قضايا

علي عمرون: ألفونس إتيان دينيه.. رسول السلام بين الشرق والغرب

الفن كالفلسفة كلاهما ثورة على كل ما هو تافه وسطحي في الحياة ذلك ان الفن في جوهره ثورة مرتكزها الأول إرادة الفنان، إرادة حرة فاعلة ومبدعة تستهدف التحرر من عبودية المادة واكراهات الواقع في سطحيته وابتذاله، تجربة ذوقية تتغذى على الخيال الذي يشن غاراته على الواقع ليس فقط من اجل اعادة تجميله او تغييره بل من اجل تحرير الانسان، أوليس هدف كل ثورة حقيقية هو الحرية التي هي ميراثها وكنزها المفقود.

الفن في ظاهره مرآة عاكسة لتجربة إنسانية تنطلق من الذات المبدعة لترتمي في أحضان الغيرية تستهدف الاحتفال بالحياة والتأسيس لثقافة العيش المشترك ثقافة يصبح فيها الفن دالا والجميل مدلولا لأجل ذلك عشق الانسان الفن وتجددت عبر التاريخ مدارسه ولأجل ذلك كان محكوما على كل عمل فني لا يستهدف تحرير الانسان بأنه عديم الجدوى ويفتقر الى البعد الجمالي واستقراء تاريخ الفن واعمال كبار الفنانين العظماء شاهد على ذلك ومنهم ناصر الدين ديني الذي كان رجلا متحررا ثائرا ورسولا للسلام والحرية وفنانا عاشقا للجمال. امتلك روحا سخية وشجاعة، بارعة وطفولية، شهوانية وعفيفة، رقيقة وروحية، وفي نفس الوقت عنيفة ورهيبة.

قضى ناصر الدين ديني- المولود بـ "باريس" بتاريخ 28 مارس 1861-  ثماني سنوات في الدراسة بعد بلوغه العاشرة من عمره ليتخرج سنة 1879 من ثانوية "هنري الرابع" متحصلا على شهادة البكالوريا."  السنوات الثماني التي قضاها في الثانوية كانت الأسوأ في حياته، لأنه شعر بإبعاده من حضنه الطبيعي ولمعرفته بتفكير والده المسبق الذي يريد منه أن يكون رجل قانون او سياسة. قضى تلك السنوات في جو کدر ومزاج متعكر ورتابة طوال اليوم ولا ينتشله من قوقعته الا تلك الزيارات العائلية التي كانت تقوم بها والدته رفقة اخته وتتذكر اخته كيف كان يستقبلهم ببرودة وجفاء، لا يتجاوب معهم في الحديث ولا يسترسل ولا يتكلم الا حينما يسأل من طرفهما بإجابات مقتضبة، واعتقدت أخته أن زيارتهم له لم تفده كثيرا على مستوى توازنه النفسي."

دخل دينيه عالم الفنون الجميلة سنة 1879، وكانت بدايته الأولى في ورشة "جالان"، حيث درس باهتمام كبير مادة التشريح وكثيرا من المعارف الأساسية، لكن ما لبثت هذه المدرسة أن أغلقت أبوابها بعد سنة من التحاقه بها، مما اضطره إلى الالتحاق بأكاديمية "جوليان" الحديثة العهد، حيث مكث فيها أربع سنوات، وقد استفاد أيما استفادة من التكوين النوعي، والمتين الذي كانت توفره هذه المدرسة لطلبتها.حيث أنجز مبكرا، وتحديدا سنة 1881 لوحته الأولى الموسومة بـ "الأم كلونيد " التي تصور فلاحة فرنسية بلباسها الريفي التقليدي، وهي على ضفاف نهر السين"، عدت لوحة الأم كلوتيد " بمثابة شهادة ميلاد الفنان "ديني"، الذي تشجع بعد ذلك، ورسم لوحتين دخل بفضلهما عالم الشهرة، والتألق؛ وهما: "صخرة صامو"، و"القديس جوليان الكريم".

سافر ناصر الدين ديني لأول مرة إلى الجزائر سنة 1884 ضمن بعثة إيكولوجية. وقد أتاحت له التعرف عن كثب إلى عوالم جديدة لم يألفهـا من قبل: عالم الأضواء الخلابة والظلال الصامتة التي تعكسها الصحراء برمالها وواحاتها وسرابها وعالم الألوان الجذابة التي تنبض بها الطبيعة في الجزائر، ومـا يحفـل بـه عـالم الجزائريين من الأفراح والأحزان والعادات والتقاليد ومشاغل الحياة ومظاهر الإيمان الروحي العميق، الذي يطبع حياتهم بالبساطة والمودة والتسامح وسمو الأخلاق. والذي يعبرون عنه بطقوس وعبادات بسيطة، تصلهم مباشرة مع الله.

تأثر ناصر الدين ديني إلى حد بعيد بالوجودية الصوفية، ففي رحلته إلى حافة الصحراء كانت رحلته إلى حواف الروح، في بحثه عن حياة دينية تستجيب لمتطلباته الروحية. من أجل اعتناق حياة جمالية فنية روحية أبسط وأرحب، حياة خلاقة عاشقة للجمال. تخرجه من بؤرة الضجيج والهيجان السائدين في كبريات المدن الغربية. وهذا ليس مفاجئًا جدًا، لأن دينيه انتهى به الأمر إلى أن يجسد في نفسه الروح العربية بأكملها، هذه الروح بسيطة جدًا ومعقدة جدًا، وغامضة، وتبدو بالنسبة لنا، غير قابلة للاختراق.

اضطرت الظروف ناصر الدين ديني إلى زيارة مصر في شتاء سنة 1897م، بهدف البحث عن شيء جديد في عاصمة الثري تثير احساسه وتلهم فرحته لكنه عاد منها بخيبة أمل كبيراً ووجدها دون تطلعاته وأقل جمالا من مشاهد الجزائر وعبر عن ذلك في رسائله لأخته بعد عودته من مصر :" كانت خيبة املي واضحة وسخطت على نفسي من غيابي في مصر التي لم أحضر منها الا بعض اللوحات والدراسات ليس لها أي معنى.."   في رسالة الى صديقه Léonce Bénédite  بتاريخ01-08-1897 اخبره ان رسالته قد اخرجته قليلا من دائر اليأس وسمى سفر إلى مصر هربا اذ كان يعتقد انه يجد في مصر بشكل طبيعي واصلي مشاهد ومناظر لمجتمع مسلم، غير أن طموحه في مصر عاد بالخيبة، وقارن ذلك بما هو موجود بالجزائر، فمصر قد دخلت عليها مظاهر التطور مما اخفى كثير من معالمها، فالفلاح مخبول ورجل الدين هناك يرتدي عباءة من الصوف تفتقر لأي ذوق جمالي والأكثر بشاعة في نظره الافندي في اللباس الأوربي، ونساؤهم رغم جمالهم فإنهن لا يضاهين الجزائريات في الجنوب، سماءها صافية دون عمق وسحب دون أشكال وبدون قوة وليال بدون نجوم انه الوهم .

أثرت فيه زيارته الى مصر الى درجة انه وصفها في أحد رسائله بتاريخ 27 /07/1897/ بأنها جعلته يمر بأزمة نفسية تمثل مرحلة متقدمة من اليأس لم يتعرض لها من قبل" هذا السفر البغيض والكريه الى مصر منعني من انجاز لوحاتي مثل العادة، ومنذ 15 يوما من العمل المضنى من الصباح الى المساء لم أصل الى نتيجة وبالكاد استطعت استرجاع حبل افكاري واستئناف مشاريعي التي كانت ترتسم في أفقي وفي دراساتي وملاحظاتي." وقد نشرت اخته العديد من الرسائل المتبادلة بينها وبين اخيها عبر من خلالها عن قلقه وحيرته ومخاوفه وقد وصل به الأمر الى الاختفاء عن الانظار منعزلا في بيته.

عقب عودة دينيه من مصر انكب على تدوين (قصة عنترة بن شداد). وقد كانت اول عمل سردي نثري، يقوم بإصداره. فمن شدة إعجابه بالقصة وفضلا عن كتابة فصولها. فقد خلدها في العديد من اللوحات، منها لوحة سماها " انتقام أبناء عنترة"، الذي قتل بسهم مسموم في كمين نصب له ". ومن أعماله الروائية أيضا: رواية " خضراء راقصة أولاد نايل "، ثم روايته " الصحراء" وهي روايات مستوحاة من الموروث الشعبي الجزائري. ومن مؤلفاته في هذه المرحلة، كذلك كتاب " آفات الرسم "، وهو يتعلق بتقنيات الرسم والمواد المستعملة. وخلال هذه المرحلة من حياته بدأ اهتمامه بالجانب الفني الإسلامي. فقد نشر موضوعا حول الفن الإسلامي بعنوان " ملاحظات حول الفن الإسلامي." وتعتبر هذه المرحلة مرحلة بحث واستكشاف للموروث الثقافي والروحي والاجتماعي للمجتمع الجزائري.

اختار ديني مدينة بوسعادة للإقامة بها سنة 1904م، حيث اشترى منزلا؛ تتوفر فيه المواصفات التي يبحث عنها، فهو يقع في وسط الحي العربي الموامين، قريب من الواحة والوادي، ويطل منه على افق واسع. رغم استقرار بوسعادة واقباله على العمل بكل عزم الا انه شعر دائما بانتقاص الاخرين دوما منه، فبعد الحرب العالمية الأولى افضى الى اخته بما يختلج في صدر أنه قر الاستقرار ببوسعادة نهائيا، مبينا لها العدوات الشخصية التي يحارب ضدها، فقد أشاعوا أن حياته الموزعة بين باريس وبوسعادة خلال السنة الواحدة هي للتهرب من دفع الضرائب ويعيش في بوسعادة لأنه لم ينجح فنيا في باريس ولوحاته لا تباع. استقر "ديني" بمدينة "بوسعادة"، التي قال عنها: «لو كانت الجنة فوق السماء لكانت فوق مدينة "بوسعادة"، ولو كانت تحت الأرض لكانت تحت أرض "بوسعادة".ولا ينكر أحد أن اعتناق "دينية" للإسلام، سنة 1913م، يعود أساسا إلى تأثير صديقه "سليمان بن إبراهيم "  ودخوله الى الإسلام لم يكن مجرد انطفاع عاطفي بل كان عملا مدروسا  اخذ وقتا طويلا بعيشه وسط اجتماعي بما يحمله من ممارسات دينية وسلوكات اجتماعية وعادات وتقاليد وقيما تأملها ديني حتى فهمها واصبح مدافعا عنها، ثم اخذ يقرأ ويقارن، وهو ما نستشفه من وصيته: « لقد عرفت ما في المسيحية من خرافات واباطيل فهجرتها ونبذتها. ودرست الاديان المختلفة. فلم أجد فيها غير الاسلام يوافق العقل وتطمئن اليه النفس. هو الدين الذي اسلمت روحي له وتعلقت به وبذلت جهودي في سبيله واقيم على تنفيذ وصيتي مسلما» وشاءت الأقدار أن يتوفاه الله بعد عودته من الحج بفترة قصيرة، وتحديدا في 25 ديسمبر 1929، حيث أقيمت له تأبينية كبيرة بمسجد "باريس"، بحضور كبار رجالات الدولة، ومشاهير العلماء، ونزولا عند وصيته نقل جثمانه إلى بوسعادة" ليدفن فيها يوم 12 جانفي 1930م، بحضور الرسميين، وممثلي "جمعية العلماء المسلمين"، وممثلي الزوايا، والشخصيات المعروفة.

عبقريته

ناصر الدين ديني فنان واقعي، لاحظ وبكل دقة وجوه وحياة سكان الصحراء في الاغواط بسكرة وبوسعادة...، تحت الضوء القوي لجنوب الجزائر. رسم هذه الوجوه وخلد تلك المواقف برؤية انطباعية ولمسة رومانسية دون تحريف للواقع، تفاصيل رسمها بكل دقة وابداع ولم يحاول تضخيمها وفي نفس الوقت عمل على تجميلها .استمد موضوعاته من الحياة اليومية في جنوب الجزائر، وتحول الى شاهد على عصره عايش من خلاله بؤسا لا مسمى له ولمس في نفوس من عاشرهم سكينة لا حدود لها  كان يراقب بعين الفنان مشاهد: ألعاب الأطفال، الاحتفالات الدينية، مشاهد الشوارع،الصلاة ... وهذا يجعله شاهدا ثمينا على أنماط الحياة والتقاليد الصحراوية، وفنانا فريدا في مدرسة الرسامين المستشرقين.

الشخصيات التي رسمها كانت جميلة ونموذجية (الفتاة الصغيرة الضاحكة، الشاب الرجولي، الرجل العجوز، الطفل في عفويته واحتفاله بالحياة)، والناظر والمتأمل في  لوحاته، يرى "صورة" للجزائر الخلابة والخالدة، صورة تسامى من خلالها معبرا عن حالة البؤس والواقع الاستعماري المدمر رسمها بفرشاة الامل، رسم العنف والبؤس واليأس والتواضع، ولكن بنفس القدر الفرح والشجاعة والكرامة. ومن الخصائص الفنية التي يمتاز بها فن "ديني: " ترجمة الأحاسيس، والمشاعر من خلال رسم ملامح الوجه، ومكونات الجسم بتفاصيلها ودقتها، بعيدا عن المبالغة في التصور، وابتعاده عن الصور النمطية الجاهزة ورسوماته لم تكن جامدة، ومحنطة للواقع، بل غاص في أعماق التراث. " وقد ذكر ماريو شويري استاذ تاريخ الفن في جامعة السوربون وأبو ظبي ومدرسة اللوفر، أن دينيه "أكثر من مجرد رسام" إنه لغز سياسي، فرنسي " رسم ديني أول صورتين جزائريتين وكانتا بعنوان شرفات الأغواط ووادي المسيلة بعد العاصفة.

علاقته بصديقه سليمان بن إبراهيم

تعرف "ديني " في الجزائر على "سليمان بن إبراهيم" سنة 1888م، عندما كان يقيم بفندق بمدينة "بوسعادة". وقد ذكرت كتب سيرة "ديني" جملة من الخصال الحميدة التي جعلت "سليمان" يتبوأ مكانة رفيعة عند الرسام منها: المروءة والشجاعة، والإخلاص والصدق والوفاء والحكمة، وروح التضحية، والمعرفة العميقة بالناس، والاطلاع الواسع على الموروث الثقافي الجزائري.

تعرض ديني لاعتداء جسدي من طرف بعض اليهود من سكان بوسعادة الذين زعموا أنه يرسم نساءهم وهم في الوادي وانفردوا به وحيدا حين وجدوه، يعكف على رسم لوحة لأحد مشاهد بوسعادة La Montée de Bou-Saada)) دافع على نفسه ولكنه لم يتمكن من مقاومتهم بسبب كثرتهم، وفي هذه اللحظة شاءت الاقدار ان يظهر الشاب سليمان بن ابراهيم الذي كان يتجول بالمكان، مدافعا عن إتيان ديني، ولم ينس اليهود لهذا الشاب  أن يتدخل في شأن يخصهم، فقرروا الاعتداء عليه ذات يوم واصابوه، بجراح وقرر ديني حين علم بالأمر أن يعود الى الجزائر ويحضر معه سليمان بن ابراهيم الى باريس لأنه شعر بمسؤولية اخلاقية تجاه ما حدث له، بعد هذه الحادثة توطدت علاقة الرجلين وأصبحا لا يفترقان كالشيء وظله.

بعد ذلك التقي ناصر الدين ديني مع سليمان بن ابراهيم من أجل توفير مسكن له واتخذه دليلا ومرشدا في بوسعادة، والتقى به مرة ثانية لما زار ناصر الدين ديني الاغواط سنة 1889 م، حيث قدم له مساعدات سهلت له العثور على مواضيع ونماذج للوحاته، بفضل العلاقات التي يملكها سليمان في الاغواط مع الميزابيين واهل الاغواط بصفة عامة.

في احدى مقالاته تحدث Léonce Bénédite عن شخصية سليمان بن إبراهيم وكتب قائلا :" أنت بالتأكيد تعرف صديقي سي سليمان بن إبراهيم. إنه هذا العربي الشاب الأنيق الذي يراه سكان الضفة اليسرى، من ساحة سان جيرمان دي بري Saint-Germain-des-Prés أو رصيف فولتير إلى ساحة بون مارشيه، يتجول طوال فصل الشتاء في ساعات منتظمة، بثبات مستقيم. خطوة ومظهر مهيب وبسيط. وجهه المسمر بحرارة جاد، وجفونه الكبيرة نصف السفلية تحجب عينيه اللامعتين اللتين تبدوان بعد ذلك وكأنها تنظران إلى الناس والأشياء بطريقة مشتتة للغاية وغير مبالية. من شفتيه القويتان إلى حد ما، المؤطرة بلحية مجعدة رقيقة، يهرب دخان السيجارة في لوالب مكسورة. وعادة ما يرتدي ملابس داكنة مميزة، ملفوفًا بشكل رائع في ثنيات بورنوسه الأسود. لكن في أيام الأعياد، في حفلات الكسكس الحميمية الصغيرة أو في الاحتفالات الكبرى لافتتاح معرض الرسامين المستشرقين، يحب صديقي العزيز سليمان أن يرتدي ملابس فاخرة. ثم يرتدي بيرنوسًا من البياض الناصع وقماشًا ناعمًا للغاية بحيث تكون الطيات أكثر سحرًا وغير متوقعة؛ عمامته مصنوعة من وشاح مخطط من الحرير الذهبي القديم، وحزامه العريض مصنوع من قماش جميل باللونين الأحمر والأصفر ومغطى بالذهب، وسرواله الأسود الواسع مدسوس في حذاء من القطيفة المغربية. وعلى صدره يتلألأ نجمان، أو بالأحرى نجمة صغيرة ونخلة صغيرة. إنه صليب نشام الأنوار والنخيل الأكاديمي.

العنوان الحقيقي لسي سليمان بن إبراهيم هو أن يكون الرفيق المخلص للرسام إتيان ديني. عمره حوالي ثمانية عشرة سنة، إذا كنت أتذكر بشكل صحيح، في الأغواط أو بالأحرى في بوسعادة حيث ولد سنة 1870، لعائلة مزابية، وهو عرق عربي من الجنوب، منشق دينيا وذو موهبة، كما نعلم، مع فضائل خاصة للذكاء العملي والاستقامة التجارية. كان ذلك في بوسعادة، ذات يوم، وسط انتفاضة محلية صغيرة، في أعمال شغب بين طرفين معاديين، شارك في أحدهما ديني رغمًا عنه بسبب بعض علاقاته، وكان سليمان بن إبراهيم يواجه خطرًا. وخاطر بحياته وأنقذ حياة ديني. علامة الشجاعة والتفاني هذه جعلت مصيره من الآن فصاعدًا مصير الفنان الذي شارك معه جميع الرحلات، وبطريقته الخاصة، كل العمل، كصديق ومتعاون، يبحث عن النماذج ويجمعها، وهو أمر صعب للغاية في هذا البلد، بحكمة ولباقة فنان حقيقي: شرح العادات وترجم مع ديني بعض قصائد وروايات الأدب العربي الذي يغذي فكرياً ملايين الرجال، «لقد سخر "سليمان" كل جهوده من أجل جمع الرصيد الثقافي الجزائري الهائل، ووضعه في متناول "ديني": فهو الذي يجمع الأشعار من الصحراء، ويشرح الحكايات والأساطير، ويفسر العادات والتقاليد ويتولى كذلك تفسير الكتب الدينية، وبفضل هذه المكانة المرموقة أصبح له رأي في الأمور التقنية للرسم لقد كتب "ديني" عن الشاعر العربي "عنتر"، بعد أن لقيت قصصه رواجا كبيرا في أوربا في القرن التاسع عشر، في تشبه ملاحم "اليونان"، والرومان.

مساهمة ناصر الدين ديني في نشر الوعي التحرري.

1- بعد الحرب العالمية الأولى اصبحت المواقف السياسية لديني واضحة جدا بشأن وضعية الجزائريين تجاه القانون الفرنسي، فهو يعتبر في رسالة كتبها لأخته بتاريخ 02 اوت 1928م أن سياسة فرنسا المتبعة في الجزائر وصلت الى مستوى من الحماقة لم تصل اليه من قبل وفقد فيها كل امل في المستقبل، الذي سيكون خطيرا بفضل عناد المعمرين الذين يتفننون كل يوم في توسيع وتعميق الخندق الفاصل بين المسلمين والفرنسيين ومن الصعب ردم هوته.

2- يضيف ديني ان الاهالي استطاعوا ابتلاع كل الغزة والفاتحين الذين تعاقبوا على هذا البلد (ما عدا العرب) ومصيرنا سيكون اسرع نهاية مما كان للرومان بسبب سياستنا غير المناسبة تجاههم، وهذه الاحتفالات المئوية فرصة لإصلاح الخلل وتعزيز اسمنت الوحدة بين المسلمين والأوربيين بفضل دماء الأبطال من الطرفين التي سالت واختلطت خلال الحرب العالمية الأولى، وينبه ديني السلطات الى خطر محدق بالشعوب اذا لم تتداركها سياسة الاصلاحات فإنها ستكون فريسة سهلة للدعاية البلشفية ( الشيوعية ) في شمال افريقيا.

3-  في عام 1915، حول قلعته الباريسية هيريسي إلى مستشفى لاستقبال جرحى المسلمين في الحرب العالمية الأولى، ثم قام بحملة من أجل إقامة شواهد قبور للمسلمين الذين قتلوا في المعركة، وبعد ذلك، لبناء ما سيصبح المسجد الكبير في باريس. في عام 1923، أصبح مالكا لفيلا في الجزائر العاصمة، تم شراؤها بفضل بيع قلعته الباريسية، حيث عرض أعماله. على الرغم من الحظر المفروض عليهم من قبل منتقديها، فقد حققوا نجاحا كبيرا.

4- قصة "عنترة" كما تراءت في ذهن "دينية" تحمل طابعا تحرريا، وثوريا، فهي تشبه حكايات "ألف ليلة وليلة"، فهذه الشخصية تحمل دلالات رمزية في مجال التحدي والثورة على القوانين الجائرة في عصره، والمتمثلة في احتقار الإنسان الأسود من طرف الإنسان الأبيض، فهذه الشخصية تحمل مواصفات عدة منها. التغني بالشجاعة، والبطولة، والفروسية، وروح التضحية في سبيل إنقاذ الجماعة من ظلم، واحتقار

5- تعاون "ديني" مع "سليمان بن إبراهيم" في إعداد الكتاب الموسوم بـ "محمد رسول الله"، وقد اعتمدا على المصادر الإسلامية مثلى: "كتب الصحاح"، و"سيرة ابن هشام"، و"طبقات ابن سعد". يتوزع الكتاب على عشرة فصول، تتمثل وفق التسلسل التاريخي من البداية حتى النهاية. يعد هذا الكتاب أول ما كتب باللغة الفرنسية في السيرة النبوية الشريفة، من منطلقات السيرة الأصلية المشهورة، والمعتمدة من علماء المسلمين، والتي تختلف تماما عن كتب المستشرقين الذين لم يحترموا مشاعر المسلمين، وراحوا يدرسون الظاهرة الإسلامية كجثة هامدة بدون روح».

6- كتاب " الحج إلى بيت الله الحرام": هذا الكتاب الذي ألفه بعد مسار طويل وشاق من البحث عن الحقيقة، ليصبح من كبار المدافعين عن الإسلام والمسلمين بريشته وبقلمه، وبنضالاته السياسية. وقد ترجمت خاتمته، ونشرت في مجلة "جمعية العلماء المسلمين، بقلم الأستاذ توفيق المدني». تصدى في هذا الكتاب للدفاع عن الإسلام والمسلمين.

7-  ألف كتابا موسوما بـ "الشرق في نظر الغرب": وقد ترجمه الأستاذ "عمر فخوري" .

8-   فشل مشروعه لتأسيس متحف في عام 1929 بسبب ضغوط من الجماعات الاستعمارية.

كتخريج عام حاول ناصر الدين ديني احداث تقارب بين قيم الحياة العربية البسيطة للغاية ومبادئها الأخلاقية والروحية السامية، وقيم الحضارة الغربية الحديثة ببعديها المادي والعقلاني والتاسيس لثقافة كونية تستمد قوتها من ثقافة العيش المشترك، لقد عاش ديني بين من احبهم حياة إنسانية ظلت، في طابعها الحميم، وفي مظهرها، وفي ديكورها، كما كانت في زمن المجتمعات الأولى التي أسسها الإنسان. حياة حافظت على نقائها وكرامتها واصالتها حياة جمعت كما قال مالك بن نبي رحمه الله بين البؤس والسكينة. هذا التناقض أصاب باستمرار جميع الفنانين الذين أقاموا في الجزائر ومنهم ناصر الدين ديني .

***

علي عمرون

............................

الهوامش

* اسمه في شهادة الميلاد «ألفونس إتيان دينية" ولد بـ "باريس" بتاريخ 28 مارس 1861م ينحدر من عائلة بورجوازية كاثوليكية عندما بلغ العاشرة من عمره، وتحديدا سنة 1871م، وضعته العائلة في ثانوية "هنري الرابع" في قلب "باريس"، وقد وقع الاختيار على هذه الثانوية لاعتبارات أيديولوجية، واستراتيجية مهمة؛ ذلك أن هذه المؤسسة المتميزة لها تاريخ عريق ضارب الجذور في أعماق الماضي، ولأنها الوحيدة المؤهلة لاستقطاب أبناء النخبة الأرستقراطية الفرنسية. كما تعد أول ثانوية للجمهورية الفرنسية. وبعد اعتناقه الإسلام اختار لنفسه اسم ناصر الدين ديني.

في المثقف اليوم