آراء
صائب المختار: النهضة العربية والنهضة اليابانية في الميزان
لماذا نجحت اليابان في نهضتها الحضارية، ولماذا فشلت النهضة الحضارية في مصر وما تبعها من الدول العربية؟ هو تساؤل مشروع يشغل بال كل فرد من أفراد المجتمع العربي، وغالباً ما يكون مصحوباً بالألم والحسرة. ليس غريباً أن تقارَن النهضة في هذين البلدين في كثير من المؤلفات والسرديات والحوارات، ذلك أن النهضة الحضارية في هذين البلدين حدثت في زمن متقارب (القرن التاسع عشر) وعاصرت مسيرة كل منهما الآخر.
من المعلوم أن اليابان نجحت نجاحاً باهراً في تحديث مجتمعها الذي كان متخلفاً بكل المقاييس الحضارية، واستطاعت أن تنهض نهضة حضارية شاملة وسريعة. وفي الوقت الذي احتاجت فيه أوروبا إلى ستة قرون لتصل إلى قمة نهضتها، احتاجت اليابان إلى سبعين عاماً فقط لتصل إلى نهضة شهد لها الجميع بالتفوّق والتقدم، حيث بدأت النهضة في اليابان عام 1868 ونضجت في زمن الحرب العالمية الثانية، حتى أن البعض أطلق عليها مصطلح " المعجزة اليابانية". وفي وقت مقارب بدأت مصر نهضتها الحضارية لتحديث مجتمعها وسارت في مسيرتها في القرن التاسع عشر، إلاّ أن هذه المسيرة تعثرت كثيراً وفشلت في بعض النواحي وانكفأت على نفسها. فما الذي حدث، وما سبب فشل النهضة في مصر والبلدان العربية؟ وما هي مقومات النهضة اليابانية التي جعلتها تنجح وبأسلوب متميّز؟
في كتابه "تأملات في التاريخ العربي" كتب شارل عيساوي مقالاً عن نهضة اليابان، قارن فيه بين النهضة المصرية واليابانية، حيث ذكر المؤشرات التي تعطي انطباعاً عاماً عن احتمالات قيام النهضة في البلدين في أواخر القرن التاسع عشر.
فعن اليابان على سبيل المثال، في عام 1881 كانت فكرة الغربيين عن اليابان هي "لا نعتقد أن اليابان سوف تصبح غنية ابداً. فالمزايا التي منحتها الطبيعة لهم، باستثناء المناخ وحب الكسل ورغبات الناس أنفسهم، تنفي ذلك، فاليابانيون جنس سعيد ويقتنعون بالقليل، فإنه ليس من المرجح أن يحققوا الكثير" وفي عام 1900م قال الغرب أيضاً "الياباني لا يمتلك أي ذكاء في مجال الأعمال".
أمّا بالنسبة لمصر فقد كانت هناك مؤشرات في التنمية الاقتصادية لعام 1913م تشير إلى إن معدل متوسط دخل المصري أعلى بقليل من الياباني، وكان نصيب الفرد المصري من التجارة الخارجية يساوي ضعف نصيب الياباني، وشبكة سكك الحديد المصرية أكثر شمولاً من اليابان. وعلى الرغم من أن المؤشرات كانت تشير إلى احتمالية قيام النهضة في مصر ولا توحي بقدرة اليابان على النهضة إلاّ أن الواقع يرينا عكس ذلك، فقد نهضت اليابان بشكل مدهش فيما تدهورت الأحوال في مصر وباقي الدول العربية من سيء إلى أسوء. فلماذا حدث ذلك وكيف حدث ذلك.
في هذا المقال، سنبحث العوامل والأسباب التي عملت على إنجاح النهضة في اليابان، ومحاولة معرفة ما كان ينقص النهضة العربية من عوامل أدت إلى فشلها وذلك من خلال مقارنة عوامل النهضة بين البلدين والمجتمعين.
