قضايا
طه جزّاع: جائزة المقال الصحفي
سألني أحد طلبة الإعلام يوماً: هل يمكنكَ مساعدتي على كتابة مقال صحفي؟ فأجبته بلطف معتذراً لن أتمكن من ذلك!. والحق أنني لم أكن أقصد القساوة في رده، أو البخل في تعليمه، أو بث اليأس في نفسه، إنما هذه هي الحقيقة التي اردت من خلالها أفهامه أن فن المقال لا يشبه بقية الفنون الصحفية التي تتحصل بالتعليم النظري والتطبيق العملي، ذلك لأنه مرتبط بالموهبة أولاً، وبثقافة الكاتب المتأتية من قراءاته المتنوعة ومطالعاته في شتى أنواع المعارف والعلوم والآداب ثانياً، والأهم من ذلك كله المثابرة التي تحافظ على الموهبة وتنميها، والصبر على طول التجارب حتى يتبلور الأسلوب الذي يمنح كل كاتب ملامحه وبصمته وهويته.
حكى لي أحد الزملاء ممن ترأسوا قسماً للإعلام في احدى الكليات الأهلية، أنه أراد أن يختبر طلبته في أولى محاضراته، وأن يتعرف على مستوياتهم الثقافية التي دفعتهم للتقديم إلى هذا القسم دون غيره، قياساً على ما كان عليه هو وأقرانه من الطلبة قبل خمسين عاماً، فسألهم عن دوستويفسكي هل سمعوا به؟ فلم يجبه أحداً منهم، فتنازل قليلاً، ليسألهم من هو نجيب محفوظ ؟، فحاروا جواباً، ثم تنازل أكثر ليسألهم، ماذا تعرفون عن جواد سليم؟ فتلاقت الأعين بالأعين والآذان بالآذان بحثاً عن الجواب المفقود!. كان هذا الزميل يقيس الأمور على مقاييس زمانه، يوم كان المتقدم لدراسة الإعلام مؤهلاً للخضوع إلى اختبار معلوماتي وثقافي يفتح له باب القبول في هذا التخصص الذي من أولى متطلباته أن يكون المتقدم له قد قرأ كثيراً وطالع مطالعات خارجية في المرحلتين المتوسطة والإعدادية وربما حتى في الإبتدائية، وعندما تقدم هو لدراسة الإعلام كان قد ختم القرآن الكريم مرات عديدة فتمكن من اللغة والبلاغة وحسن التعبير، واكتسب خيالاً واسعاً من قراءة القصص والروايات العربية والعالمية، وتعرف على خبايا الخير والشر في النفس البشرية من شخصيات الروائيين الروس العظام أمثال نيكولاي غوغول وتورجينيف وتولستوي ودوستويفسكي وشولوخوف، وعرف اعمال سارتر وكامو، وعاش مع رعب كافكا في صرصاره وقلعته، ومع فيكتور هيجو في أحدب نوتردام، ومع همنغواي في الشيخ والبحر، ولمن تقرع الأجراس، وقرأ أيام طه حسين، وعبقريات العقاد، وحمير توفيق الحكيم، وتماهى مع شخصيات نجيب محفوظ في ثرثرة على النيل، والكرنك، وأولاد حارتنا، وسي السيد في ثلاثية بين القصرين وقصر الشوق والسكرية، وقرأ كلاً أو بعضاً من أشعار الرصافي والجواهري والسياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وحسب الشيخ جعفر، وقصص وروايات فؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان وموسى كريدي وعبد الرحمن مجيد الربيعي. وبمثل هذه العدة الثقافية، تقدم هو وغيره من أبناء زمانه للدراسة الجامعية، ولدراسة الإعلام على وجه التحديد الذي قد يُعلِم صناعة الخبر والتقرير الخبري والريبورتاج واللقاء والتحقيق الاستقصائي، لكنه لا يُعلِم كتابة المقال الصحفي، إلا للموهوبين الذين اكتشفوا مبكراً مواهبهم في كتابة مادة الإنشاء أو التعبير خلال مراحلهم الدراسية الأولية، فعززوها بالقراءة وسعة المعرفة والثقافة الموسوعية التي تمكنهم من كتابة المقال الصحفي بأساليبهم المتعددة في الكتابة، وبمعلوماتهم وثقافتهم التي تمنح المقال قيمة وجوهراً وغاية.
أذكر أنني حضرت قبل مدة مدعواً مع عددٍ من الزملاء الصحفيين إلى مهرجان إعلامي طلابي بصفتنا مُحَّكمِين على نتاجات الطلبة، ومنها نتاجاتهم في المقالات الصحفية، وعندما عُرضت علينا بعض المقالات، فوجئنا بأسلوبها وحرفيتها، فساورنا الشك فيها، بالأخص وأنها تبدو ليست جديدة على ذاكرتنا، فعدنا إلى محرك البحث في الإنترنت لنكتشف أن كل ما عمله الطلبة أنهم اقتطعوها ولصقوها " كوبي بيست" وحذفوا إسم الكُتّاب المعروفين، ووضعوا أسمائهم عليها بغية الحصول على جائزة المقال الصحفي!. قد لا يكون الطالب مسؤولاً مسؤولية كاملة عن هذه "السرقة" الصحفية، إذ انه قد يتوهم بأن المطلوب أن يختار مقالاً صحفياً من الإنترنت ويضع عليه اسمه، نعم قد يكون بعض الطلبة بمثل هذا المستوى من الإدراك والفهم، لكن الذي يتحمل المسؤولية الأكبر هو التدريسي الذي يُفترض أن لا تمر عليه مثل هذه المقالات المسروقة، مثلما يُفترض أن يوجه الطلبة توجيهاً صحيحاً بالاعتماد على أنفسهم، وعلى مواهبهم في الكتابة إن وجدت، وأن يعمل على تنميتها وتحفيزها وتشجيعها في المسابقات والجوائز والدعم المعنوي.
***
د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي