آراء
الحسين بوخرطة: الأنا السياسية في تمثلات جيل Z

شهد المغرب، قبل أسابيع قليلة من موعد افتتاح الدورة الأولى للسنة التشريعية الخامسة من الولاية الحادية عشرة يوم 10 أكتوبر 2025، حدثًا سياسيًا بارزًا حمل دلالات وتأويلات متعددة. فقد تصاعدت وتيرة الاحتجاجات، وتنوّعت الاعتقالات وإخلاءات السبيل، وترافقت المشاهد بلوحات تصالحية تجسّد روح المحبة والوُدّ بين رجال الأمن والمحتجّين، حيث تبادل الطرفان التحايا والورود ورفعوا شعار: "سلمية، سلمية".
لقد أجمعت مختلف أجيال المغرب على نضج شباب جيل Z، الذي طرح لأول مرة إشكالية «الأنا السياسية» السائدة وتقاليدها الراسخة، موجّهًا رسالة واضحة مفادها أن وجودها مرتبط بمدى ترجمة كفاءتها إلى خدمات فعلية لصالح الأمة، أفرادًا وجماعات. وهكذا وجد هذا «الأنا» نفسه أمام مستجد لم يكن في الحسبان : فخطاباته التقليدية وممارساته التي مكنته لسنوات من فرض وجوده عبر استمالة الناخبين بمنطقٍ يفصل القول عن الفعل، لم تعد اليوم ذات مصداقية. لقد عصفت التطوّرات بمصادر الشرعية السياسية المعتادة، وانهار معها الوهم القديم بأن هذا «الأنا» يمثل بداية لا نهاية لها.
إن الجميع اليوم يتحدث عن أن استمرار «الأنا السياسية» التقليدية واستنباتها لن يكون ممكنًا ما دامت تتجاهل أو تنكر كونها مدينة بوجودها للآخر، أي للمواطن الناخب.
برز اليوم مفهوم «الغير السياسي» بمنطق جديد؛ فقد أحدث وقفة حقيقية تحوّلت على أرض الواقع إلى معضلة وجودية للأنا السياسية، ومصدرًا لتقييمات موضوعية تهدد بفقدانها ما ميّزها من تفردٍ وهيمنة. فالشعارات المرفوعة اليوم تعبّر بوضوح تام عن نهاية زمن اللامبالاة واللاتمييز الذي فرضه الماضي السياسي.
أصبحت النخبة السياسية تشعر بأن وجود «الغير المجتمعي» ـ أي الجمهور والشباب ـ بات محددًا لمصيرها تارة، ومهدّدًا له تارة أخرى. سرت بين صفوفها قناعة بأن هوامش الأريحية التي كانت تتمتع بها منذ الاستقلال قد ضاقت، بل هناك من يتكهّن بأن هذا الغير، أي الشباب، قد يسلب «الأنا السياسية» التقليدية هيمنتها ويجردها من خصوصيتها، وينهي احتكارها للسلطة ومصادر التأثير والتدبير الرسمي.
أمام هذا التحول البنيوي، يجد المتتبع نفسه أمام جملة من الإشكاليات الفكرية والسياسية العميقة، يمكن إجمال بعضها في ما يلي:
- هل ما يعيشه المغرب سياسيًا يُعاكس ما نستشفه من مفارقة مارتن هايدغر؟
هل بات مفهوم «الغير السياسي» مغربيًا (جيل Z) قويًا إلى درجة قد تمكنه من امتلاك سلطة إذابة النخبة السياسية المهيمنة، وحرمانها من تفردها وتميّزها؟
وهل يمكن أن تفضي هذه التفاعلات إلى ميلاد «أنا سياسية» جديدة، متصالحة مع الغير، لا تعتبره أداة أو بضاعة انتخابية موسمية؟
- هل يعيش المغرب منعطفًا جديدًا يمكن إسقاطه على فلسفة جون بول سارتر؟
أي هل يتحول هذا المخاض السياسي إلى نقطة انعطاف تجعل من «الغير» ـ خصوصًا الشباب ـ فاعلًا رئيسيًا في تحديد «الأنا السياسية» على أساس شرعية جديدة تمنح لمفهوم الوساطة مدلوله الحقيقي، وتُرسّخ الحرية كجوهر دائم للإنسان المغربي، ومصدرًا متجدّدًا لوعيه بذاته؟
- هل يمكن أن يصبح الغير في المغرب ليس «أنا آخر» مغايرًا لأناي كما عند دولوز، بل عالمًا ممكنًا منفتحًا أمامي لاكتشافه وتجريبه؟
وإسقاطًا على المجال السياسي المغربي، هل يمكن أن يرتقي دور جيل Z إلى جعل «الأنا السياسية» و«الغير» مكوّنين متلازمين لا غنى لأحدهما عن الآخر؟
- هل تُدرك الدولة أن معرفة الغير انشغال دائم؟
وأن تراكم التجربة في فهمه وتمكينه من الوعي بذاته هو السبيل لتجاوز مرحلة التشييء، والعبور نحو مرحلة المشاركة الواعية والإنتاج المشترك للقيم السياسية؟
انطلاقًا من هذه التساؤلات، يمكن القول إن تمثّلات شباب جيل Z بالمغرب تتّسم بقدر كبير من النبل والطهرانية الفكرية. فحناجرهم ترتفع منذ سنوات مطالبة بإصلاح التعليم والصحة ومحاربة الفساد، وبناء مقومات سياسية مشتركة تُشعر كل الأجيال بالفخر بانتمائها إلى مغرب الألفية الثالثة، مغرب جلالة الملك محمد السادس وولي عهده الأمير مولاي الحسن.
إنهم يطمحون إلى أن تتوحّد سواعد المغاربة في بناء وطنٍ حرٍّ ديمقراطي متوازن.
إن نضال الشباب المغربي اليوم يستتحضر أرقى المفارقات الفلسفية التي أثارها كبار المفكرين أمثال أرسطو وأوغست كونت وهيغل وغيرهم، مؤمنين بأن علاقة «الأنا» بـ«الغير» يجب أن يحكمها ميزان القيم الإنسانية.
فأرسطو يرى أن علاقة الأنا بالغير داخل الوطن لا يمكن أن تُبنى إلا على اقتسام المنفعة والحق في المتعة المشروعة، وذلك بتوطيد قيم الصداقة والمودة والفضيلة.
أما أوغست كونت فيعتبر أن تنمية هذا النمط من الصداقة يجعل من الحياة المشتركة فضاءً تسوده الثقة وردّ الجميل والاعتزاز بالتبادل الإنساني، فيغدو الغير شريكًا في الارتقاء بالفنون والإبداعات وضمان الاستحقاق في اقتسام ثمارها.
وترى الفيلسوفة جوليا كريستيفا أن تقبّل الغير والعمل إلى جانبه أمر طبيعي، وأن رفضه أو معاداته حالة مرضية. فالأنا، في جوهرها، تحتوي الغريب بداخلها، ولا يمكنها أن تعادي الغرابة لأنها مصدر الفضول والطموح نحو اكتشاف عمق العلاقة الإنسانية المشتركة.
وفي الختام، يمكن القول إن ما يصبو إليه شباب جيل Z بالمغرب هو تغليب الفضيلة بين المغاربة بمختلف مراتبهم وانتماءاتهم الثقافية والاجتماعية.
إن استغلال «الأنا» السياسية أو الاقتصادية للجماهير بمنطق التوحش الليبرالي، تحت ذريعة الجهل والفقر أو السعي لتكريسهما، لا يؤدي إلا إلى تعميق العداوة بين أبناء الوطن الواحد.
نعم لتحويل الحياة في المغرب إلى منافسة شريفة قائمة على التضامن والتآزر، ولا للصراع المولّد للكراهية والاستبداد.
فالمغرب لا يحتاج إلى منتصر متباهٍ ولا إلى مهزوم مكلوم، بل إلى مجتمعٍ يُعلي من شأن السلم والاستقرار، ويطمح إلى توسيع هوامش الحرية، وضمان الحق في اكتساب المهارة والقدرة على التنافس في إنتاج المنافع والخيرات.
***
الحسين بوخرطة