع أن يجري في حياتنا الفكرية والثقافية مجراه الطبيعي، وأن يُنظَّر له كما نظِّر لفروع أخرى غيره، لكانت تلك "الرؤية الموحَّدة" أو أحادية الرؤية الغائبة عن ثقافتنا الإسلامية من أولى اهتمامات العقل العربي قاطبة: تنقذه من الضلال.

الواقع الإسلامي يغلي بالتيارات الإسلامية المتشددة المضطربة العفنة؛ والتي أساءت إلى الإسلام من حيث أرادت به الإحسان .. فهلا جربتم سماحة التصوف وهو مقام الإحسان في الإسلام؟

ماذا تقول يا رجل؟!

التصوف!!

ألم تقرأ اليوم في رسالة علمية ضخمة نتيجة غربية عجيبة يستخلصها باحث مفادها أن الغرب أهتم بنشر التصوف بين المسلمين لإسقاط العقائد الصحيحة! فأي تصوف هذا الذي تعوّل عليه طلباً للإصلاح؟!

ثم ألم يكن تديّن المتصوفة نمطاً كسائر الأنماط الثقافية التي تتخذ لنفسها شكلاً من أشكال التدين ينتهي آخر الأمر إلى توجّهات أيديولوجية؟ فلم تنحاز إليه رافضاً سواه، هل هذه موضوعية الباحث يتوخاها بغير تزيد ولا مبالغة؟

للقارئ الحق في أن تدور في أم رأسه مثل هذه التساؤلات. فأمّا عن تلك النتيجة الغريبة العجيبة المنقولة لا المستخلصة فهي نتيجة متخلفة غارقة في التخلف إلى أبعد الحدود، فضلاً عن كونها صدى لرأي مستشرق من جماعة المستشرقين الذين لا يؤخذ لهم رأي بغير نقد أو تمحيص؛ لأن المستشرقين الذين نشروا ذخائر التراث الصوفي والفكري، وقاموا بتعريف المسلمين بتراثهم العقلي والروحي هم أولى بتقديم واجب الشكر من نقيصة النكران ثم نأتي بعدُ لدراسة آرائهم مع ما فيها من غلو لنقدها وتقيمها لا أن نقول فيها ما يقوله الجاهلون المتخلفون.

غير أنهم - ما عدا القليل منهم - محددون سطحيون يحومون حول المسائل الحسيّة، ولا يتوسّعون في النظر أو يتعمّقون وراء الظواهر التي يلمسها شاهد الحسّ لمساً فلا تخرج عنده من حدود ما يثبته أو ينفيه من وقائع السّماع والعَيَان. والمعهود في جماعة المستشرقين أن الكثيرين منهم يقرنون سوء الفهم بسوء النية، لأنهم يخدمون سياسة المستعمرين أو سياسة المبشرين المحترفين، أو ينظرون في بحوثهم نظرة الغربي الذي ينظر إلى الشرقي نظرة المتعالي عليه في حاضره وماضيه.

وأمّا كون تدّين المتصوفة نمطاً ثقافياً كسائر الأنماط الثقافية الأخرى للتديُّن يجوز نقد خطابه تماماً كما يجوز نقد غيره من الخطابات، فهذا ممّا لا شك فيه عندنا، لكنه النقد الذي يفحص الفوارق بين الأنماط المختلفة ويقيس مقياس التدّين بمطابقته للاعتقاد الصحيح ولممارسته للقيم البناءة ...

ومن هنا يتميّز خطاب عن خطاب.

فالتسامح وقبول الآخر المختلف مثلاً فارقٌ نقدي ظاهر بين نمط ونمط؛ فإذا توافر في شكل من أشكال التدّين واختفى في سواه قبلنا ما هو متوافر ورفضنا النمط الذي يدعو إلى ضده، ويظهر نماذج التشدّد التي تخلف آثاراً سلبية وتضرُ بالعقيدة عموماً بمقدار ما تقدح في المنتسبين إليها من أقرب سبيل.

وعليه، فالمثقف الذي يدّعي أنه يتمتع بكل معطيات الثقافة الرفيعة؛ لن يكون مثقفاً - في تقديري - وهو يكره الثقافة العرفانيّة، ولا يريد شيوعها في بلادنا العربية مع أن التصوف الذي هو في الأساس ثقافة عرفانيّة تتأسس على المحبّة والمعرفة ليحمل بالمطلق خُلق الإسلام السّمح الطهور.

