آراء

علاء اللامي: الديموقراطية التوافقية في بلجيكا والسويد وهولندا.. مقارنة من الداخل

لنبدأ من بلجيكا، يتألف المجتمع البلجيكي قوميا ولغويا من مجموعتين سكانيتين رئيستين هما الفلمنكيين الشماليين الناطقين بالفلمنكية والوالنيين "الفالونيين" الناطقين بالفرنسية. وهناك أقلية ناطقة بالألمانية، وأقليات أخرى أصغر منها. أما دينياً فغالبية البلجيكيين مسيحيون كاثوليك بنسبة تصل إلى 31، ونسبة البروتستانت والأرثوذوكس بحدود 3%. الإسلام هو الدين الثاني فيها بنسبة تتراوح بين 6% و7.6%. وغالبية المسلمين من العمال المهاجرين. وهناك 59% من السكان لا ينتمون إلى أي دين في عام 2023.

* بلجيكا إذن، دولة اتحادية ذات نظام سياسي متعدد الأحزاب، وفي الحقيقة لا يمكن لأي حزب من هذه الأحزاب أن يحصل على السلطة بمفرده نظرا للتنوع اللغوي وتشتت الكتلة الناخبة، ومن ثم يجب أن يعمل بعض الأحزاب مع بعض لتشكيل حكومات ائتلافية، وتبقى هناك أحزاب في المعارضة.

تنقسم جميع الأحزاب السياسية البلجيكية تقريبا إلى مجموعات لغوية، فهي إما أحزاب ناطقة باللغة الهولندية، أو أحزاب ناطقة بالفرنسية (أحزاب فرانكوفونية)، أو أحزاب ناطقة بالألمانية (أحزاب جيرمانوفونية).

والحال فإن الحكم في بلجيكا أقرب إلى صيغة الحكم السويسري فهو ليس توافقيا إلا بحدود تشكيل الائتلافات الحاكمة بين الأحزاب الكبيرة المنقسمة على الأساس التعددي اللغوي وليس الطائفي أو الديني أولاً، ثم على أساس أيديولوجي وطبقي تنقسم إلى ثلاثة أحزاب هي:

الحزب الديموقراطي المسيحي "للدينيين المحافظين الكاثوليك" والحزب الاشتراكي لليبراليين التحررين والحزب الثالث هو حزب العمل البلجيكي ذو توجهات يسارية ماركسية (تأسس سنة 1885) إضافة إلى حركة الإصلاح الليبرالية. أي أن هناك انقسامين الأول لغوي، والثاني أيديولوجي طبقي. أما الانقسام العراقي واللبناني فهو انقسام مفتعل على أساس الهويات الفرعية الطائفية أي أنه انقسام بدائي يعود إلى عصر ما قبل الدولة!

* في هولندا الأمر قريب من بلجيكا وسويسرا أيضا، فالحكم ديموقراطي تعددي تجبر شروطه الخاصة على تشكيل حكومات ائتلافية بين الأحزاب الكبيرة ضمن تقاليد تسامحية ورثتها هولندا منذ القرن الثامن عشر. ولكن الوضع السياسي في هولندا دائم التقلب وخصوصا بعد انهيار هيمنة حزب النداء الديموقراطي المسيحي وصعود ائتلاف اليسار والليبراليين الى الحكم. ثم سقط هذا الائتلاف هو الآخر بحجب الثقة وصعد ائتلاف آخر من عدة أحزاب إلى الحكم. وماتزال حالة عدم الاستقرار مستمرة. ولكن من غير الممكن تشبيه الحكم والعملية السياسية في هولندا بالديموقراطية التوافقية بنسختها الطائفية العراقية واللبنانية لأن الأحزاب الهولندية ذات وجود وامتداد وطني وليس طائفي أو عرقي وهويتها هي الهوية الهولندية الرئيسية. أما مكونات المجتمع الهولندي فهم هولنديون أصليون بنسبة عالية تصل إلى 80% وتشمل مجموعات عرقية أصلية مثل الفريزيين. وما تبقى هم من أوروبا أو مهاجرون من العالم الثالث. أما دينيا ففي هولندا نسبة عالية من اللادينيين وتصل إلى 58% والمسيحيون الكاثوليك يشكلون حوالي 20% إلى 23.7% من السكان. والبروتستانت حوالي 14% إلى 15.5% من السكان. والمسلمون 5%. إضافة الى مجموعات دينية أخرى صغيرة.

أما تجربة السويد فمختلفة وهي أبعد ما تكون عن الديموقراطية التوافقية لعصر ما قبل الدولة، مع أن المجتمع السويدي أكثر المجتمعات تعقيدا في تركيبته القومية. قوميا يتكون المجتمع بشكل أساسي من السويديين، وهم مجموعة عرقية جرمانية شمالية، بالإضافة إلى خمس أقليات قومية رسمية معترف بها. وتشمل هذه الأقليات اليهود، والغجر (الروما)، والشعب السامي (Sámi) فهو شعب أصلي في شمال أوروبا من منطقة سايمي أصلا وهم السكان الشماليون الاسكندنافيون الأصليون)، والفنلنديين السويديين، والتورنيداليين.

أما دينياً، فأكبر ديانة هي المسيحيةويشكل أتباعها نسبة %41.2، وأغلب المسيحيين هم من أتباع المذهب اللوثري"البروتستانتي" بنسبة %32.8، ونسبة %8.4 طوائف مسيحية أخرى. بينما تبلغ نسبة اللادينيين %55.4 من مجمل السكان. وتجربتها أقرب ما تكون إلى التجربة السويسرية ولكن بلا استفتاءات شعبية. فخلال معظم فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حكم السويد كلها حزب العمل الاجتماعي الديمقراطي، الذي فرض سياسات "نقابوية" مفضلاً الشركات الرأسمالية الكبرى والنقابات الكبرى، وخاصة اتحاد نقابات العمال السويدية، المشترك مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي. أما في عصرنا الحاضر فالبرلمان السويدي يتكون دستورياً من 349 نائبا وله السلطة السيادية المطلقة في السويد الحديثة. فالبرلمان هو المسؤول عن اختيار رئيس الوزراء، وهذا الرئيس هو الذي يقوم بتعيين وزراء حكومته وهو مسؤول عن تنفيذ برنامج حكومته أمام البرلمان. في حين تتمتع السلطة القضائية بالاستقلال.

وبمراجعة التجربة السويدية نجد أنها ذات سمات ديموقراطية ليبرالية تنافسية وائتلافية واضحة وليست توافقية مستنقعية "غير قابلة للتطور" كالتجربة العراقية واللبنانية فرغم كل هذا التعقيد الديني والإثني القومي لشعب مجموعه عشرة ملايين ونصف المليون نسمة نقرأ المعلومات التالية في تاريخ السويد السياسي الحديث:

في سنة 1917، لعب الحزب الديمقراطي الاجتماعي السويدي دوراً قيادياً سياسياً، بعدما أكد الإصلاحيون قوتهم وغادر الثوريون الحزب. وبعد عام 1932، هيمن الحزب الاشتراكي الديمقراطي على الحكومات. بينما أعطت خمسة انتخابات عامة فقط (1976 و1979 و1991 و2006 و2010) يمين الوسط مقاعد في كافية في البرلمان ليشكلوا حكومة. في الانتخابات العامة عام 2006 نال الحزب المعتدل المتحالف مع حزب الوسط وحزب الشعب الليبرالي والحزب الديمقراطي المسيحي أغلبية الأصوات. شكلوا معاً حكومة أغلبية في ظل قيادة الحزب المعتدل. شهدت انتخابات سبتمبر 2010 أول اختراق للديمقراطيين السويديين للبرلمان. رفضت كل من الكتلة البرجوازية والكتلة الاشتراكية تشكيل تحالف يضم الديمقراطيين السويديين. وهناك اقتراب من المساواة بين الجنسين في عضوية البرلمان من دون كوتا مفروضة كما في العراق ففي البرلمان السويدي بلغ عدد الرجال 188 عضوا ومن النساء 161 عضوة. وفي آخر انتخابات سويدية سنة 2022، أكدت النتائج أن ائتلاف اليمين انتزع الأغلبية بحصوله على 176 مقعدا، مقابل 173 مقعدا للائتلاف الحاكم حاليا (من يسار الوسط). وبلغت نسبة المشاركة في الانتخابات 84% لأن التصويت إجباري في السويد.

عدد المقاعد حسب الأحزاب:

الاشتراكيون الديمقراطيون 107 مقعدا ولم ينجحوا في تشكيل الحكومة!

الحزب المعتدل 68 مقعدا / شكل الحكومة

الديمقراطيون في السويد 73 مقعدا / داعم للحكومة

حزب الوسط 31 مقعدا /معارضة

حزب اليسار 24 مقعدا/ معارضة

الديمقراطيون المسيحيون 19 مقعدا/ في الائتلاف الحكومي.

الليبراليون 16 مقعدا/في الائتلاف الحكومي

حزب الخضر 18 مقعدا/معارضة

* الحكومة الحالية حكومة ائتلافية التي شُكلت بعد الانتخابات جاءت يمينية دفعت بالسويد إلى عضوية الحلف الأطلسي ويقودها أولف كريسترسون من الحزب المعتدل وشارك فيها الديموقراطيون المسيحيون والليبراليون بدعم من حزب الديموقراطيين، أما الاشتراكي الديموقراطي والأحزاب الأخرى ففي المعارضة! فهل هذا النظام من النوع الديموقراطي التوافقي؟

إن هذه الخلاصات تؤكد أن الحكم في السويد ديموقراطي ليبرالي عادي وليس توافقيا، تتشكل فيه ائتلافات حاكمة من عدة أحزاب عابرة للمكونات، وقريبة برنامجيا أو أيديولوجيا من بعضها، وتبقى في مقابلها معارضة فعالة من عدة احزاب، ولا علاقة للتجربة السويدية بالتجربتين التوافقيتين الطائفيتين في العراق ولبنان!

ماذا تبقى لدينا من تجارب حكم "الديموقراطية التوافقية" بعد هذا الجرد؟ لم يتبق لدينا إلا التجربة اللبنانية وهي الأقدم ثم التجربة العراقية منذ سنة 2005 وهما التجربتان اللتان حُشرا حَشرا في منظومة دول الديموقراطية التوافقية كنوع من الاحتيال أو التزوير. وقبل أن نجرد السمات العامة للتجربتين العراقية واللبنانية دعونا نلخص القواسم المشتركة للتجارب التي استعرضناها في سويسرا وبلجيكا وهولندا والسويد وهذا ما سنفعله في الجزء القادم من هذه السلسلة.

***

علاء اللامي

في المثقف اليوم