قضايا
محمد فراح: خَوَاطِرُ حول الظُّلْمِ الإجتماعي
يشير الظلم في الخطاب الإجتماعي إلى مجموع الممارسات التي تخترق الفرد وتسلبه القدرة على الفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف والمبادرات الفاعلة لصالح الجماعة، مما يخلق تجاوزات عبثية داخل المجتمع.
فيمثل بذلك الظلم حدود كل فاعلية إنتاجية خلاقة وواعية ليؤثر بشكل سلبي على الحرية.
والظلم من هذه الناحية ضد كل فاعلية اجتماعية وقيمية لأنه يُحِدُّ حرية الأفراد ويشعر المظلوم بأنه عبد في يد الظالم، فيخلق التوتر والقلق والملل بين الأفراد من حيث كونهم أشخاصا مجردون.
وإرادة الظلم تكرس الاختلال بين قوى المجتمع، مما يتيح انعدام قبول واحترام حرية كل فرد ككيان مجرد، فيكرس بذلك لمجموعة من المفارقات والتناقضات التي توسع من تعارض الأفراد فيما بينهم.
ويحمل الظلم مجموعة من التقابلات تعكس مطاطيته وتعقيده. قوته وغناه: فهو يعبر عن الجهل والقسوة وعن القوة المؤسسة والمشروعية وعن الوضاعة، واليأس والخيبة والعنف والاحتيال والذاتية والاستبداد ... إلى آخره.
ويمكن إرجاع الظلم إلى حالة الطبيعة أو حالة التوحش أو يمكن كذلك اعتبار أن مستوى ثقافة المجتمع هي أفضل تعبير عن هواجسه وانشغاله الأساسي بالفاعلية الإنسانية.
فالظلم تعبير عن شيمة الشيم، وحقيقة إنسانية الإنسان التي يدعيها، ومظهر من مظاهر الحقارة والخضوع والخنوع والسفول والخساسة والنذالة والمهانة والذل والتذلل، ولهذا من الضروري دراسة أبعاده: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والقانونية ...
إن كل كلام عن الظلم هو كلام عن الإنسان لأن الحيوانات لا تظلم بعضها البعض من قريب أو من بعيد، لهذا من المنطقي إيثار نقاشات عن ما يحمله من أخطار ومعيقات، إن كل تفكير فيه لابد وأن يثير تساؤلات حول مصدر جاذبيته والأساس الميتافيزيقي الذي يقوم عليه، فالظلم كرذيلة الرذائل يشكل أصل كل الشرور الاجتماعية، إنه المحرك الأول للأفراد والمجتمع والدولة.
إن كل كلام عن الظلم إذن لا يستقيم، من وجهة نظر فلسفية، إلا في حدود ارتباطه بالإنسان وبما له علاقة به، يمكن في هذا الصدد النظر إلى علاقة الإنسان بالطبيعة والحيوان على أنها علاقة ظلم، وهذا ما أثار حفيظة المدافعين عن حقوق الحيوان، والبيئة.
إذا كان الشر كمبدأ قد أصبح مكسباً لا يثير أي جدال أو سجال، فلا يمكن اعتباره سوى دليلا قويا على بداوة الأمم، كما أن الأسس التي يقوم عليها تعكس القوى العمياء: الغرائز والنزوات والميولات والممارسات المشينة التي تتحكم فيه، وتتغير أوضاع الظلم بتغير ميزان القوى ولا يمكن للحرية المفرطة والظلم بهذا المعنى إلا أن يكونا مصدراً للشر.
إن الإنسان لا يعرف حقا غير قوة الظلم ولا يعرف ماهية وحقيقة العدل ولا رحمة الضعيف.
والشر المتأصل في الطبيعة الإنسانية يكمن في كون الفرد يتوهم الحرية في فعل كل ما في استطاعته للحفاظ على غريزته الخاصة حتى ولو كان ذلك على حساب الآخرين.
ولربما كان الظلم والأذى والاجحاف والاستبداد والإضرار والتجاسر والتحكم والتسلط والتعدي على الغير والتعسف وتعذيب الآخرين والحيف في الحقوق وشطط استعمال السلطة وضيم الناس وطغيان الرياسة وعسف الأفراد وغصبهم على الخضوع وقهرهم واهلاكهم، ... إلى آخره، غالباً على الطبيعة الإنسانية، لأن إعطاء الظالم الحرية في فعل ما يريد سرعان ما ستؤدي به أهوائه إلى اغتيال الناس واستمالة النساء والغلمان والاستيلاء على السلطة.
ليس الشر سوى رذيلة في نفوس الأفراد والظلم يرتكب عبر التاريخ حينما تتوفر شروط وظروف ارتكابه.
فكل فعل إنساني هو فعل يبحث عن مبدأ لتبريره ويكمن الظلم في الحرية التي يتمتع بها الإنسان في أن يفعل كل ما تقتضيه صيانة حياته ومصلحته، والتي ستؤدي بالضرورة إلى نشأة الحروب والصراعات بين الناس، فالإنسان قادر بقدرة قادر على إستعمال كل الوسائل والأدوات والمعارف والمباحث المتاحة لديه من أجل المحافظة وتحقيق غريزته الخاصة.
إن الإنسان وككل كائن عاقل يسلك في حياته طبقا للقوانين التي وضعها سلفا، والتي توفر له قدرات يكون الظلم بالنسبة للذات مطابقا لقدرتها، بحيث يتحدد الظلم في الذات بقدر ما له من قوة، ويجد الفعل الإنساني تبريره في فعل الذات ذاتها، ويكون الشر بالتالي غير قابل للتجاوز إذ يبقى هو الوحيد الذي يحكم حياة البشر، فكل ما يراه الإنسان شراً تكون له القدرة على فعله إلا الخير.
وهذا الفعل الظالم هو ما يهدد حياة الإنسان واستقراره على الدوام. كما يدفعه إلى التفكير في أن يحيا حياة مطابقة لمقتضيات العقل، والتنازل عن جزء من حريته في حدود ما يسمح به العقل والتعايش مع الآخرين.
لهذا يجب على الإنسان أن يدافع عن كيانه دون تعد على الغير، لأن كل تعد عليه ظلم، والتنازل عن قسط يسير من حريته، اختيار أنجع للدفاع عن مصالحه.
يتوق كل إنسان إلى العيش في أمن وأمان مما يضطره إلى تجاوز حالة الظلم الحالية وتقبل فكرة التعايش والتضامن مع الآخرين.
كما يدرك الإنسان مصالحه في حالة اختيار العيش طبقا لمقتضيات العقل، ولن يحدث هذا إلا في حالة تجاوز حالة الظلم، ولا ننسى المنفعة التي نتبادلها مع جميع الأفراد، وتخلي الإنسان عن قسط من مبادراته وحرياته لسلطة ذات سيادة ومتعالية على الأفراد مما تجعله يردع كل مغامرة ويمنع كل تهور.
ورغبة الإنسان في التعايش والاحتكام إلى سلطة العقل، نتج في الحقيقة عن حالة التوحش التي عاشها ولازال يعيشها، كون الفرد مجبولا على التفردن لكن فرض عليه التعايش مع الغير، وترتب عن هذا إفلاس كل خطاب عن زوال الظلم، لأنه متجذر في الطبيعة الإنسانية ولا يستقيم إلا على حياة الأفراد الخاصة، إنه يترجم محورية الذات وأنانيتها المطلقة مقابل تساكنها مع غيرها من الذوات.
ومن ثم يكون أساس كل ظلم اجتماعي هو كونه ظلم محايث لطبيعة المجتمع الذي يتميز بخاصية الجماعة، ولا يعوض الأفراد في الأضرار التي قد تلحقه من جراء عبث الغير وهي ظلمات قد تشتت قدرات جميع الأفراد وتشجع على الثورات والانقلابات الاجتماعية.
لأن الإنسان لم يلج المجتمع من أجل أن يتعرض للظلم والاقصاء الإجتماعي أو لتسوء أحواله الفردية ويتعرض لظلمات المجتمع ويعيش حالة التوحش والجهل وعنف الذات والآخرين.
ولعل أهم ما يكسبه الإنسان من حالته الراهنة هي القيود الأخلاقية والقيمية التي تحد من حريته وتجعله عبد نفسه وشهوته، وهذا دليل على استعباده وامتثاله للقوانين الظالمة التي هي ضد الطبيعة وتحرم حقه في الحياة وفي الكرامة.
يرتبط الظلم كذلك بالثقافة ومن ثم لا يستطيع المظلوم المساهمة في اتخاذ الإجراءات والقرارات والمبادرات الفاعلة لصالح المجتمع، كما يسبب الظلم الإجتماعي حرمانه وتهميشه واقصائه من الخدمات التي تقدمها الدولة.
يمثل الظلم معياراً أو نسقا تراتبيا يحتل المظلوم مكانة محددة لا قيمة لها إلا داخل هذا النسق، والظلم هو تعبير لصالح القوة والاختلال الديناميكي الذي يقوم عليه كل مجتمع، وقيام الحياة الاجتماعية على الظلم يعني عدم خضوعها لأي قانون أو ضابط يؤطر سلوكات وتصرفات وأفعال وأفكار الأفراد وعلاقاتهم الاجتماعية ويترجم الظلم إلى حالة قاهرة معيشة.
وينتج الظلم عن حرمان الأفراد من قدراتهم الفعلية على الحياة وفقا للعقل السليم، ومن ثم لا يستطيع المظلوم العيش طبقا لقوانين الذهن الصحيح.
إذ أن الظالم لا يقتصر تفكيره على قوانين العقل الإنساني ويعمل جاهدا على جلب الضرر الحقيقي للأفراد وتعريض حياتهم للخطر.
والواقع أن المظلوم يعيش في حالة قلق وسط العداء والكراهية والغضب والمخاتلة والخداع، ويواجه شقاءً عظيماً ويظل عبداً لضرورات الحياة إن لم ينمي عقله ويحرره من الاستبداد الذي يخضع له.
إن أقوى الناس لا يكون قويا بالشكل الذي يمكنه من أن يكون دائما سيدا على الآخرين ما لم يحول قوته إلى شر وظلم الآخرين، ويبتز في الوقت نفسه مصالح الأغيار من أجل التمهيد لاستعبادهم واستبدادهم، هكذا يفكر الظالم والطاغية، وينظر إلى الظلم والشر شيئا واحد، ويؤكد على أن القوة تخلق الظلم لهذا وجب على الكل الخضوع له.
يستطيع الظالم من خلال الكلام والخطاب أن يجلب الناس ويغويهم لصالحه، عبر إيهامهم أن الكثير من المشاكل سيعمل على حلها بواسطته، وبالتالي لا ولن يستطيعوا الاستغناء عنه، فيهرع جميع المظلومين إلى أغلالهم، وهم يعتقدون أنهم يضمنون بذلك حريتهم، لو كان لديهم اليسر القليل من العقل لأدركوا خطورة الظالم وثاروا عليه، والتضحية بكِسْرٍ من الحرية حفاظا على الحياة ما هو سوى استعداد قبلي لعيش حياة أبدية رغيدة بالظلمات.
وفي زمن الظالمين سجن الضعفاء وهم أحرار بقيود جديدة، ومنحت الظالم قوة وحرية جديدين، فاستحالة الحرية في عصر الظالمين استحالة نهائية، وامتد التفاوت بين الطبقات الاجتماعية، وتعرض المظلومين للاغتصاب اللبق في حقوقهم وحرياتهم، وخضعوا بالتالي إلى السجن الأبدي والعبودية المختارة والبؤس والتعاسة والشقاء الدائمين لصالح طموح وأطماع الظالم.
