آراء

عبد السلام فاروق: تناقضات الرأسمالية المعاصرة

نبوءات ماركسية تتحقق في عصر التكنولوجيا

لو أمعن كارل ماركس النظر في المشهد الاقتصادي العالمي الراهن، لوجد أن تحليلاته الجوهرية التي صاغها قبل قرنين من الزمان لا تزال تخترق أعماق الواقع المعاصر بقوة تحليلية مذهلة. فها هي الرأسمالية المتوحشة تبلغ ذروة تناقضاتها الداخلية: سبع شركات تكنولوجية عملاقة تحتل عرش الاقتصاد العالمي بقيمة سوقية مجتمعة تصل إلى واحد وعشرين تريليون دولار، تقترب من الناتج القومي الأمريكي البالغ سبعة وعشرين تريليون دولار، وتتفوق بوضوح على الناتج القومي الصيني البالغ سبعة عشر تريليون دولار.

وفي المقابل، يشهد سوق العمل الأمريكي تراجعاً مثيراً للقلق، حيث لم يستطع خلق سوى اثنين وعشرين ألف وظيفة جديدة خلال الشهر الماضي، بدلاً من المليون وظيفة التي كانت متوقعة. وهذا ليس سوى تجسيد حي لظاهرة "التراكم المفرط لرأس المال" التي حذر منها ماركس، والتي تؤدي حتمياً إلى الاستقطاب الطبقي الحاد وتمهد الطريق للثورة الاجتماعية.

آلية التراكم الرأسمالي: من التحليل النظري إلى الواقع المرير

يصف كارل ماركس في عمله البارز "رأس المال" الآلية الجوهرية للتراكم الرأسمالي التي تؤدي إلى تركيز الثروة في أيدي قلة من الرأسماليين، بينما تغرق الأغلبية الساحقة في هوة البروليتاريا الفقيرة. واليوم، نشهد هذا التناقض بأبشع صوره: الشركات السبع الكبرى (بما فيها جوجل وأبل وتسلا) تكتسح القيمة السوقية العالمية، حيث تمثل وحدها ستة وثلاثين بالمائة من مؤشر إس وبي 500. وفي الجهة المقابلة، يعاني الاقتصاد الأمريكي من ركود وظيفي حاد، حيث انخفضت فرص العمل بشكل كبير، وتصاعدت الضغوط التضخمية على كاهل الطبقات العاملة.

تحولات الصراع الطبقي في العصر الرقمي

لم يعد الصراع الطبقي مقتصراً على المواجهة التقليدية بين العمال وأصحاب المصانع كما كان في القرن التاسع عشر، لقد تحول جذرياً إلى مواجهة بين الجماهير المستغَلة والشركات التكنولوجية العملاقة التي تسيطر على بيانات الأفراد وتقنيات الذكاء الاصطناعي. فالقرار الأخير الذي اتخذته المحكمة الأمريكية بعدم إجبار جوجل على بيع متصفح كروم، رغم خسارتها قضية مكافحة الاحتكار، يكرس هيمنة هذه الشركات ويبقيها فوق مستوى المحاسبة والمساءلة.

لقد انتقد الكثيرون كارل ماركس لتقسيمه المجتمع إلى طبقتين متعارضتين فقط (بروليتاريا وبرجوازية)، متهمين إياه بتجاهل دور الطبقة الوسطى. لكن الواقع المعاصر يثبت أن الطبقة الوسطى تتآكل بسرعة قياسية، وأن الفجوة بين الأغنياء والفقراء تتسع بشكل غير مسبوق. فها هي الشركات التكنولوجية تتحول إلى إمبراطوريات اقتصادية تفوق دولاً كاملة في قوتها المالية ونطاق نفوذها.

العولمة وتجاوز الحدود القومية

لقد اتهم ماركس أيضاً بإغفاله دور الفكرة القومية في تشكيل المجتمعات. لكننا نرى اليوم أن العولمة الرأسمالية قد حولت العالم إلى سوق واحدة موحدة، تذوب فيها الخصوصيات القومية أمام قوة رأس المال العابر للحدود. فشركة مثل إنفيديا تبلغ قيمتها السوقية 4.16 تريليون دولار، متجاوزة اقتصادات دول بأكملها.

كما انتقد البعض تمسك ماركس بالثورة كطريق وحيد للتغيير الجذري، متهمين إياه بتجاهل إمكانية الإصلاح التدريجي. لكن الواقع يشهد أن الأنظمة الديمقراطية فشلت في كبح جماح الرأسمالية المتوحشة، بل ساهمت في تعزيزها عبر سياسات الخصخصة والتقشف والتخفيف الضريبي للشركات الكبرى.

النموذج الأمريكي: تجسيد لأزمة هيكلية

يقدم لنا الاقتصاد الأمريكي نموذجاً حياً لأزمة الرأسمالية الهيكلية. فمن ناحية، لا يزال التضخم مرتفعاً بشكل مقلق، ومن ناحية أخرى، يتباطأ النمو الاقتصادي بشكل خطير. وقد خفضت مؤسسات مالية كبرى مثل مورجان ستانلي وجولدمان ساكس توقعاتها للنمو إلى 1.55% و1.7% على التوالي لعام 2025. وهذا يؤكد أن الرأسمالية لم تعد قادرة على تحقيق الازدهار للجميع، بل أصبحت آلة لصنع الأزمات المتتالية.

سياسات ترامب: زاد الطين بله

إن السياسات التجارية التي يتبعها دونالد ترامب، خاصة فيما يتعلق بالرسوم الجمركية، تزيد الأزمة تعقيداً، حيث ترفع تكاليف الواردات وتضاعف من الضغوط التضخمية. كما أن تشديد سياسات الهجرة سيساهم في تقليص عرض العمالة، مما سيؤثر سلباً على القطاعات الاقتصادية التي تعتمد بشكل أساسي على اليد العاملة المهاجرة.

يقدم الذكاء الاصطناعي اليوم على أنه الحل السحري لمشاكل البشرية، لكنه في الواقع يكرس هيمنة الشركات العملاقة ويزيد من تركيز الثروة. فها هي جوجل وأبل تتجهان لعقد صفقات ذكاء اصطناعي بقيمة مليارات الدولارات، بينما تتآكل الوظائف التقليدية أمام تقدم الآلة. هذا هو الاستغلال الرأسمالي في أبهى صوره: التقدم التكنولوجي الهائل لا يترجم إلى رفاهية جماعية، بل إلى أرباح خيالية لفئة قليلة.

لم يعد الدين هو "أفيون الشعوب" كما قال ماركس، بل تحولت التكنولوجيا إلى أداة جديدة لتخدير الجماهير. فبدلاً من مواجهة استغلال الشركات، ينشغل الناس بالتطبيقات الذكية والمنصات الرقمية التي تلهيهم عن حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية.

الخلاصة: بين الثورة والانهيار

يؤكد ماركس أن التناقضات الداخلية للرأسمالية ستدفعها حتماً نحو الانهيار، وسيقود العمال الثورة لاستعادة وسائل الإنتاج. والواقع الحالي يعضد هذه الرؤية: الشركات العملاقة لم تعد قادرة على النمو دون تدمير البيئة واستنزاف الموارد. أما الطبقة العاملة العالمية فأصبحت أكثر وعياً باستغلالها، خاصة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي تكشف الفروق الطبقية الصارخة.

بعض المحللين الاقتصاديين يتحدثون عن انتقال الاقتصاد الأمريكي من الاعتماد على الإنفاق الحكومي إلى القطاع الخاص. لكن هذا التحول لن يحل التناقضات الجوهرية، بل سيعمقها، لأن القطاع الخاص يسعى للربح لا لتحقيق العدالة الاجتماعية.

إذا استمرت الضغوط التضخمية والسياسات النقدية المتشددة، فقد يدخل الاقتصاد الأمريكي في ركود حاد بحلول عام 2026. عندها لن تكون الثورة مجرد خيار، بل ضرورة تاريخية حتمية.

ماركس كان محقاً

ها هي الرأسمالية تثبت مرة أخرى أن تناقضاتها الذاتية تقودها إلى حافة الهاوية. فالشيطان الذي كان يخشاه ماركس - تراكم رأس المال – أصبح الآن وحشاً يلتهم الاقتصاد العالمي. والصراع الطبقي لم يختفِ، بل تحول إلى حرب صامتة بين الشركات العملاقة والجماهير التي تستغلّها.

اليوم، نحن لا نحتاج إلى إحياء الماركسية كعقيدة ايدلوجية، بل كمنهج تحليلي نقدي لفهم العالم وتغييره. فكما قال ماركس: "لم يسبق للجهل أن ساعد أحدا". والمعرفة في عصر الذكاء الاصطناعي أصبحت سلاحاً أساسياً للثورة المنشودة.

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم