قضايا

عامر صالح: التسامح وأزمة التحول الفكري والجنسي

كثر الحديث عن التسامح في الفلسفة والأديان وعلم النفس وعلم الأجتماع وغيرها من العلوم الأنسانية لما في التسامح من قيمة اخلاقية وسلوكية في نبذ الكراهية في داخل المجتمع الواحد بكل مكوناته وبين المجتمعات العالمية التي تتنوع في بنيتها الثقافية والفكرية والسلوكية والأخلاقية أنطلاقا من مكانة الأنسان بأعتبارها قيمة اخلاقية عليا بغض النظر عن التنوع الذي تتسم به المجتمعات الانسانية بصورة عامة وكذلك الأفراد في داخل كل مجتمع.

يشهد مجتمعنا العراقي حراكا على مختلف الأصعدة السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية بما ينذر بتحولات في الأخلاق والسياسة والمرجعيات العقائدية وهي ناتجة بمجملها من انفتاح العراق على العالم الخارجي وعلى المجتمعات القريبة والبعيد عنا بفعل عوامل التواصل التكنومعلوماتية بما يجعل الناس تقترب من مختلف المعارف والابتعاد نسبيا عن عوامل الأيمان المتحجر وتتصارع هنا المسحتان السلبية والأيجابية في هذا الأنفتاح إلى جانب أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة منذ عقود تهدد المنظومة الفكرية والأخلاقية وتضفي على الصراع الدائر مسحة تدميرية تستهدف ألغاءالآخر وتشظيته واقصائه وتصفيته عن المشهد المجتمعي.

في خضم هذا الصراع المعقد هناك حراك ايجابي وإن كان بطيئ دون مستوى الطموح يجسده انتقال الكثير من الأفراد التي تمتلك جمهورا او مساحة من التفاعلي الأجتماعي المؤثرة، تنتقل من معسكرها الفكري التقليدي الى معسكر اليسار الأجتماعي وليست اليسار السياسي وقد اقتنعت الكثير من هذه الفئات أن الأسلام السياسي ليست هو الحل بل هو جزء من المشكلة وفي وسط هؤلاء حالات من المعممين والتي تظهر على وسائل التواصل الأجتماعي منتقده انتمائها السابق ومعلنة الخروج عن الطاعة العمياء.

هذه الأستثناءات يجب التعامل معها من قبل القاعدة المجتمعية برحابة الصدر والقبول والتسامح وليست بسلوكيات الرفض والتشكيك واستخدام ماضيهم ذريعة للهجوم عليهم واضفاء عدم الجدوى فيهم او اتهامهم بأنهم أناس متحايلين ولهم أجندة خاصة او التنمر عليهم في وسائل التواصل الاجتماعي واستدراجهم لمقابلات صحفية لغرض اهانتهم وتوجيه الرأي العام سلبا نحوهم. إن من ثقافة القاعدة المجتمعية اذا أرادت  تشكيل بديل مجتمعي متقدم عليها قبول الأستثناءات وتوفير فرص الاندماج السلوكي والفكري للآخرين المغايرين فهم طاقة لا يمكن الاستهانة بها ويشكلون رافدا مهما في التنوع الفكري لليسار الأجتماعي كما أن قبولهم يشكل رافدا وسدا منيعا لعدم تقهقرهم ثانية.

أزمة التسامح في مجتمعنا هي أزمة مستعصية ولا يمكن معها بناء مجتمع متسامح بتنوعاته المعرفية والفكرية والدينية والمذهبية ويتزامن هذا مع أزمة بناء دولة المواطنة التي لا تعترف بالتنوع بكل مدياته بل تختزل الدولة والمواطن بالانتماء العرقي والمذهبي وتختزل الحق بالأنتماءات الفرعية المذهبية والعرقية والمناطقية عبر تحالفات حزبية غير نزيهة بذات الصلة، ليست هدفها خدمة المكونات بل الأفساد فيها.

أزمة التسامح هذه تطال أيضا المتحولين جنسيا' وبعيد عن بعض من سلوكياتهم المخلة والتي يفترض ان يحاسب عليها القانون في ظروف عامة قانونية وحكومية صحية وبما لا يؤثر ويسيئ إلى حريات الآخرين' فأن تلك الفئات تشكل استثناء في كل مجتمعات العالم وغالبا ما يعيش الاستثناء إلى جانب القاعدة ويعيشان حالة من الحراك الداخلي بعيدا عن السبي والقتل والتنكيل.

المتحولون جنسيا هم ليس مجتمع بحد ذاته بل هم افراد في المجتمع ويخضعون كغيرهم للمسائلة والقانون حول سلوكياتهم عندما يتم التجاوز على حرية الآخرين أسوة بغيرهم في المحيط الاجتماعي ' ولكن هشاشة الدولة واجهزتها ودخول تلك الفئات في إطار مافيات تصفية ثأرية والأستعانة بالمتحولين والبلوكرية يجعل منهم أزمة مجتمعية.

لقد تطور مفهوم التسامح عبر الحقب الزمنية المتتالية حتى اصبح يعني احترام حرية الآخر وطرق تفكيره وسلوكه وآرائه السياسية والدينية، وأن التسامح يعني قبول آراء الاخرين وسلوكهم على مبدأ الاختلاف، وهو يتعارض مع مفهوم التسلط والقهر والعنف، ويعد هذا المفهوم من أحد أهم سمات المجتمع الديمقراطي الذي يطمح العراقيون لبنائه. فالتسامح مع الآخر المختلف هو ليست هبة وفضل يمن به حزب سياسي او حكومة على مكون اجتماعي او على الأفراد بل هو قيمة اخلاقية واجتماعية للمجتمعات الديمقراطية او التي تريد ان تبني مجتمع ديمقراطي، وهو مؤشر لتماسك المجتمع بكل مكوناته وهو ضمانة للسلم الأهلي والامتناع عن حروب المكونات الطائفية والمذهبية والعرقية والفكرية والسياسية. والتسامح لا يعني ابدا التهاون مع من يهدد أمن المجتمع او الدعوة الى تعريض المصالح الوطنية للخطر او التخابر مع الأجنبي ضد سيادة الوطن أو سرقة المال العام واشاعة الفساد الأداري والمالي.

وفي الدورة الثامنة والعشرين التي استضافتها العاصمة الفرنسية باريس من عام 1995 حدد المؤتمر العام لمنظمة اليونسكو معنى التسامح في اعلان (مبادئ بشأن التسامح) حيث يرى فيه ما يلي:

1ـ إن التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا. ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد. وأنه الوئام في سياق الاختلاف، وهو ليس واجبا أخلاقيا فحسب، وإنما هو واجب سياسي وقانوني أيضا، والتسامح، هو الفضيلة التي تيسر قيام السلام، يسهم في إحلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب،

2 ـ إن التسامح لا يعني المساواة أو التنازل أو التساهل بل التسامح هو قبل كل شئ اتخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية المعترف بها عالميا. ولا يجوز بأي حال الاحتجاج بالتسامح لتبرير المساس بهذه القيم الأساسية. والتسامح ممارسة ينبغي أن يأخذ بها الأفراد والجماعات والدول.

3 ـ إن التسامح مسؤولية تشكل عماد حقوق الإنسان والتعددية (بما في ذلك التعددية الثقافية) والديمقراطية وحكم القانون. وهو ينطوي علي نبذ الدوغماتية والاستبدادية ويثبت المعايير التي تنص عليها الصكوك الدولية الخاصة بحقوق الإنسان.

4 ـ ولا تتعارض ممارسة التسامح مع احترام حقوق الإنسان، ولذلك فهي لا تعني تقبل الظلم الاجتماعي أو تخلي المرء عن معتقداته أو التهاون بشأنها. بل تعني أن المرء حر في التمسك بمعتقداته وأنه يقبل أن يتمسك الآخرون بمعتقداتهم. والتسامح يعني الإقرار بأن البشر المختلفين بطبعهم في مظهرهم وأوضاعهم ولغاتهم وسلوكهم وقيمهم، لهم الحق في العيش بسلام وفي أن يطابق مظهرهم مخبرهم، وهي تعني أيضا أن آراء الفرد لا ينبغي أن تفرض علي الغير.

كما حدد الأعلان دور الدولة في اشاعة قيم التسامح وحماية المجتمعات من التعصب بمحتلف اشكاله ولخصها بما يلي:

1 ـ إن التسامح علي مستوي الدولة يقتضي ضمان العدل وعدم التحيز في التشريعات وفي إنفاذ القوانين والإجراءات القضائية والإدارية. وهو يقتضي أيضا إتاحة الفرص الاقتصادية والاجتماعية لكل شخص دون أي تمييز. فكل استبعاد أو تهميش إنما يؤدي إلي الإحباط والعدوانية والتعصب.

2 ـ وبغية إشاعة المزيد من التسامح في المجتمع، ينبغي للدول أن تصادق علي الاتفاقيات الدولية القائمة بشأن حقوق الإنسان، وأن تصوغ عند الضرورة تشريعات جديدة لضمان المساواة في المعاملة وتكافؤ الفرص لكل فئات المجتمع وأفراده.

3 ـ ومن الجوهري لتحقيق الوئام علي المستوي الدولي أن يلقي التعدد الثقافي الذي يميز الأسرة البشرية قبولا واحتراما من جانب الأفراد والجماعات والأمم. فبدون التسامح لا يمكن أن يكون هناك سلام، وبدون السلام لا يمكن أن تكون هناك تنمية أو ديمقراطية.

4 ـ وقد يتجسد عدم التسامح في تهميش الفئات المستضعفة، واستبعادها من المشاركة الاجتماعية والسياسية، وممارسة العنف والتمييز ضدها. وكما يؤكد الإعلان بشأن العنصر والتحيز العنصري فإن "لجميع الأفراد والجماعات الحق في أن يكونوا مختلفين بعضهم عن بعضٍ‘‘.

بالـتأكيد ان قيم التسامح الديني والفكري والعقائدي وقبول الآخر المختلف هو ضمانة وصمام أمان لبناء المستقبل وضمانة اكيدة لترسيخ السلم المجتمعي وهو مؤشر لديمقراطية راسخة لا تتأثر بمزاج حزب سياسي او قائد ميداني يرى في الفرقة والخداع ضالته في البقاء، والتسامح مبني على قيم الحق والعدل والجمال، فلا تسامح مع مرتشي او قاتل ارهابي او متحايل على الديمقراطية او سارق للمال العام او من يصدر الفتنة الطائفية والعرقية بواجهات محتلفة، لأن جميعها شرور والتسامح مع الشر يعني اعادة انتاجه، والتسامح هنا يعني ضمانة تطبيق القانون بالتساوي على الجميع دون تميز وحسب الأفعال.

***

د.عامر صالح

في المثقف اليوم