قضايا

مراد غريبي: محنة الثقافة في ظل سطوة العقل التراثي

عند التمعن في التطورات والتحولات الخطيرة للمجتمعات العربية والإسلامية، نكتشف مسارين حاضرين في تفاصيل الواقع العربي والإسلامي..

المسار الأول:

تفجير الهويات لتفكيك الدول القائمة وخلق دويلات دينية ومذهبية وكنتونات طائفية. مما يؤسس لمقاولات سياسية تهدف لبناء مجتمعات متطرفة، وبالتالي تدمير كل أسس التعايش بين الناس.

و في هذا المسار تلعب مؤسسات الدولة الثقافية – تحديدا دون غيرها- دورا خطيرا في حال ساعدت في انهيار المجتمع، حيث تصبح فضاءات الاجتماع العام، مسرحا للصراعات والاحتراب وممارسة العنف بكل أشكاله، أو أنها تلعب دورا استراتيجيا في حماية المجتمع من انزلاقات العنف وإضعاف الدولة والمجتمع، بل أكثر من ذلك يمكنها توطيد العلاقات وكشف المؤامرات وتصحيح الخيارات وتمكين الكفاءات من استثمار مسائل التنوع والاختلاف في مشاريع حضارية تعود بالنفع العام ودفع عجلة إبداع الدولة المدنية السليمة من تداعيات التخلف والرجعية والعدوان والعنف بكل صنوفه.

ولا شك أن هذا الخيار أو المسار هو من المسارات الخطيرة على المنطقة العربية، لأنه يدمر كل شيء، إذا ما وضع بأيادي طائفية ووفق مشاريع شيطانية تخلط الدين بالسياسة وتعمل على دفع الشعب ضد الدولة وعزل الثقافة عن دورها الحضاري الخلاق كما يذكر الأستاذ إبراهيم عبد غلوم: "فالإفراط في عزل الثقافة عن معناها الخلاق، وبالتالي عن كيفيتها في إنتاج المجتمع الذي نعيش فيه، إنما يؤدي إلى خلق ثقافة مركزية منغلقة تتصور الوجود الاجتماعي من خلال تصورها، وتوجه الخطاب الثقافي (بمعناه الشامل في الحياة) من خلال ما تنتجه النخبة المركزية من أفكار تتصل بكيفية إنتاجها للمجتمع . ويورث هذا السياق السوسيولوجي للثقافة المركزية سلسلة طويلة من الإشكاليات يوازي حجمها حجم التنوع في المجتمع (ديمغرافيا وثقافيا)، وتكون ـ عادة انعكاسا لمجتمع تسوده علاقات متنوعة ومتغيرة مع الثقافة المركزية (السلطة) تتوزع بين التحالف والولاء والانقسام والاختلاف والتمرد والعزلة . إلى آخر هذه السلسلة الطويلة من المواقف التي تنتج ثقافات موازية ومتصارعة أحيانا . ولعلنا نلاحظ الآن أن حجم إشكاليات الثقافة في دول الخليج يتفاوت فيها بمقدار ما ترثه من التنوع الثقافي "[1].

أي أن إحدى مشكلات الثقافة في العالم العربي ترتبط أساسا بالنخبة المركزية والتي تكون أخطر كلما كانت تحمل أجندات التدين السياسي، هذه النخب المركزية التي تسعى للتحكم في مصائر المجتمعات العربية عبر منصات المؤسسات الثقافية والعمل على قطع الطريق أمام الابداع الثقافي والإنتاج الفني الحضاري والرقي بالوعي الثقافي، حتى تستطيع مستقبلا تدجين المجتمع المدني وتوجيه الشعب نحو تمكينها من السلطة من خلال بساط عزل الثقافة الحية والحرة والعادلة عن حياة الناس.

لذلك يعد هذا المسار من المسارات الكارثية على الإنسان العربي والاستقرار العربي والنسيج الاجتماعي العربي وحتى الوعي الثقافي الديني للإنسان العربي. لأنه يشتت الفكر والفعل ويشدد الرقابة والتعطيل لكل ما يخالف نواياه غير المعلنة من خلال تعبئة الجميع ضد الجميع دون أفق ثقافي واجتماعي نزيه وسلمي. لذلك نجد أن الدول العربية البارز فيها هذا المسار، أو بروز تيارات الإرشاد الديني والتوعية الثقافية التي تعمل من أجل انخراط الجميع في هذا المسار، إما أنها أصبحت مسرحاً لصنوف التطرف والعنف والطائفية والحجر الثقافي وإنعدام حريات المعلومات والفكر والرأي أو تعيش حالة من الجمود تنبأ بأن القادم أسوأ.

عندما يدخل التدين السياسي أروقة المؤسسات الثقافية فإن المجتمع يصبح في وجه مدافع القابلية للقتل والتطهير الديني أو المذهبي أو العرقي والعنف المقدس والكل يشعر أنه يدافع عن مقدساته وتاريخه وثوابته، بينما في حقيقة الأمر يدمر مقدساته وتاريخه وثوابته ووطنه وإنسانيته وكرامته.

حيث يذكر المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي: وكلمة (تربية إجتماعية) تشترك في هذا المصير العام، فهي لا تعني شيئا إذا لم تكن-في الواقع وبما تحمل من معنى- وسيلة فعالة لتغيير الإنسان، وتعليمه كيف يعيش مع أقرانه، وكيف يكوّن معهم مجموعة القوى التي تغير شرائط الوجود نحو الأحسن دائما، وكيف يكوّن معهم شبكة العلاقات التي تتيح للمجتمع أن يؤدي نشاطه المشترك في التاريخ "[2].

أي أن التربية الإجتماعية بحاجة لنخبة أصيلة نزيهة لا تقبل فرض مشاريع إيديولوجية تلتحف القداسة الدينية لتصل إلى مآربها السياسية عبر الثقافة ومؤسساتها، حيث يصبح الخطاب والكتاب والفن والمهرجان والمعرض وما هنالك من إنتاج وفعالية ثقافية رهن التدين السياسي والفكر حبيس شفاعة العقل التراثي، لأنه ببساطة " ّإذا تصورنا التربية الإجتماعية في نطاق هذه المصطلحات أمكننا أن نلخصها في كلمة واحدة هي: الثقافة"[3]

وبحسب الدكتور عبد الجبار الرفاعي في كتابه الفذ والاستراتيجي " الدين والكرامة الإنسانية[4]: "تقترن التربية في التدين السياسي بالتخويف من المختلف في المعتقد والهوية والثقافة، لذلك تشيع بين من يتبنون التدين السياسي حالات حذر وشك وسوء ظن بالآخر، وتضمحل فيه منابع المحبة بين الناس والرحمة والعفو والغفران في التعامل معهم، بل طالما تحوّل إلى بيئة لنمو نزعات الكراهية والتعصب والإنغلاق"[5].

إن مؤسسات الثقافة في المجتمعات العربية والإسلامية، لابد من حمايتها من الأجندات السياسية كلها وخصوصا المتطرفة والخطاب الثقافي بكل أشكاله الإعلامية والمنبرية والدعوية والتربوية والفنية يصبح مهددا وعامل هدم وإنحراف إذا تخندق تحت لواء تيارات الفكر الشمولي والتدين الشكلي وخصوصا السياسي منه، لذلك هذا المسار الكاسح لفضاءات الثقافة في العالم العربي والاسلامي يمثل تحد خطير للشعوب والدول ومؤسساتها ولمشاريع بناء المجتمع المدني والدولة المدنية.

المسار الثاني:

مسار يراهن على قوة الدولة، ويسعى بكل إمكاناته للدفاع عن مبدأ الدولة المدنية  الجامعة والحاضنة لكل التنوعات. وهذا المسار ينطلق من مبدأ تجاوز الآنا القبلية والقومية والمذهبية والحزبية إلى رحاب الاجتماع الوطني الذي يثرى بالجميع، وإلى الدولة المدنية التي تتسع للجميع.

فالثقافة في إطار الدولة المدنية القوية لا تهمش أحدا من التنوعات والهويات والثقافات الهامشية، بل تشتغل على تحقيق التعارف والحوار والتعاون بينها من أجل إثراء الفعل الثقافي وتطويره ضمن أطر العقلانية والحريات العامة والموضوعية العلمية والتنافس الإيجابي وليس تفخيخ القرارات وفبركة القوانين الخاصة بالنشاط الثقافي بما يتناسب والنخب المركزية ومن يدور في فلكها، أو استحواذ رواد التدين السياسي على الكعكة الثقافية واستثمارها في مشاريع الصراع على السلطة والثروة بلا أدنى ضمير أخلاقي. لأن " هناك منفعة، مصلحة يقتنصها الجميع في سياق النظر إلى الثقافة بوصفها شراكة في الإنتاج واعترافا عقلانيا شاملا بالتنوع. سنجدها تتجسد بصورة أساسية في توفر إمكانيات أوسع وأعمق في الاستثمار الثقافي، إن سباقا حقيقيا نحو الموضوعية يتحقق من جراء استثمار التنوع. بل إن النزوع الذاتي حينئذ يتمثل بوصفه تروعا إلى الموضوعية والعلموية، ومن شأن ذلك أن يعيد ترتيب الأشياء والأولويات في ضوء استراتيجية الفعل لا رد الفعل، وفوق أرضية مهيأة لامتلاك أدوات المعرفة وإنتاجها أيضا "[6]

هذا المسار الثاني إستراتيجي بالنسبة لمجتمع يطمح أفراده في صياغة مدنية ثقافية تظهر في جميع المجالات الحياتية، هذا المسار يريد للعقل الثقافي أن يكون واقعيا واستراتيجيا لا عقلا مستغرقا في المدونات التراثية، بل عقلا يجتهد في وعي الدين والتدين وضرورات الحكمة والأخلاق في ذلك كله، فلا يؤدلج الواقع بنظريات أثبتت فشلها ولا زالت تهدد أمن الأوطان وتروع القلوب وتقتل الأحلام والتطلعات لشعوب عانت من ويلات الإرهاب والعنف بإسم الدين وحماية المقدس الموهوم، إنه مسار الإنفتاح على النص والواقع بالعقل العملي الواعي لا العقل التراثي الفقهي الضيق الذي يعود لقرون بالية، هنا لابد من الإنفتاح من باب الثقافة ونظمها ومؤسساتها الإجتماعية قبل أبواب الاقتصاد والسياسة، لأن التضييق في الحقل الثقافي بأنظمة وقوانين ولوائح لا تخدم سوى أصحابها وتياراتهم وهو قتل للثقافة ومعطل لأدواتها ومصداقيتها، فلابد من بناء قانوني سليم من أجل فعالية المؤسسات الثقافية في تنشيط الفعل الثقافي وإثراء الحرية الثقافية والحماية القانونية للمثقفين في بناء أطر ومؤسسات المجتمع الثقافي بما يزكي المجتمع المدني..

في ظل هاذين المسارين ومداراتها الجدلية، لابد من الدعوة إلى المسار الثاني لتجنيب كل الدول العربية فتن وأزمات وكوارث المسار الأول الذي يدمر الدولة والمجتمع معا والتاريخ والهويات والتراث..

و في هذا السياق يجدر بنا أن نذكر الجميع، إن الثقافة تحتوي بصفة عامة عدداً من الفصول هي: الأخلاق، الجمال، والمنطق العملي، والصناعة الفنية، ولكن الأمر يقتضينا أن نتساءل: كيف ينبغي أن ندركها في صورة برنامج تربوي يصلح لتغيير الإنسان الذي لم يتحضر بعد، في ظروف نفسية وزمنية معينة، أو لإبقاء الإنسان المتحضر في مستوى وظيفته الإجتماعية، وفي مستوى أهدافه الإنسانية، أما فيما يتعلق بحالتنا، اعني البلاد العربية والإسلامية، فينبغي أن نفكر في الإنسان الذي لم يتحضر بعد، أو الذي خرج من دورة حضارته في أزمة التاريخية معينة، كيما نحدد – بالنسبة إليه- شروط الفاعلية التي يمكن أن تقوم على منهج للأخلاق والجمال مثلاً. أي إنه ينبغي أن نحدد من أجل الإنسان الشروط الأولية التي تحقق له ما يبتغي من الثقافة.[7] الشروط التي تبدأ بحماية المؤسسات الثقافية من عشوائيات وأنانيات الإنسان الذي لم يتحضر بعد واستفرد بمصير المجتمع الثقافي ومستقبله الحضاري...

لأنه عندما تغلب العنصرية والجهوية والحزبية  على كل طرف بعنوانه الخاص، يتم التضحية بالوطن وثقافته والمجتمع وفضاءاته والدولة ومؤسساتها من أجل الذات والجهة والقبيلة والطائفة والهوية والحزب، فإن ذلك يفتح الطريق لفتن وصراعات لا يمكن تفاديها إلا ببناء الدولة المدنية السليمة وحمايتها لتكون  الحاضن لجميع التعبيرات..

وخلاصة القول: إننا ندعو جميع العرب بكل مجتمعاتهم وتنوعاتهم، لتحرير المؤسسات الثقافية والقوانين الخاصة بالثقافة والمثقفين والإنتاج الثقافي من رياح وسطوة العقل التراثي ورهانات التدين السياسي، وإلا سنكون مصداقا للقابلية للتخلف ورهن إرادات المستدمر ومخططاته الشيطانية.

***

بقلم: أ. مراد غريبي - كاتب وباحث

............................

[1] الثقافة وإنتاج الديمقراطية، إبراهيم عبدالله غلوم،ص 121، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 2002م.

[2] ميلاد مجتمع، مالك بن نبي دار الفكر (دمشق) ط 3،سنة 1986، ص 100.

[3]  ن. م ص 99.

[4] هذا الكتاب جدا مهم وأنصح بمطالعته لأنه يتضمن عصارة فكر وتجربة كما يكشف عن أبعاد وأشكال التدين وينبه لتدين رحماني أخلاقي مستبعد معزول عن واقع ثقافة ومجتمع المسلمين في الزمن المعاصر

[5]  الدين والكرامة الإنسانية، د.عبد الجبار الرفاعي، دار التنوير –مركز دراسات فلسفة الدين، ط1 سنة 2021م، ص 143.

[6] م.س، الثقافة وإنتاج الديمقراطية، ص153.

[7]  م. س، ميلاد مجتمع ص 100-101.

في المثقف اليوم