آراء

محمد البطاط: موقف ألبرت آينشتاين من الحركة الصهيونية

مفكرون يهود ضد الصهيونية (5)

تمثل محاولة الوقوف على التوجه الذي تبناه العالم الفيزيائي الشهير ألبرت اينشتاين إتجاه الحركة الصهيونية واحدة من المحاولات التي لا تتسم بالسهولة المفترضة كما يبدو للعيان في الوهلات الأولى، إذ ما أن يرد أسمه في هذا السياق حتى تظهر مسألة رفضه لتولي رئاسة الكيان الاسرائيلي في مطلع خمسينات القرن الماضي، وأنه الصهيوني الداعم لها في تفاصيلها وتضاعيفها، بالإضافة الى نقد هنا وهناك يتعلق بسياسات الكيان وسلوكياته، إلا أن التمحيص بدقة حول الموقف الذي تعامل عبره اينشتاين مع الصهيونية يبدو أكثر تعقيداً، ويتطلب تأنياً وتأملاً في تحولاته ومساراته.

ولد ألبرت آينشتاين في مدينة أولم الألمانية عام 1879م، لأسرة يهودية كان والده يعمل في تجارة المواد المتعلقة بالكهرباء، وقد عانى ألبرت من صعوبة في النطق في بداياته، مع عدم إنسجام في التأقلم مع المناهج التعليمية الصارمة المتبعة في ألمانيا، ومع ذلك كانت معالم النبوغ بادية عليه منذ نعومة أظفاره، ولاسيما في مجالي الرياضيات والفيزياء، إنتقلت عائلته إلى إيطاليا عام 1894م، وإلتحق بها بعد ذلك، ثم إنتقل ألبرت إلى سويسرا ليكمل دراسته فيها ملتحقاً بالمعهد الفيدرالي للتكنلوجيا في مدينة زيورخ عام 1896م، ليتخصص في الرياضيات والفيزياء، متخرجاً عام 1900م كأستاذ في هذين التخصصين، وبعد معاناة في الحصول على وظيفة، تمكن من العمل في مكتب براءات الاختراع في مدينة برن، ليستمر خلال هذه المدة في البحث والتفكير المعمقين، وليحقق في عام الانجازات الكبرى (1905م) نشر البحوث الأربعة التي ستفتح له آفاق الشهرة الناجمة عن عقله الوقّاد، وكانت تتمحور حول نظريته في النسبية الخاصة والتأثيرات الكهروضوئية وموضوعات أخرى، وبفضل منجزاته العلمية تحصّل على عمل كأستاذ في جامعة زيورخ عام 1909م، وليتنقل لاحقاً بين جامعات عدة(1).

نشر عام 1915م نظريته في النسبية العامة التي غيرت الفهم التقليدي حول الجاذبية والكون، وعلى الرغم من شهرته المتعلقة بالنظرية النسبية (الخاصة والعامة)، إلا أنه لم يحصل على جائزة نوبل للفيزياء بفضلهما، وإنما بفضل بحثه حول التأثيرات الكهروضوئية، فتم منحه الجائزة عام 1921م، عاد آينشتاين لاحقاً الى ألمانيا وعمل أستاذاً في جامعة برلين، إلا أن صعود النازية للسلطة في ألمانيا، وهو اليهودي المعروف، دفعه إلى الهجرة الى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1933م، ليعمل أستاذاً في معهد الدراسات المتقدمة في برنستون، وعلى الرغم من مواقفه السلبية من الحروب، كالحرب العالمية الأولى، إلا أنه رأى في النازية خطراً جسيماً لا يمكن الوقوف أمامه بصمت  أو حياد في الحرب العالمية الثانية، لذلك كتب هو وصديقه الفيزيائي ليو زيلارد (1898-1964م) رسالةً إلى الرئيس الأمريكي وقتها فرانكلين روزفلت (1882-1945م)، وكانت فحوى الرسالة تهدف إلى لفت إنتباه الأمريكيين إلى وجود مساعٍ ألمانية حثيثة من أجل الحصول على القنبلة الذرية، والتوصية بضرورة دعم الأبحاث العلمية المرتبطة بهذا المجال بغية الحصول عليها قبل الألمانيين، وبالفعل تبنت الإدارة الأمريكية المقترح ليتم إنشاء برنامج بحثي صغير سيتطور لاحقاً إلى مشروع مانهاتن الذي سينتهي بإكتشاف القنبلة الذرية، وسيتم إستخدامها في الحرب العالمية الثانية ضد اليابان في مدينتي هيروشيما وناغازاكي عام 1945م! ويقال أن آينشتاين ندم لاحقاً على هذه الرسالة، وهذا الدور، ليعمل لاحقاً على العمل ضمن فريق الدعوة الى نزع السلاح النووي، والمشاركة في حركات السلام وحقوق الانسان.

بقي آينشتاين يعمل في معهد برنستون ساعياً إلى إيجاد نظرية موحدة في الفيزياء (نظرية المجال الموحد) إلا أنه لم يوفق لذلك، توفي عام 1955م في الولايات المتحدة الامريكية.

ومن أجل بيان موقفه من الحركة الصهيونية، ونقاط الالتقاء والافتراق بينهما يمكن العمل عل تقديم سياق زمني يتم عبره تأشير محطات التحول في مواقفه إتجاه هذه الحركة ومنظومتها، إذ أن هذه المحطات والتحولات سببت إرباكاً للعديد من الباحثين حول حقيقة موقف آينشتاين، ومن الأهيمة بمكان الإشارة إلى أن من أهم الدراسات التي سعت إلى فك الاشتباك والإلتباس في هذا السياق هو كتاب (آينشتاين حول إسرائيل والصهيونية Einstein on Israel and Zionism  ) الذي كتبه فريد جيروم Fred Jerome (1939-2020م) الصادر عام 2009م، ,وصدرت طبعته الثانية عام 2023م، فقد كان جيروم يعتقد أن  تحريفاً كبيراً خضعت له مواقف آينشتاين بالشكل الذي أظهره أمام الاخرين على أنه صهيونياً على الدوام في متبنياته، إذ ان الكتاب يحتوي على الرسائل التي كتبها آينشتاين حول اسرائيل والصهيونية معبراً فيها عن تحليلاته ووجهات نظره بهذا الشأن.

إن من الثابت أن آينشتاين كان يؤيد فكرة (الوطن اليهودي the Jewish Homland) في فلسطين كملاذ آمن لليهود في ظل ما يُسمى بحركة معاداة السامية في أوربا، وبشكل مكثف في ألمانيا(2) ، إلا أنه لم يكن يعني بذلك دولة إسرائيل بالشكل القائم حالياً، وإنما كان يهدف إلى إيجاد تسوية تضمن مساواةً حقيقية بين اليهود والعرب في دولة لا تميز بين طرف وآخر، كما انه لم يكُ يدعو إلى أن يكون هذا الوطن حصرياً في فلطسين، وإنما دعا إلى بدائل عدة مقترحاً أماكن في الاتحاد السوفيتي أو الصين أو بيرو(3) ، إذ أن المعروف عن آينشتاين لم يكن إنساناً متديناً باليهودية، بل كان ينتمي ثقافياً لها، وإن مواقفه من الدين كانت تقترب من الدين الربوبي الذي يقوم على الايمان بالارادة العليا الموجِدة للكون، دون الايمان بالتفاصيل الدينية على طريقة الشرائع الدينية المعروفة، ومن هنا كان يؤمن فقط باهمية إيجاد خلاص لمعاناة الشتات اليهودي في الغرب أكثر من الاهتمام بأرض فلسطين من زاوية الرمزية الدينية كما يفعل ذلك الصهاينة واليهود المتدينين من غير الصهاينة، بل كان آينشتاين يعتقد، كما تنص إحدى رسائله على أن التركيز البريطاني (وعد بلفور) على فلسطين للحركة الصهيونية جاء لرغبة المصلحة البريطانية في استبعاد منافسيها كفرنسا وغيرها من فلسطين من خلال فرض الدولة اليهودية هناك، ومن المؤكد أن سيحصل الصدام العربي-الصهيوني وعند لك ستبقى بريطانيا في المنطقة(4) كصانعة سلام من جهة، ولتحافظ على وجودها في الدفاع عن قناة السويس، وكمحطة على الطرق الجوية المستقبلية الى الشرق(5)، أي أننا أمام توافق مصلحي بين الصهيونية والسلطة البريطانية، وكلاهما يتوافقان على إقامة دولة اسرائيلية في فلسطين من وجهة نظر آينشتاين.

وفي جلسة الاستماع للجنة الأنجلو-أمريكية التي تمت فيها دعوة آينشتاين للإدلاء برأيه حول المسألة، وعندما سُأل عن رغبته في دولة يهودية سياسية على طريقة الصهيونية أم كمركز ثقافي يهودي في فلسطين يعيش بتوافق مع العرب، أجاب: لم أكن يوماً مؤيداً للدولة اليهودية(6) ، إذ كان يعتقد بأن وجود اليهود في فلسطين، والعيش تحت سلطة واحدة مع العرب كافياً بالنسبة له، وليس دولة اسرائيلية تقوم بإقصاء وإستبعاد الفلسطينيين، ويعتقد بروس كاتز Bruce Katz أن السياسات التي كانت تمارسها ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى إتجاه اليهود، والمعاناة التي عاناها آلبرت لكونه يهودياً، عززت لديه الشعور الثقافي بالانتماء لليهودية، والاقتناع بضرورة السعي الى إيجاد حل للمسألة اليهودية(7) ، ويعترف آينشتاين في إحدى رسائله إلى أن الهجمة العنيفة التي حملتها معاداة السامية في ألمانيا لم تعزز عنده شعور الإنتماء الهوياتي لليهودية فحسب، بل دفعته كذلك إلى الانضمام الى الحركة الصهيونية(8) ، إلا ان الانضمام هذا لم يكن مريحاً للصهاينة على طريقة الذائبين في مشروعهم القومي، فقد كان صهيونياً ناقداً لهم، يقف على الضد من الكثير من أفكارهم وسياساتهم، وقد أدركوا ذلك، لذلك في الرحلة التي رافق فيها حاييم وايزمان (1874-1952م) الى الولايات المتحدة الامريكية عام 1921م من أجل جمع الدعم والترويج،  قام كورت بلومنفيلد (1984-1963م) وهو الذي دعا آينشتاين إلى الانضمام للصهيونية، بتحذير وايزمان من أن لا يتعامل مع آينشتاين كصهيوني، فهو ذو ميول إشتراكية(9) ، ولا يمكن التعامل معه على انه صهيوني على طريقتهم(10) ، وقد كان آينشتاين مدركاً لنظرتهم هذه تجاهه، وأنه لم يذهب بمحض إرادته، إلا أنه برر ذهابه مدفوعاً برغبة جمع التبرعات للجامعة العبرية في القدس(11) ، ويعترف آينشتاين في رسالة أخرى أنه متأكد أنهم –الصهاينة- لا يحتاجون إليه لقدراته، بل من أجل توظيف اسمه وشهرته لاقناع بعض الاثرياء في أمريكا من أجل دعم وتبني المشروع الصهيوني لوايزمان ومن معه(12).

لقد سعت الماكنة الصهيونية إلى تأكيد أن ألبرت آينشتاين كان مؤيداً لإقامة دولة إسرائيل، بينما الواقع يثبت أنه كان يدعو لوطن يهودي (Jewish Homeland) يجمع الشتات اليهودي في فلسطين ليعيشوا معاً في دولة واحدة يشاركهم العرب الفلسطينيون الأصليون على أساس المساواة أمام القانون للجميع، وتقاسم الأرض، ولم يؤيد خطة حاييم وايزمان لإقامة دولة يهودية منفصلة، بل أيّد بإستمرار فكرة دولة فلسطين ثنائية القومية، في حين كانت خطة وايزمان ورفاقه ترحيل الفلسطينيين إلى الأردن(13).

وفي أحد نصوصه يؤكد ألبرت عام 1929م، وبعد أحداث الصدامات في فلسطين، أن أرى أن الأحداث في فلسطين قد أثبتت مجددًا ضرورة بناء تعايش حقيقي بين اليهود والعرب في فلسطين. وأعني بذلك وجود منظمات إدارية واقتصادية واجتماعية مختلطة، تعمل باستمرار، ومن المحتم أن يؤدي هذا التعايش المنفصل بين الحين والآخر إلى توترات خطيرة، علاوة على ذلك، يجب إلزام جميع الأطفال اليهود بتعلم اللغة العربية(14) ، وفي رسالة صريحة إلى حاييم وايزمان أشار آينشتاين إلى أن(إذا لم نتمكن من إيجاد سبيل للتعاون الصادق والمعاهدات الصادقة مع العرب، فإننا لم نتعلم شيئًا خلال معاناتنا التي استمرت ألفي عام، ونستحق المصير الذي سيحل بنا، وفوق كل شيء، في رأيي، يجب علينا تجنب الاعتماد المفرط على الإنجليز)(15)، وكلامه يذكرنا بما قاله يعقوب إسرائيل دي هان إلى محمد أسد الذي ذكره الأخير في كتابه (الطريق إلى مكة) عندما أشار الى أن معاناة ألفي عام لليهود لم تعلمهم الاستفادة من التأريخ لحل مشكلتهم.

وفي عام 1938م، صرّح ألبرت آينشتاين تصريحاً واضحاً بأنه يفضل أن يرى إتفاقاً معقولاً مع العرب على أساس العيش معاً بسلام بدلاً من إنشاء دولة يهودية، مؤكداً أنه يعتقد أن جوهر اليهودية يعارض فكرة دولة يهودية ذات حدود وجيش وقدر من السلطة الدنيوية(16) ، وفي عام ١٩٤٨، وعقب مذبحة دير ياسين، نشر آينشتاين وحنة أرندت (1906-1975م)، وشخصيات يهودية بارزة أخرى، رسالة في صحيفة نيويورك تايمز  ينددون فيها بمناحيم بيغن (1913-1992م) وحزب بيغن باعتبارهما (متقاربين في تنظيمهما وأساليبهما وفلسفتهما السياسية وجاذبيتهما الاجتماعية مع الحزبين النازي والفاشي)(17) ، وهي رؤية تكشف عن أن المقاربة الذي تبناها آينشتان داخل المشروع الصهيوني لم تكن أكثر من التوجه الثقافي الباحث عن وجود يهودي داخل الجغرافية الفلسطينية للعيش معاً مع العرب الفلسطينيين، في حين كان المشروع الصهيوني لوايزمان وبيغن ورفقاهما يقوم على التوجه الإقصائي الاستبعادي للعرب الفلسطينيين، ولأن الصهاينة كانوا على دراية بالأهمية والرمزية التي يحظى بها آينشتاين فقد عمدوا الى توظيف هاتين الأهمية والرمزية في مشروعهم من أجل تلميع صورة السياسة التوحشية التي ينتهجونها في فلسطين وما زالوا.

وربما يمكن الإفتراض أن رفض آينشتاين للعرض الذي قدّمه ديفيد بن غوريون رئيس الوزراء الاسرائيلي وقتها لتولي رئاسة إسرائيل بعد وفاة حاييم وايزمان عام 1952م، ليس بسبب إنشغاله بالتفكير في الفيزياء والرياضيات، وأن لا خبرة لديه في التعامل مع الوظائف العامة ذات العلاقات الانسانية كما قال في إعتذاره(18) فحسب، بل يكشف عن موقفه من السياسة التي تتبناها الحركة الصهيونية في فلسطين، والتي تختلف مع المنظومة الفكرية المنهجية السلوكية التي تتبعها الحركة الصهيونية في فلسطين.

***

د. محمد هاشم البطاط

.........................

المصادر:

(1) والتر إيزاكسون، آينشتاين، حياته وعالمه، ترجمة: هاشم أحمد، ط1 1431هــــ/2010م، دار كلمة، أبو ظبي، ص31 وما بعدها.

(2) للتوسع أكثر حول وجهة نظر آينشتاين بخصوص معاداة السامية إتجاه اليهود في ألمانيا، يُنظر:

Albert Einstein, About Zionism, Speeches and Letters, translated by; Leon Simon, 1st Edition, Macmillan company, New York 1930, p33.                                                                                           (3) Bruce Katz, Einstein on Israel and Zionism, book review, on Internet; www.barakabooks.com

(4) إذ أن العقل السياسي البريطاني كان مدرك تماماً أن مسألة الانتداب البريطاني ستنتهي لاحقاً، لذلك كان السعي حثيثاً من أجل ضمان البقاء طويل الامد في الاراضي العربية.

(5) Fred Jerome, Einstein on Israel and Zionism, 2nd Edition, Baraka books printing, 2023. P23

(6) Ibid, p160.                                                                                                                                                                (7) Bruce Katz, Einstein on Israel and Zionism, book review, on Internet; www.barakabooks.com

(8) Fred Jerome, op.cit, p28.                                                                                                                                       (9) كتب آينشتاين مقالاً حول سبب ميله الاشتراكية بعنوان (لماذا الاشتراكية Why Socialism?)

(10) Bruce Katz, Einstein on Israel and Zionism, book review, on Internet; www.barakabooks.com

(11) Fred Jerome, op.cit, p44.

(12) Ibid, p44

(13) Ibid, p71.

(14) Ibid, p79.

(15) Ibid, p82.

(16) Ibid, p111.

(17) Ibid, p145

(18) يُنظر خبر عرض المنصب على آينشتاين  من قبل ديفيد بن غوريون بوساطة السفير الاسرائيلي في واشنطن في صحيفة new york times  في العدد الصادر بتأريخ 19 نوفمبر عام 1952م، على الانترنت: www.newyorktimes .com

في المثقف اليوم