نبذة تاريخية عن النهضة اليابانية
بدأت النهضة في اليابان عام 1868م عندما اعتلى العرش الإمبراطور موتسوهيتو، وسميّ "بعصر الميجي" وكلمة الميجي تعني الحاكم المستنير. كان هذا الإمبراطور من المتنورين الذي سعى لنهضة الأمة، فبدأ النهضة واستمر بها لغاية وفاته عام 1912م. قبل استلامه العرش كانت اليابان دولة متخلّفة ومنعزلة عن العالم. بدأ الإمبراطور الميجي بتحديث الجيش (كتاب استراتيجية الإدارة اليابانية د. إبراهيم عبد الله منيف) واستطاع أن يبني جيشاً قوياً يضاهي الجيوش الأوروبية من حيث التطور والبناء، بحيث أنه استطاع أن يغزو ويحتل الدول المجاورة لليابان مثل كوريا والصين وأجزاء من روسيا، وأصبحت اليابان في عهده اقوى دولة في الشرق الآسيوي. من ناحية أخرى قام الإمبراطور الميجي بإرسال ما لا يقل عن مائتي ياباني في بعثات دراسية إلى فرنسا في وقت تزامن مع البعثات الدراسية التي أرسلها والي مصر محمد علي باشا إلى فرنسا. وقد أسهمت بعثات الميجي هذه في ارتقاء النهضة والتنمية والتطور في اليابان. وظهرت أيضاً في هذا العهد صناعة البنوك كأول صناعة في اليابان، وقد سبقت صناعة النقل وسكك الحديد، وكانت الأساس والمصدر الرئيسي للتطور الصناعي. وقد ارتفع الإنتاج الصناعي لليابان خمسة أضعاف ما كان عليه قبل الحرب العالمية الأولى. بحلول الحرب العالمية الثانية أصبحت اليابان تشكل أقوى إمبراطورية في شرق آسيا واحتلت معظم دول شرق آسيا، لكنها كانت دولة قاسية ظالمة تمارس العقيدة العسكرية "أقتل احرق دمر". ثم، خسرت اليابان الحرب العالمية الثانية فاحتلتها أمريكا وفرضت عليها شروط قاسية ومهينة قبلتها القيادة اليابانية على مضض. من هذه الشروط نزع سلطة الإمبراطور، الذي كان بمثابة إله عند اليابانيين، وتجريده من كل السلطات التي كان يمتلكها ليصبح رمزاً فقط بدون أيّ صلاحيات عسكرية أو إدارية. ومُنع التسليح عن اليابان بكل أنواعه. وقد عملت أمريكا بجهدٍ وجدٍ كبير على القضاء على الفكرة القتالية "الساموراي" ونزعها من العقيدة اليابانية، ونجحت في ذلك. نتيجة لذلك، اتجه اليابانيون في هذه الحقبة إلى نهضتهم الثانية التي تميّزت بالدعوة للسلام ونبذ الحروب والتركيز على تطوير الاقتصاد والعلوم والصناعات.
مقومات وعوامل النهضة اليابانية
من المنطقي والمعقول القول بأن هنالك عوامل وأسباب ساعدت في نهضة الشعب الياباني، وأن هنالك عوامل وأسباب أدت إلى فشل أو تعثر النهضة في البلدان العربية. ولأن المقال هنا لا يسمح بالغوص في التفاصيل العميقة لكلا الطرفين لذلك سيتم التركيز على عوامل نجاح النهضة اليابانية ومقارنتها بظروف المنطقة العربية لاستخلاص العبر من التجارب والأسباب، وندرج العوامل التالية:
العامل الجغرافي
جغرافياً، اليابان هي جزيرة تقع في أقصى شرق قارة آسيا، وهي بذلك تقع في أقصى الطرف الشرقي من العالم وبعيدة جداً عن مركز العالم. وكما هو معلوم فإن مركز العالم يتمثل بمنطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، ولذلك فليس لليابان أي أهمية سياسية قد تشكل حافزاً للدول الأوروبية بالسعي لاحتلالها. بالإضافة إلى ذلك، فاليابان لا تمتلك ثروات طبيعية أو موارد أخرى يمكن أن تستفيد منها الدول الاستعمارية وتسعى لاستغلالها. ولهذه الأسباب فاليابان لم تكن هدفاً مهماً ومباشراً للتدخل الأجنبي الاستعماري مما جعلها بمنأى عن الحروب المدمرة. وبناء على ذلك فإن موقع اليابان الجغرافي عمل على حمايتها من التدخلات الخارجية والتقليل من خطر تعرضها للحروب الخارجية ذات التأثير المخرّب للبلد.
أما بالنسبة لمصر والعالم العربي، فهم يتمتعون بموقع إستراتيجي في غاية الأهمية، يتمثل بحوض البحر الأبيض المتوسط الذي يعتبر مركز العالم. بالإضافة إلى ذلك، تعتبر المنطقة العربية ممراً حيوياً لخطوط التجارة العالمية. وأيضاً، امتلاكها لكثير من الثروات الطبيعية التي يحتاجها العالم وأهمها النفط. كل ذلك جعل المنطقة العربية هدفاً مباشراً حيوياً ومهماً للدول الاستعمارية لغزو المنطقة واحتلالها، مما جعلها تدخل في حروب طاحنة على مدى التاريخ. والحروب كما هو معروف تؤدي إلى دمار شامل للبلد وخسائر بشرية كبيرة وانهيار اقتصادي وأخلاقي.
العامل البشري
يتميز أفراد المجتمع الياباني بدرجة عالية من التماسك والانسجام الاجتماعي. فالشعب الياباني يتصرف وفق معايير عالية من التجانس القومي والديني واللغوي. منذ قديم الزمان وحتى اليوم حافظ الشعب الياباني على تماسكه بتراثه وعاداته وتقاليده، وغالباً ما نأى بنفسه عن تقاليد الغرب المشينة، وابتعد عن منهج التغريب الذي يعتمد الأفكار الغربية كأساس له، فاليابانيون كانوا دائماً يرفضون التدخل الأجنبي لبلادهم.
في القرن السادس عشر، على سبيل المثال، وصل البرتغاليون إلى اليابان وبدأت حملات التبشير المسيحية الملازمة للغزو الأوروبي، حيث أن التبشير بالديانة كان وما زال يعتبر ركيزة مهمة في العقيدة المسيحية. وكانت نتيجة ذلك أن اعتنق قرابة 300 ألف ياباني الديانة المسيحية، ووصلت الأخبار إلى الإمبراطور الذي سارع لإصدار الأوامر الإمبراطورية بطرد الأوروبيين من البلاد وغَلق الحدود ومَنع التعامل مع الأوربيين، وحَظر الديانة المسيحية، فتم القضاء على الديانة المسيحية والمحافظة على الدين الرسمي للبلد (الشنتو)، والمحافظة على التراث والهوية الثقافية. دخلت اليابان بعدها في عزلة طوعية عن العالم الخارجي استمرت قرابة قرنين ونصف. في عام 1853 حاصر الأسطول الأمريكي اليابان، وأجبر اليابان على فتح التعامل التجاري وإعادة العلاقات مع دول العالم. اضطر اليابانيون تحت ضغط الحصار العسكري البحري، على قبول الشروط الأمريكية لعدم قدرتهم على مجابهة الأمريكيون عسكرياً فانتهت العزلة اليابانية، لكنهم مع ذلك ظلوا حذرين من التأثير الغربي على شعبهم.
في مقولة لبرتراند رسل "كانت اليابان دولة متخلفة اقتصادياً، لكنها لم تكن متخلفة ثقافياً". لقد حافظ اليابانيون على تعليم أفراد شعبهم، واهتموا بتعليم المرأة وتشغيلها من قبل بداية عصر النهضة (الميجي) بحيث كان ما يقرب من 40% من الذكور و10% من الاناث، متعلمين عند بداية عصر الميجي.
وفي عام 1907م، كان 97% من أطفال اليابان منخرطون في الدراسة الابتدائية، وتم القضاء على الأمية. بينما كان 93% من المصريين أميين في تلك السنة.
ولابد من التذكير أن اليابانيون مشهورين بالولاء والتفاني في خدمة الإمبراطور والوطن والشعب. فالفرد الياباني يتربى في مجتمعه على تبني أخلاقيات الصدق والأمانة والإخلاص في العمل والتفاني في حب الوطن، فالأرض عند اليابانيين مقدسة لا يجوز أن يدنسها الأجنبي. وخير مثال على ذلك سلوكهم وتفانيهم في أداء الواجب للوطن وفي وظائف الدولة العامة وشركات الصناعات والتصنيع الخاصة.
العامل الاقتصادي
اتبعت اليابان سياسات اقتصادية حكيمة وخطوات اقتصادية سريعة، أدت إلى نشؤ ثورة صناعية حقيقية وبنية اقتصادية حديثة ومتطورة ساعدت على بناء النهضة اليابانية. من مميزات النهضة الصناعية أنها تأسست بفكرة الاستفادة من السلع الأجنبية، ليس لغرض الاستهلاك فقط وإنما بهدف تفكيك السلعة المستوردة ودراسة كيفية تصنيعها ليتم فعلا انتاجها داخلياً بدلاً من استيرادها، فكانت هذه استراتيجية اقتصادية خلاّقة. وقد نجحت اليابان في مسعاها للتصنيع وتطوير الاقتصاد باعتماد الرأسمالية ودعم الخصخصة مع البقاء على سيطرة الدولة للمؤسسات الحيوية، فبُنيَت المصانع وأنشأت الصناعات الثقيلة والخفيفة والعسكرية والحديد والصلب، وتطورت صناعة البنوك العصرية، وتم إنشاء خطوط السكك الحديدية على نطاق واسع. ومما ساعد في اتخاذ هذا المسار الصناعي هو طلاب البعثات الذين أرسلوا إلى أوروبا للدراسة، فاهتموا بدراسة العلوم والتكنولوجيا أكثر من اهتمامهم بالعلوم الإنسانية والاجتماعية.
بالنسبة للدول العربية، كانت سياساتها الاقتصادية تنعكس سلباً على الاقتصاد الوطني. فهي كانت وما زالت دول مستهلكة، لم تتعلم ثقافة التصنيع والإنتاج الصناعي، ولم تهتم لها، فبقيت دول مستهلكة غير منتجة مما أدى إلى تباطؤ اقتصاد هذه الدول وضعفه. واتخذ المجتمع العربي في نهضته مسارات الثقافة الفكرية والاعتماد على الثقافة الغربية والتغريب بدلاً من التركيز على العلم والعلوم والتكنولوجيا فبقيت متخلفة علمياً وتكنولوجياً. لم تكن لدى الدول العربية خطط أو استراتيجيات اقتصادية واضحة أو ناجحة، لذلك بقيت هذه الدول تعاني من ضعف الاقتصاد وتراكم الديون وانتشار الفقر.
القيادة الحكيمة
مما لا شك فيه إن القيادة الحكيمة تعتبر من أهم العوامل التي تؤثر وتعمل على تقدم البلد ونهضته، فهي الجهة التنفيذية وصاحبة السلطة القادرة على وضع الخطط وتنفيذها لنهضة المجتمع. وهناك أمثلة كثيرة في التاريخ توضح دور القيادة السياسية في تطوير أو تدمير البلد.
بالنسبة لليابان، على الرغم من أن الإمبراطور الميجي كان رائد النهضة في اليابان ولقّب بالحاكم المستنير وأعتُبر عصره عصر النهضة، إلاّ إن حكمة القيادة لم تقتصر على حكم الإمبراطور الميجي فقط، وإنما كان معظم الحكام الذين حكموا البلاد مخلصين لوطنهم غير فاسدين ولا يسعون لمكاسب خاصة على حساب الوطن. فقد عمل الحكام، منذ قرون عديدة من قبل عصر النهضة، على إصلاح البلد. فقد حاربوا التدخلات الخارجية وحافظوا على ثقافة وتراث البلد من التأثير الغربي. كما عملوا على التخلص من الأمية، واهتمّوا بتعليم المرأة ورفع شأنها وجعلها عنصر فعّال في المجتمع، ولم يظهر أي تأثير سلبي أو معارضة من قبل حُكّام اليابان على تطور المجتمع ونهضته. ولا ننسى تبنيهم للسياسات الاقتصادية الصحيحة التي انتجت اقتصاداً قوياً متماسكاُ وأعتُبر اقتصادهم من اقوى اقتصادات العالم.
أما في مصر، فلا أحد ينكر أن والي مصر محمد على باشا أقام نهضة وطنية وثقافية في مختلف مجالات التطور، لكن مَن خلفه من أبناءه وأحفاده لم يكونوا من دعاة تطور البلدان وتقدمها بقدر ما كانوا يسعون للحفاظ على حكمهم وترفهم. فلم يُعرف في تاريخنا الحديث حاكم نادى وسعى لنهضة البلدان.
في عام 1954م، كتب شارل عيساوي مقال عن نهضة مصر قال فيه "لو قدّر لمصر أن تُحكَم في ذلك الوقت على يد حكومة وطنية ومستنيرة لكانت قد بزغت في القرن العشرين كصورة مصغرة لليابان".
الخلاصة
من المعلوم أن الثروة البشرية هي أقوى وأفضل عامل على الإطلاق في بناء المجتمع. فالإنسان الجّاد المتعلم الحكيم يستطيع أن يوجد كل ما يحتاجه لبناء بيئته إذا ما قرّر ذلك. والمجتمع الجيد ينتج قيادة جيدة.
فالإنسان هو أساس المجتمع، فإذا صَلُح المجتمع صَلح أفراده وصَلُحت السلطة، وإذا فسد المجتمع فسد أفراد المجتمع وفسدت السلطة. يقول القول الحكيم "كيف ما تكونوا يولّى عليكم".
وصلاح المجتمع يبدأ بصلاح الإنسان لنفسه، " إن الله لا يغيّرٌ ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم".
***
صائب المختار