إن الظلم الوحيد فعلا هو ذلك الذي يكون ضداً لمقتضيات العقل القويم ويفرض على الأفراد انتهاكا لمصالحهم الشخصية.
إن الدولة الظالمة هي الدولة التي تمارس بشكل عنيف سلطتها على الأفراد، وتحد من الحريات مما يؤدي إلى اختلال النظام السياسي وانغلاقه على مجال الحريات العامة.
إن سلطة الدولة الظالمة تتخذ ملمح خرق قوانين المجتمع وظلم الأفراد، كما لا تفصل بين السلط ولا تفرق بينها في الأساس.
كما لا نجد للأفراد أي حقوق تذكر داخل النظم السياسية الظالمة، وتظل لصيقة السلطة الاجتماعية التي تمسها وتطغى عليها.
ونحذر من امتثال الأفراد للقوانين الظالمة لأنها قوانين استبدادية وأكيد سيؤدي هذا بالضرورة إلى الانقلابات الثورية والحاق الأضرار بالمجتمع.
إن حالة الإنسان الذي وصفه طوماس هوبز بحالة "حرب الكل ضد الكل" في كتابه الشهير الليفياثان يعكس واقع الدولة الظالمة أو الحاكم الظالم المستبد بالأفراد.
لقد مثل الظلم دائماً استحضاراً للعنف وتمثيلا له، فالعنف لا يمكن أن يوجد إلا داخل الظلم، ويحث على ضغينة الانتقام، ولهذا وجب أن يبدو غير قابل للخرق، وبهذا المعنى تصون العقوبات العنيفة كيان الظالم، وتبين مدى شراسته وشراهته الخصيبة، لا يسعى الظلم إلى السلم بقدر ما يسعى إلى التأصل والتجذر في طبيعة المجتمع.
النظام الظالم هو كل نظام لا يضمن الحرية الفردية، وهو يفترض وجود مبدأ يقول بأن الإنسان يجب أن يكون عبدا، إنه يفترض هذا المبدأ بكيفية مباشرة، فلا يضمن الأمن والأمان والاستقرار الإجتماعي التي تدفع الفرد إلى تفضيل الخضوع على الحرية الفردية.
لكل مجتمع ظالم مثل وقيم ومعايير تتساوى في ذلك مع المجتمعات المتوحشة التي هي مجتمعات حزينة وكئيبة تعجز عن ممارسة كل تفكير نقدي، وأكيد أنه بمجرد التساؤل عن قيمة معايير وقيم المجتمع الذي نعيش فيه، سرعان ما يثبت وجود شيء ما في الإنسان يرفض رفضا قاطعا كل ظلم.
كما أن الأهواء تلعب دوراً مهما في حث الانتقام في النفوس وتجمل صفو الظلم وصبغة التعسف لأن الظالم ينساق دائما إلى العواطف والدوافع الذاتية، وهكذا يكتسي الظلم الذي يتخذ شكل الانتقام بدوره صبغة إساءة جديدة، ويدرك كسلوك فردي يثير انتقامات لا تغتفر، وإلى ما لا نهاية له.
باختصار، الظلم لا بداية له ولا نهاية، ويتجسد في تصرف السيد الذي يسيء معاملة العبد، وفي الدولة الاستبدادية التي تحتقر مواطنيها أو في الاحتلال الصهيوني الذي نلحظه في قطاع غزة ويذل الناس.
ختاما، الظلم هو كل فعل قد يقوم به الظالم أو غيره كما لو كان وحده في المجتمع أو الدولة أو العالم، وكأن باقي العالم لا يوجد إلا ليستقبل ذلك الفعل، والقوة هي من تخلق الظلم وتجعل الظالم يسلك وفق شهواته وينساق إلى ميولاته.
***
بقلم: محمد فرَّاح – أستاذ فلسفة / المغرب