قضايا
ليلى بو: ماذا يعني التحول من الورق إلى الشاشات فى نظام قراءتنا؟
بقلم: ليلى بو
ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم
***
من الثابت أننا نستوعب بشكل أقل عند القراءة على الشاشة. لكن لماذا؟ وهل يمكننا أن نفعل شيئًا لتحسين قرائتنا على الشاشة ؟
القراءة فعل شائع جدًا لدرجة أنه من الصعب تقدير حجم التحدي الذي تشكله على العقل البشري. عندما تقرأ هذه الجملة، فإنك تستخدم الأشكال المرئية للكلمات للوصول إلى معانيها ونطقها من الذاكرة، ثم تستخدم هذه المعلومات، والأنظمة العصبية التي تطورت للغة المنطوقة، لبناء وحدات أكبر من المعنى: العبارات والجمل والحديث الموسع. والقراءة اختراع ثقافي حديث نسبياً؛ فدماغنا لم يتطور ليقرأ. فقط بعد سنوات من التعليم والممارسة يتعلم الناس تنسيق أنظمة الدماغ اللازمة لدعم القراءة الماهرة. وهذه العملية صعبة بطبيعتها، كما يتضح من حقيقة أن نسبة كبيرة من الناس يكافحون من أجل تحقيق إتقان القراءة على الرغم من تمتعهم بذكاء عادي وفرص للتعليم.
توقف الآن وفكر في كيفية قراءتك لهذا المقال. من المؤكد أنك تستخدم جهازًا رقميًا مثل الكمبيوتر أو الهاتف الذكي أو الجهاز اللوحي أو القارئ الإلكتروني. هذه الحقيقة البسيطة تستحق التأمل، لأنه في العقد الماضي فقط أصبحت التكنولوجيا المطلوبة للقراءة الرقمية منتشرة في كل مكان. أدى هذا التحول من قراءة الكثير من الكتب والمجلات والصحف التقليدية إلى الوسائط الرقمية إلى إحداث تغيير واضح واحد على الأقل: فقد وضع ثروة المعلومات التي جمعها جنسنا البشري تحت تصرفنا المباشر. وقد أثر هذا على كيفية استخدام الأشخاص للمعلومات، ومن الأمثلة على ذلك أن قراء المحتوى الرقمي يجب أن يمارسوا التفكير النقدي لغربلة كميات المعلومات التي في متناول أيديهم.
في ضوء هذه التغييرات، قد يتساءل المرء ما إذا كان استخدام الأجهزة الرقمية قد أدى إلى تغيير طبيعة القراءة أو جودتها، وكيف ؟. ربما لاحظت، على سبيل المثال، أنه يبدو من الصعب عليك التركيز عندما تقرأ شيئًا ما عبر الإنترنت مقارنةً بقراءة كتاب مطبوع. هل يُحدث فرقًا بالفعل ما إذا كنت تقرأ قطعة من الكتابة على جهاز كمبيوتر محمول أو على قطعة من الورق؟ لقد قمنا مؤخرًا بمراجعة الأبحاث العلمية التي تتعلق بهذا الموضوع، وبناءً على هذه النتائج، يمكننا تقديم بعض الإجابات المحتملة.
لنبدأ بالنظر في النصوص المستخدمة للقراءة والكتابة. تختلف هذه الأنظمة عبر الثقافات، كما توضح المقارنة بين اللغة الإنجليزية والصينية المكتوبة. ومع ذلك، على الرغم من الاختلافات الكبيرة بين النصوص، فإن العمليات العقلية الكامنة وراء القراءة تبدو متشابهة بشكل ملحوظ. ولعل أفضل دليل على ذلك يأتي من تجارب تصوير الدماغ التي تظهر التقارب في المناطق القشرية التي تدعم قراءة لغات مثل الإنجليزية والصينية. يوضح هذا البحث أن نفس المناطق تشارك في المعالجة البصرية للكلمات المطبوعة ومن ثم استخدام معاني تلك الكلمات لبناء معاني العبارات والجمل.
بناءً على هذه النتائج، يمكن للمرء أن يتوقع أنه لن تكون هناك اختلافات كبيرة بين قراءة النص الورقي والنص الرقمي. ففي نهاية المطاف، إذا كانت النصوص المختلفة لها تأثيرات ضئيلة على كيفية قراءتنا، فلماذا يكون للطريقة التي يتم بها عرض النص أي عواقب على كيفية قراءته وفهمه؟ ولكن هناك نتائج بحثية تجريبية تشير إلى خلاف ذلك.
أحد هذه النتائج هو تأثير دونية الشاشة. وكما يوحي الاسم، يشير هذا التأثير إلى دليل على أن النص المقروء على الشاشة الرقمية، في حالة تساوي الأمور الأخرى، يكون مفهوما بشكل أسوأ من نفس النص المقروء على الورق. إذا كنت تقرأ هذه المقالة عبر الإنترنت، على سبيل المثال، فقد يكون فهمك لمحتواها (على الأقل إلى حد ما) معرضًا للخطر. بعد قراءة المقالة، قد تتمكن من الإجابة بدقة على الأسئلة حول جوهرها، ولكن ليس بالضرورة أن تكون قادرًا على الحديث عن التفاصيل كما لو كنت قد قرأتها على الورق. وقد تم التحقق من هذا العامل المؤثر عبر لغات وأنظمة كتابية مختلفة، مما يشير إلى قوته.
ومع ذلك، فقد قدمت بعض الدراسات أدلة على أن حجم هذا التأثير يتأثر بعدد من المتغيرات. أحد هذه المتغيرات هو طبيعة النص: يبدو أن فهم النصوص السردية (التي ينغمس فيها القراء في القصة) أقل تأثراً بكيفية عرض النص، مقارنة بفهم النصوص التفسيرية. لذا، إذا كنت تتعامل مع رواية مشوقة بدلاً من دراسة كتاب مدرسي، فمن غير المرجح أن يتأثر فهمك للنص بكونه موجودًا على الشاشة أو مطبوعًا. هناك متغير مهم آخر وهو مقدار الوقت المتاح للقراءة، حيث يكون تأثير دونية الشاشة أكبر عندما يكون القراء تحت ضغط القراءة السريعة. إذا كان عليك قراءة شيء ما بسرعة كبيرة، فمن الأفضل أن تقرأه مطبوعًا. هناك بعض الأدلة على أن مهارة القراءة تعد متغيرًا مهمًا أيضًا، حيث يكون تأثير الدونية أمام الشاشة أكثر وضوحًا بالنسبة للقراء الأقل مهارة.
تشير إحدى الدراسات في عام 2020 إلى أن تأثير دونية الشاشة قد يزيد من تعرض القراء للمعلومات الخاطئة، مما يجعلهم أقل عرضة لملاحظة التناقضات المهمة في محتوى النص الذي يتم عرضه رقميًا. والنتيجة العملية الواضحة هي أن الناس قد يكونون أكثر عرضة للتضليل من خلال ادعاءات كاذبة يقرؤونها على الإنترنت - حيث يمكن العثور على الكثير من المعلومات الخاطئة (إن لم يكن معظمها) في هذه الأيام.
ما تزال أسباب تأثير دونية الشاشة غير مفهومة جيدًا. وقد يعكس جزئيًا جفاف العين والتعب البصري الذي ينتج أحيانًا عن القراءة على الشاشات. ولكن يمكن أن يكون التأثير أيضًا مرتبطًا بكيفية تحكم القراء في أفكارهم وسلوكياتهم. وفقًا لهذا الرأي، نظرًا لأن معظم القراءة الرقمية تتضمن الحصول السريع على المعلومات من منشورات وسائل التواصل الاجتماعي والمقالات الإخبارية القصيرة ورسائل البريد الإلكتروني عبر الإنترنت، يفشل القراء في تقدير أن القراءة السطحية للغاية الكافية لفهم جوهر هذه النصوص القصيرة والبسيطة لن كافية لفهم النصوص الطويلة الأكثر صعوبة أو تعقيدا.
ومن خلال هذا الاعتبار، يعكس تأثير دونية الشاشة سوء تطبيق إحدى استراتيجيات القراءة (قراءة النصوص القصيرة والبسيطة) على موقف آخر غير مناسب (قراءة نصوص أطول وأكثر تعقيدًا). على سبيل المثال، قد يتجاهل القراء الذين يقومون بالتصفح السريع الكلمات الوظيفية الأقصر (مثل "a" و"the") التي تلعب في الغالب أدوارًا نحوية مهمة ، وبدلاً من ذلك يركزون انتباههم على كلمات المحتوى الأطول التي تميل إلى نقل المعنى الأكبر. على الرغم من أن استراتيجية القشط هذه قد تكون كافية لفهم جوهر النص القصير، فإن أي معلومات مفقودة عن طريق تجاهل الكلمات الوظيفية من المتوقع أن تؤدي إلى سوء فهم النصوص الأطول والأكثر تعقيدًا، حيث تكون الأدوار النحوية مطلوبة لمعرفة "من فعل ماذا ولمن.
هناك بالفعل سبب للاعتقاد بأن القراءة تنطوي على استخدام أنواع مختلفة من الاستراتيجيات. يأتي أحد مصادر الأدلة المقنعة من مثال شائع آخر للقراءة الرقمية: قراءة الترجمات في الأفلام والتلفزيون. يستخدم الكثير منا الترجمات لمشاهدة الأفلام أو البرامج باللغة الأجنبية، وقد أصبح استخدامها أكثر انتشارًا منذ بداية جائحة كوفيد-19- لا سيما في مجال التعليم، حيث غالبًا ما تحتوي مقاطع الفيديو التعليمية عبر الإنترنت على ترجمات. في مواقف القراءة متعددة الوسائط هذه، يجب على الأشخاص تنسيق قراءتهم للترجمات المصاحبة (التي يتم عرضها لفترة زمنية محددة) مع المعالجة المطلوبة أيضًا لفهم الفيديو والمعلومات السمعية.
في تجربة أجريت عام 2020 توضح كيفية قيام الأشخاص بذلك، تتبع الباحثون حركات أعين القراء أثناء قراءتهم للترجمات المصاحبة في فيلم وثائقي. مع زيادة معدل عرض الترجمة من 12 إلى 28 حرفًا في الثانية، قام القراء بتعديل سلوكهم استجابةً لانخفاض الوقت المتاح لقراءة الترجمة. تضمنت هذه التعديلات القيام بحركات عين تقدمية أوسع، وحركات عين تراجعية أقل نحو مناطق الترجمة السابقة، وأوقات مشاهدة أقصر للكلمات الفردية في الترجمة. تشير عمليات المحاكاة باستخدام نموذج حاسوبي للتحكم في حركة العين في القراءة إلى أن هذه التعديلات هي استراتيجية تعويضية، وأن هذه الاستراتيجية تستخدم لفهم جوهر الترجمة إما عن طريق تجاهل الكلمات الوظيفية القصيرة (كما ذكرنا سابقًا) أو السماح فقط بأقصى قدر ممكن من الوقت لتحديد الكلمات الفردية.كما تشير هذه العروض التوضيحية إلى أن القراء يحاولون تكييف سلوك القراءة "العادي" لديهم لاستيعاب أي متطلبات إضافية قد تفرضها القراءة الرقمية.
ماذا تقترح مثل هذه النتائج حول مستقبل القراءة في عالم مليء بالأجهزة الرقمية؟ على الرغم من أنه من الصعب أن نقول الكثير عن كيفية تغير القراءة في المستقبل، إلا أن هناك سببًا للتفاؤل بشأن تكنولوجيا القراءة وفوائدها المحتملة. فقد أدى انتشار هذه التكنولوجيا إلى زيادة فرص المشاركة في القراءة واتساع نطاق المواد المتاحة. يمكن أن تشمل التعريفات المستقبلية لما يعنيه أن تكون قارئًا "ماهرًا" القدرة على استخدام تقنيات القراءة المختلفة لدعم أهداف مختلفة - على سبيل المثال: قراءة النصوص الورقية لتعزيز الفهم العميق للموضوعات المعقدة أثناء استخدام القراءة الرقمية للترفيه أو التواصل بين الأشخاص أو قراءة النصوص غير المتوفرة بطريقة أخرى. بالإضافة إلى ذلك، من الصعب التنبؤ بالتطورات التكنولوجية المستقبلية، لذلك من الممكن أن توفر الكتب الإلكترونية الحديثة، من النوع الورقي، يوما ما مزايا القراءة الرقمية دون تكاليف.
ومع ذلك، نظرًا لأن العديد من القراء يقرؤون بشكل كبير على الشاشات (كما تفعل هنا على الأرجح)، قد يكون من المفيد بالفعل محاولة تعديل استراتيجيات القراءة عمدًا بناءً على أهداف القراءة الخاصة بك. يمكن القيام بذلك عن طريق إبطاء قراءتك على الشاشة عندما يكون الهدف هو فهم موضوع صعب، أو اختيار تنسيقات تحتوي على عدد أقل من التشتيتات البصرية، مثل اللافتات الإعلانية، التي قد تؤدي إلى تشتت الانتباه لكي تقرأ على النحو الأمثل في العصر الرقمي، يجب أن تضع في اعتبارك أهدافك، ثم تختار نهج القراءة - بما في ذلك الوسيلة - الذي يدعمها على أفضل وجه.
(انتهى)
***
............................
الكاتبة: ليلي يو/ Lili Yu (محاضر في علم النفس، جامعة ماكواري، سيدني، أستراليا) تعمل ليلي يو محاضرة في علم النفس بجامعة ماكواري في سيدني. يستخدم بحثها تتبع العين وتصوير الدماغ لدراسة القراءة عبر اللغات وأنظمة الكتابة المختلفة. وقد قامت بتأليف أكثر من 20 مقالة بحثية وكتابًا عن قراءة اللغة الصينية.
مقتطفات:
يكون تأثير دونية الشاشة أكبر عندما يكون القراء تحت ضغط القراءة السريعة .
من الممكن أن توفر الكتب الإلكترونية الحديثة، من النوع الورقي، يوما ما مزايا القراءة الرقمية دون تكاليف.
المقال منشور على موقع مجلة سايكى، بتاريخ 11 ديسمبر 2023 م وفيما يلى رابط المقال:
https://psyche.co/ideas/what-does-switching-from-paper-to-screens-mean-for-how-we-read