أما بقيّة فروع الثقافة الإسلامية؛ فهي على انتشارها وسعتها وكثرة الطالبين لها، الداعين إلى تزكيتها وتفضيلها، الآخذين على عاتقهم بفرضها قسريّاً على واقعنا الفكري والثقافي؛ فهي السبب المباشر في تعطيل النظر إلى "أحادية الرؤية"، فداعية إلى الفصل والمباعدة، وذاهبة إلى التجزيئية الغارقة في نفسها وعلى نفسها في غير معنى، والفاقدة لعناصر التجمُّع والائتلاف، والذاهبة إلى التفاصيل والجزئيات دون الارتداد إلى وحدة تجمعها في مبدأ واحد عام مشترك.

ما معني أن تكون متديناً بدين التوحيد الذي فطرت عليه تمارسه شكلاً دون أنْ تجريه واقعاً فكريّاً وثقافيّاً ومعنويّاً وروحيّاً؛ ليكون هو عينه مجري التجربة على المستوى الفعلي والتطبيقي؟!

ومع ذلك أقولُ؛ إن افتقار العربي المسلم المفطور على غريزة التوحيد لم يتمكن في ذاته أن يُفعِّل هذه الغريزة على المستوى العقلي والثقافي، ولكنه ينتكص على عقبيه ويعودُ أدراجه مستغرقاً في التجزيئية المُفرطة، ولم يهيئه توحيده الفطري لأن يجري عليه ممارسته العمليّة والواقعية؛ فأضحى تدينه في كفة، ونشاطه الفكري والثقافي والعلمي في كفة أخرى؛ فجاءت عقليته عقلية فصل ومباعدة لا ربط فيها ولا توحد بين أجزائها، وليس بمقدورها أن تصل إلى الوحدة التي هى غريزتها الأصيلة المفطورة عليها، لكأنما العربي لم يستطع أن يفهم: ماذا عَسَاهَا تكون غريزة التوحيد، وماذا عَسَاهَا كانت تكون فطرة الوحدانية؟!

لكأنه لم يستطع بعدُ - لأجل تدينه الساذج البسيط - أن يكوِّن لديه "رؤية موحَّدة"؛ يجريها على الواقع الفكري والنظري تماماً كما يجريها على الواقع الفعلي والتطبيقي كما هى مقرّرة قبلاً في الواقع الديني بالفعل؛ إذ إن فكرة "الرؤية الموحدة" تلك؛ إنمّا هى فكرة دينية بالأساس مصدرها الدين لا الفلسفة؛ فلو صحَّ أن الفلاسفة نادوا بها أو قصدوها فيما نادوا فهي مٌستلهمة من الدين؛ وليس للعقل فضل فيها إلا فضل الشرح والتحليل.

ليس صحيحاً أن العقل أنضج من القلب أو أصدق، بل الصحيح هو أن القلب أصدق من العقل وأنضج، ولو عرفنا لعلمنا أن العقول أدنى من القلوب؛ وأن حظنا من معارفنا القلبيّة أقل بكثير من حظنا من علومنا العقلية. (وكل كلام يبرز وعليه من كسوة القلب الذي منه بَرَز) كما تقول إحدى حكم المحققين النبهاء.

يصدر الكلام عن القلب وهو تعبيرٌ عمَّا في القلوب مباشرة، وإنما جُعل اللسان على الفؤاد دليلاً. حقاً صدق الله العظيم:" إنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور". وربك رب قلوب فانظر ماذا خالط قلبك؟ حتى إذا ما وجدت ما يُخالطه غير اعتقاد التوحيد وتطبيقاته الحيوية واقعاً يجري في الناس فاعلم أن ثقافاتهم آفات وجل حركاتهم وسكناتهم تقليد يجر وراءه التقليد وهو أسُّ البلاء وآفة الآفات.

وليس صحيحاً أن كفة العقل هي على الدوام في رجحان؛ بل القلب أرجح في أغلب الأحوال. القلب دليل العقل في أكثر الأحايين؛ وعمى القلوب أشدُّ وأنكى من عمى العقول والأذهان.

***

د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم