قضايا
محمود محمد علي: قراءة في مشروع التراث والتجديد لحسن حنفي
في عام 1980 صدر كتاب للدكتور حسن حنفي "التراث والتجديد"، وكان هذا الكتاب بمثابة مقدمة لمشروعه النظري الفكري، وفي هذا يعلن حسن حنفي إلى أنه مشغول بالتراث الإسلامي السني ويدعو إلى تجديده وذلك من خلال أحداث ثورة في فهمنا للتراث، والغاية عند حسن حنفي ليست التراث نفسه، بل الواقع الذي نعيشه نحن وتثويره، والطريق إلى تثوير الواقع هو تثوير التراث من خلال إحداث نوع في فهمنا للتراث لأنه التراث ليس مجرد أفكار منفصلة عن حياتنا، وإنما التراث يعيش معنا، ونعيش به، ونحن نفكر بالطريقة التي يمليها علينا التراث، ونختار وفقًا لشروط التفضيل التي يمليها علينا التراث، ونتصور العالم كما رسمها لنا التراث، ومن ثم إذا أردنا تغيير واقعنا ينبغي قبل ذلك أن نغير تصوراتنا.
فالثورة الصناعية في البلاد النامية لم تحدث إلا بعد أن قامت ثورة ثانية، وهي الثورة المعرفية، ولذلك النهضة عند حسن حنفي تسبق التنمية، وأما التجديد لديه فيعني إعادة تفسير التراث طبقا لحاجات العصر، وذلك لأنه إذا كان التراث يشكل واقعنا، فينبغي إذن أن نشكل التراث وفقًا لحاجتنا حتى لا يشكل واقعنا وفق احتياجات عصر آخر ولد فيه.
وهنا لا يقصد حسن حنفي أن التراث بكامله متهم، فهو يعتقد أن التراث في كل أمة هو مصدر من مصادر قوتها، والتراث العربي في يوم ما كان مصدر من مصادر قوة المسلمين، ولكن ما يصلح للأجداد قد لا يصلح للأحفاد .
وهنا نجد أن حسن حنفي يقدم نفسه كمفكر إسلامي، لا كمفكر عروبي، ويقول عن نفسه بأنه فقيه يريد أن يجدد للمسلمين دينهم، وهو يعترف بذلك في مقدمة كتابه " من العقيدة إلى الثورة،بالمجلد الأول ؛ ولا أنسى ما قاله لجورج طرابيشي عقب ندوة " العقلانية والعقلانية العربية " التي انعقدت في تونس في 1986: أيها الأخ جورج، أترى هذا الذي يكلمك ؟ إنه ليس حسن، بل حسنان . فهناك حسن حنفي الفيلسوف، وهناك حسن حنفي النبي . وما دمت قد عقدت العزم على الكتابة عن حسن حنفي، فرجائي عندك أن تدع حسن حنفي النبي جانبًا، وأن تكتب فقط عن حسن حنفي الفيلسوف .
في موقفه من التراث، كان حسن حنفي يعتقد أنه قد احتار موقفًا وسطًا بين موقفين متطرفين: الموقف الأول، وهو يرى أن التراث مكتف بذاته، وليس في الإمكان أحسن مما كان، ولا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وهو موقف جمهرة الإسلاميين، وإن جزء منهم يرون أن التراث ليس خال تمامًا من العيوب، ولكن يعتقدون أن إصلاحه ممكن، والبناء عليه واجب .
ويعتبر حسن حنفي أن دعاة هذا الموقف متطرفون. والموقف الثاني: فهو يرى أن التراث لا يحتوي على أي عنصر من عناصر التقدم، بل إنه جزء من تاريخ التخلف، والارتباط به سبب من الاغتراب عن الواقع، ومن ثم نجد دعاة هذا الموقف يختارون الفكر الجديد القادم من أوروبا، وهو الفكر الأوروبي الغربي الحديث والذي يعتقد أنه مكتف بذاته أيضًا، وأصحاب هذا الموقف هم العلمانيون الواقعون خارج الدائرة الإسلامية .
ويعتقد حسن حنفي أن الموقف كلاهما على خطأ، فأصحاب الموقف الأول يتهمهم بالنفاق والعجز والنرجسية، بينما يصف أصحاب الموقف الثاني بقصور النظرة العلمية وتقليد الغرب، وبالازدواجية، ويرى حسن حنفي أن الصوب هو التوفيق بين التراث والتجديد والأخذ من القديم بما يتفق مع العصر، وإرجاع الجديد لمفاهيم القديم، وهو موقف كما قال " يستوعب مزايا الموقفين السابقين، وأن يتخلى عن عيوبهما".
ثم يتحدث حسن حنفي عن عيوب المحاولات السابقة التي حاولت تجديد التراث، سواء من داخله، أو من خارجه، والتجديد من خارج التراث هو تأتي بمنهج أوروبي حديث، وتقيس التراث عليه كما فعل " عبد الله العروي " مثلا .
والتجديد من داخل التراث يتم عن طريق إبراز أهم الجوانب التقدمية في التراث وقدرتها على تلبية حاجات العصر مثل إبراز فكرة الاتجاهات العقلانية عند العرب؛ وبالأخص المعتزلة، أو نظريات الإسلام في الشورى مثلًا، وكل هذه المحاولات عند حسن حنفي تتسم بالنظرة الجزئية، والمطلوب في نظره النظرة الكلية الشاملة كما فعل هو أو كما يظن أنه فعل. وما دام أن العلة في التراث هو جزء من تكويننا الذهني والنفسي، فينغي الذهاب كما يقول حسن حنفي إلى مركز هذا التراث لكي يبدأ التجديد من هناك، هنا نتساءل ما مركز هذا التراث ؟
ويجيبنا حسن حنفي فيقول: مركز التراث يتمثل في علم أصول الدين، وعلم أصول الفقه، وأصول الدين يناقش مركز العقيدة، متمثلًا في الغيب وعلاقة الإنسان فيما وراء هذا الغيب من خلال معرفة الإيمان، والملائكة، والقضاء والقدر،...إلخ. أما أصول الفقه فيتعلق بمعرفة الأحكام من خلال الأدلة التفصيلية، أصول الفقه في نظر حسن حنفي نعبر عنه بالفقه الإسلامي، في حين أصول الدين نعبر عنه بالفكر الإسلامي.
وأصول الدين وأصول الفقه يمثلان فقط مجرد محور واحد من محاور مشروع حسن حنفي الفكري، حيث أن مشروع حسن حنفي يعمل على ثلاث محاور: التراث والتجديد، ونقد الحضارة الغربية الحديثة ويجسده كتابه في "مقدمة في علم الاستغراب"، وإعادة تفسير الواقع.
وفيما يخص المحور الأول من مشروع مقدمة في الاستغراب وهو التراث والتجديد قال " حسن حنفي" أن أصول الدين هو العلم الذي يمد الجماهير بتصوراته عن العالم، وكذلك يمدهم ببوائق السلوك، وهو مثله كمثل الايديولوجيا السياسية، حيث يتصور " حسن حنفي" أن المسلم يرى العالم والتاريخ والمستقبل بطريقة مغايرة عن غيره، وهي طبيعة الايديولوجيا، والعقيدة في امكانها أن تصنع ذلك، فمثلًا الماركسية تمثل أيديولوجيا من خلال النظر إليها على أنها نظرية في تفسير العالم، بحيث تدفع معتنقها لاتخاذ سلوك معين في الحياة ومن ثم فأصول الدين هو بمثابة أيديولوجيا سياسية للجمهور أو الشعوب، خاصة بعد أن فشلت الأيديولوجيا الألمانية عن تحقيق أهداف الجماهير .
والسؤال الآن: ما المطلوب من أصول الدين ليصبح أيديولوجيا ؟
ويجيبنا " حسن حنفي" فيقول: أن أصول الدين عامل ثورة وتحرير للإنسان، وأصول الدين الآن نراه لا يخدم الإنسان المسلم لكونه مشغول بعالم الغيب، وكان من المفترض أن يركز على الواقع الذي يعيشه المسلم، ولذلك كان ينبغي على أصول الدين أن يتحول من كونه علم يبحث في الغبيات وأمور العقيدة إلى علم للصراع الاجتماعي، وكذلك كان ينبغي أن يكون من مهام أصول الفقه تشكيل جبهة إسلامية واحدة من دول أسي وأفريقيا ضد المخاطر الإسلامية التي تواجهه المسلمين، وأصول الدين لا يقل شأنا عن الماركسية التي استطاعت مع دول أوربية كثيرة في مظلة واحدة متمثلة في الاتحاد السوفيتي السابق وجزء كبير من دول أوروبا الشرقية في القرن المنصرم، فلماذا لا يقوم أصول الدين بنفس الدور ويجمع المسلمين تحت مظلة واحدة، وذلك من خلال اتحاد إسلامي أيا كان فيدراليا، أو كونفدرالي أو أي شكل من أشكال الخلافة الإسلامية.
بيد أن هذا في نظر " حسن حنفي" لم يحدث، وذلك لكون أصول الدين قد شغلنا بأمور قضوية أخرى عن الواقع، ولهذا انتقد " حسن حنفي" أصول الدين بضراوة باستثناء المعتزلة الذين طرحوا فكرة العدل في مقابل فكرة التوحيد عند الأشاعرة، و"حسن حنفي" يؤثر فكرة العدل في مشروعه على فكرة التوحيد، ولهذا انتقد " حسن حنفي" الأشاعرة لكونهم غلبوا التوحيد على العدل، مع أن العكس صحيح في نظره، لأن العدل هو القضية اللصيقة بالواقع، بينما التوحيد مفارق للواقع، بينما مهمة أصول الدين هو تغيير الواقع .
أما أصول الفقه فيحتل مرحلة ثانية بعد أصول الدين في مشروع " حسن حنفي" الفكري، وذلك لكونه قدم النقل على العقل، وخاصة مع الإمام الشافعي في مشروعة الأصولي القائم على أدلة أربعة: الكتاب، السنة، الاجماع، القياس، وهي كلها نقلية وليست عقلية .
وهنا نجد " حسن حنفي" لا يقبل أي وصاية على العقل، لكونه يريد أن يبدأ الفقه من الواقع لا من النص، وهو دائما يعول على الواقع، وبسبب هذا المبدأ العقلاني عند " حسن حنفي" نجده يهاجم الفلسفة السنيوية ذات المنحى الإشراقي، حيث ينظر إليها أنها السبب في تأخرنا، وكان ينبغي في نظره أن تسود الفلسفة الرشدية، والتي نجحت في الغرب فأفرزت لديه فكرة العقلانية والتنوير، ولذلك كان يعتقد " حسن حنفي" أن ذروة العقلانية كانت متجسدة في فلسفة ابن رشد .
وبالعودة إلى موضوع التجديد في مشروع " حسن حنفي" الفكري، فنجده يرى أن التجديد يتم بثلاث طرق: تجديد اللغة، وتجديد المعنى، وتجديد الواقع، وأما تجديد اللغة كما يقول يتم باستعمال الألفاظ المتداولة بدلًا من الألفاظ التقليدية الموروثة، مثلا يمكن أن نستخدم كلمة أيديولوجيا بدلا من كلمة دين، وذلك لن اللفظ التقليدي لا يعبر بما فيه الكفاية عن المعنى الكامن فيه، ولا يشير بوضوح إلى المعنى المراد، بل إنه في بعض الأحيان يكون محملًا بدلالات سلبية، ولا يؤدي الوظيفة التواصلية المطلوبة منه، وأما تجديد المعنى فيتم بإعادة قراءة التراث بمنظور العصر، وأما تجديد الواقع فيتم من خلال تغيير الواقع الثقافي وإعطاء الأولوية للمعاملات على حساب العبادات، يوجد خلف كل تجديد من هذه الثلاثة، هناك كلام وملاحظات كثيرة يطول شرحها .
مما سبق يتبين لنا أن " حسن حنفي" كان مفكرا مستوعبا للتراثي – الإسلامي والغربي معا، وكلامه هنا يشهد بذلك، كما أنه كان مفكرًا عضويًا مهتمًا بنهضة مجتمعه وهذه فضيلة أخرى تُحسب له، ولكنه برغم ذلك فهو كالمهندس الذي شيد بناءً ضخما، لكنه كان قليل الجدوى، على عكس آخرين مثل "فؤاد زكريا"، لكنه كثير الجدوى، صحيح أن الإضافات التي أضافها على مستوى النظرات الجزئية في كتبه لاشك في أنها كثيرة، وأما على المستوي الكلي بالنسبة للمشروع فهي محدودة .
ولعل هذا هو السبب الذي جعل جورج طرابيشي يؤلف عنه كتابا كاملا بعنوان " ازدواجية العقل " ويصفه بأنه يمثل أيقونه رقصة المتناقضات ووحدة الأضداد، حيث يقول طرابيشي:" أول ما يلفت النظر في كتابات حسن حنفي قدرة كاتبها شبه اللامحدود على مناقضة نفسه، فهو لا يضع قضية إلا لينفيها، ولا يبدي رأيا إلا ليقول عكسه، وهذا ما أباح لأحد نقاده أن يتطرف في القول إلى حد التجريح فيتساءل عما إذا كان في قدرة حسن حنفي أن يظل محتفظا بقواه العقلية سليمة بعد أن يتراقص مع كاتبنا في حلقة المتناقضات الجنونية التي تدور فيها معالجته للموضوع ؟
ولكن لندع جانبا النقد ضد مشروع حسن حنفي فالرجل له وما عليه، ويكفي أن مشروعه في التراث والتجديد حمل لنا هموم الإنسان فكرًا وواقعًا في العالم العربي، وهو يقاوم لإبداء الموقف الحضاري من التراث العربي الإسلامي، ومن التراث الغربي، ومن الواقع بأبعاده الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والثقافية، والفكرية، والفلسفية، وفكره بلا شك يرقى إلى البناء النسقي المنظم بالمعنى الفلسفي، بحيث تحقق الفلسفة وجودها، ويحقق الفكر ذاته من خلال التقسيم المألوف لمباحث الفلسفة إلى ثلاثة: مبحث المعرفة، مبحث الوجود، مبحث القيم، وهو تقسيم يحفظ للمشروع انسجامه وأتساقه المنطقي وللفلسفة وجودها الفعلي وللفكر وحدته .. فتحية للدكتور حسن حنفي وهو الآن بين يدي الله، والذي بموته كشف عن وجود فراغ في المشاريع الفكرية الآن في مصرنا الحبيبة.
***
د. محمود محمد علي - كاتب مصري
............................
المراجع:
1- حسن حنفي: التراث والتجديد .
2- فصول، حسن حنفي ومشروع تجديد التراث، يوتيوب،
3- بو بكر الجيلالي: مشروع التراث والتجديد عند حسن حنفي.