قضايا

أسعد عبد الرزاق: هوية الإنسان بين التبديد والتجديد.. قراءة ومراجعة

عندما نفكر في التصورات المجردة تلتبس بعض المفاهيم، وهو طبيعي إلى حد ما، في الإطار الثقافي الذي لا يفرض سلطة الدقة بالمصطلح كما هو الحال في الإطار العلمي الدقيق، لكن بقدر الإمكان تتم محاولة تحديد المفاهيم على وفق تصورات وانطباعات لا تخلو من المراجعة، ومفهوم الهوية من المفاهيم الفضفاضة ذات السمة النسبية التي تخضع المفهوم إلى تأثير التوجهات الذاتية أحيانا، وهو ما يشكل عقبة ما في طريق تناول هذا المفهوم في جوانبه المختلفة.

وقد تعمدت أن أفرد الهوية من دون إضافة إلى كونها هوية دينية أو سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، ذلك أن تلك المسميات لا تعدو كونها عناصر مكوّنة لهوية الإنسان، وفي ظني أن الإنسان لا يمكن أن تتشكل هويته في مجال محدد من دون تداخل بقية المجالات، فلا يمكن أن تتحدد هوية الإنسان بصفته الفردية أو الاجتماعية في قالب ديني فحسب أو سياسي فقط، وإنما تتداخل تلك الأطر فيما بينها لتخلق كيانا يتضمن الهوية ويحدد نمطها وطبيعتها، فالدين أحد أهم عناصر الهوية في مجتمعاتنا كما أن الثقافة أيضا تعد من عناصر بناء الهوية، نعم قد يغلب عنصر عنصرا آخر، وهذا طبيعي إلى حدما، واستثنائي في حالات خاصة، يتم تناولها لاحقا.

ويمكن تحديد الهوية بما لخصه أحد الباحثين في الموضوع بأنها: (أن الهوية تعبر عن كل من الميزات الفارقة والعلامات المميزة التي تمنح الخصوصية وترسم الحدود بين الديموغرافيا البشرية، وعن السقوف الجامعة ومناطات الاشتراك والاتفاق عند جماعة أو أمة ما. وعموما؛ هي مجمل السمات التي تخص عنصرا أو جماعة دون غيرها، والهوية فلسفيا تراكمية فلا توجد هوية الفرد حتى توجد هوية الجماعة والخلفية الجماعية التي يشغل الفرد مخيطا في نسيجها الكبير، ويعبر المنظور الفلسفي عن الهوية على أنها فرصة المطابقة والتشابه والتي تصنع بتظافرها هوية ثقافية لشعب لا يشركه فيها بكل محدداتها شعب آخر وإن اشترك معه ربما في بعضها. وللهوية مكونات أساسية تحدد ملامحها في كل جماعة أو أمة دون غيرها)1، والمشتركات يمكن إجمالها بنوعين من العناصر:

العناصر الثابتة: (اللغة، المكان، الجغرافية، الاقتصاد، التاريخ..)

العناصر المتغيرة: (الدين، المذهب، الثقافة، الوطن، القومية..)

وسبب التمايز ربما يكون نسبيا وضئيلا، لأن التغيير في الفئة الأولى يمكن أن يحدث ولكن بنحو نادر، في حين يطال التغيير –في الغالب- الفئة الثانية، فالصراعات الدينية والمذهبية والسياسة تفضي إلى تحولات في بنية وتكوين الهوية، وهو أحد أبرز تحديات الهوية.

ويمكن تحديد إشكالية الموضوع من نواحٍ عدة:

أولا: صراع الهويات، رغم تداخلها، فالهوية الوطنية يمكن أن تصطدم بالهوية القومية أو الدينية.

ثانيا: مخاوف التبديد، وهو ما يشكل هاجس الهوية المفقودة، وضمور المسمى الثقافي للإنسان، وتلاشي أصالته التي تشير إلى تاريخه وتراثه ومصادر قوته تجاه المجتمعات المباينة.

ثالثا: منعطفات التجديد، وهو ما يطرأ على الهوية من إضافات بنيوية إما بنحو من التراكم التاريخي، او التأثير القسري، وكلاهما محل اختلاف واسع.

يبدأ هذا صراع الهويات من إشكالية تحديد الهوية، وغالبا ما يتم تناول الهوية الوطنية والتي تمثل المحك الحقيقي لصراع الهويات، إذ تتجلى فيها أوجه الصراع بين الدين والعلمانية، وبقية الانتماءات القومية والقبلية، ومدى أولوية كل منها على الآخر، لذلك نجد أن الهوية الوطنية تتبدد وتذوب في الجوانب الدينية أو القبلية أو غيرها من الأطر التي تشكل هوية الإنسان.

في الشرق الأوسط تحول الصراع من صراع ديني قومي، إلى صراع ديني علماني، وكلا النمطين من الصراع يؤثر بنحو بالغ في رسم معالم هوية الإنسان، بين كونه مسلما أو عربيا، أو علمانيا، مما ينعكس على الأوضاع السياسية، ومن الطبيعي أن تلعب السياسة دورا واضحا في ذلك الصراع كما أنها تتأثر به في الوقت نفسه، يتحول صراع الهويات إلى هاجس من المخاوف التي تسكن عقول النخب السياسية والثقافية على حد سواء، وتدفع تلك المخاوف إلى خلق أزمات سياسية على مستوى دولي ومحلي في مختلف البلدان.

وتلك المخاوف تقف حاجزا منيعا أمام أي محاولة للتجديد، فالتطور سنة كونية، تجري على الفرد والمجتمع، وغالبا ما تحدث منعطفات في تشكل هوية الإنسان/المجتمع/ الأمة، وهو ما يمثل فضاءً خصبا للنقاش والحوار الفكري الذي يتحول أحيانا إلى صراعات وحروب باردة.

وقد أثرت العولمة في أواخر القرن العشرين في تعميق المخاوف حول الهوية، فالنموذج الغربي حاول أن يعمم نماذجه الجاهزة في شتى بقاع العالم، نتيجة لتسليمه بأن النموذج الغربي يعد نموذجا نهائيا إلى حد ما، ويمكن تصديره إلى الأمم الأخرى، مما أنتج صراعا جديدا بين الهويات الراسخة والهويات الوافدة، وامتد ذلك في ميادين التفكير في العالم العربي وعلى صلة متينة بسؤال النهضة، وما افرزه من قراءات ومدونات طيلة نص قرن مضى.

من المشكلات الرئيسة في هذا المجال هي ثنائية التحديات، فالتحديات التي تواجه الهوية على صعيدين:

الأول: صراعات داخل الهوية، والمتمثل بصراع العناصر والمكونات، ومحاولات التغليب بين مكون الدين والعرق والقومية والقبلية وغيرها.

الثاني: صراع خارج الهوية، والمتمثل بصراع الوجود، أمام موانع الاستمرار، فالعولمة بددت كثيرا من الخصوصيات، الدينية والثقافية والقومية..، والهوية تختزل خصوصيات بالغة الأهمية لأي أمة، أو مجتمع، والعلمانية من جهة أخرى تحاول فرض هوية أعلى وأشمل، تحت مسمى الإنسان، وهنا يكمن صراع بمسحات واسعة ومتنوعة، فلم تكتف العلمانية مثلا بفصل الدين عن السياسة، كما هو رائج، بل يمكن استحضار كثير من الشواهد على فصل الحياة عن كل الخصوصيات الدينية والثقافية ومحاولة تعميم نماذجها الغربية الجاهزة، كما فصل في ذلك المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري في نقده للعلمانية الغربية.

ومن ناحية أخرى فإن ازدواج النظر إلى الهوية بين كونها وسيلة أو غاية، وعلى كلا الفرضين ثمة إشكاليات متفرعة، فيمكن أن توظف الهوية سياسيا، مما يفضي إلى تبديدها بنحو تدريجي، كما في توظيف العقائد الدينية في الصراعات السياسية التي من شأنها أن تضعف الهوية الدينية، من خلال النتائج العكسية التي يفضي إليها الفعل السياسي من خلال توظيفه السيء للعقائد الدينية.

كما أن الخوض في وسائل شتى لتحقيق الهوية كغاية، يفضي إلى تبديدها أيضا، وهنا ربما لا يسع المجال إلى الخوض في تفاصيل كلا النمطين، لكن المهم هو كيفية تفادي تلك المخاوف، وهو ما يستدعي السعي إلى ضم المشتركات في عنوان جامع تتجلى فيه الهوية والنأي به عن مختلف الصراعات السياسية والثقافية، ولا يتسنى ذلك مالم يتم التعاطي مع الموضوع بنحو من الواقعية، والاعتراف بمساحات التنوع والاختلاف.

إن الوعي السياسي الذي يقود إلى وعي مجتمعي ناضج من شأنه أن يبرز عناصر الهوية بنحو من العقلانية بعيدا عن التطرف المفضي إلى الصراع الذي من شانه أن يعمق فرص التبديد وفقدان الهوية.

تمثل الهوية الجامعة إرثا حضارية أو ثقافيا هاما للأجيال اللاحقة، وهذا يستدعي رؤى استراتيجية من خلال مراكز أبحاث مختصة تسعى إلى تحقيق الأمن الفكري، من خلال رسم معالم لسلم الأوليات في البنى التي تتشكل منها الهوية، ولا يمكن التفريط بأي عنصر من عناصر الهوية مهما تعددت وتنوعت الثقافات والانتماءات، ويتحقق ذلك بأنحاء عدة:

الأول: العمل  والسعي من خلال المبادرات الجادة على مستوى السلطات والمؤسسات العلمية، والبدء بنحو استباقي.

الثاني: الاستفادة  من التجارب، والتراكم التاريخي، الذي تنتجه الأحداث علو مستوى المكاسب والخسائر عبر الزمن، مما يجعل المجتمع بشتى صنوفه مرغما على الاستجابة إلى متطلبات الهوية، وسبل حفظها وتطويرها، عبر استجلاء الخصائص والسمات الأصيلة في المجتمع، واستثمار الجديد مما يفرزه الحاضر من سمات إيجابية ممكن أن يتصف بها المجتمع.

الثالث: كبح جماح التغليب، لأي عنصر على آخر، فلايمكن أن تنحصر الهوية على وفق الانتماء الديني أو القومي أو الطائفي أو القبلي..، ومحاولة الموازنة بين تلك الثنائيات دعما باتجاه الموائمة فيما بنها، وترتيبها طوليا بنحو لا يستدعي التعارض كما لو كان ترتيبها عرضيا، فالانتماء للقبيلة يأتي في طول الانتماء للقومية، والانتماء للقومية يأتي في سياق الانتماء للدين، مما يحقق نوعا من التوازن.

الرابع: تجنب التطرف والغلو، على مستوى الدين أو المذهب، وحتى الانتماءات القومية والثقافية، فالتعصب غالبا ما تكون نتائجه عكسية، في مختلف المجالات.

وثمة مداخل أخرى للموضوع تستدعي بحثا موسعا، وبهذا القدر يمكن أن تشكل هذه الورقة مدخلا أوليا، على أمل أن يتبع بمساحات معرفية أوسع.

***

د. أسعد عبد الرزاق الاسدي

......................

- ظ: علي محمد الصلابي، الهوية الوطنية ركن من أركان الدولة الحديثة المسلمة، مقال/موقع الجزيرة

 

في المثقف اليوم