آراء

كاظم المقدادي: ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟! (2)

موقف شعبي رافض

يبدو ان "الخطة الوطنية " المطروحة لم تراع المصلحة العامة للمواطنين، والدليل أنه مع " قرب إعلان ذي قار خالية من الإشعاع" إنطلقت حملة شعبية رافضة لطمر المخلفات المشعة في صحراء الناصرية. وتدور معركة  ضمن الجدل الدائر بين الاوساط الشعبية والنخب الثقافية والاكاديمية من جهة، وحكومة ذي قار، من جهة اخرى، وسط تزايد مخاطر الاصابة بالأمراض السرطانية التي تعد المواد والملوثات المشعة المستهدفة بذخائر اليورانيوم "المنضب"، احد ابرز اسباب الاصابة بها-كما يؤكد الأطباء هناك. ويخشى المعارضون لطمر المخلفات المشعة من ان تتحول محافظة ذي قار الى مكب لمخلفات المحافظات الاخرى، وهو ما يفاقم الاضرار الصحية والاقتصادية الناجمة عن ذلك. حيال هذا، إضطرت الحكومة المحلية ومديرية بيئة ذي قار، تقديم توضيحات، أكدتا فيها " ان محجر طمر المواد المشعة نظامي،وخاص بالملوثات العائدة للمحافظة فقط، ولا يشكل خطرا على حياة المواطنين" ("المدى"،12/5 /2024)..وقد أخبرنا زملاء يعملون في الناصرية بان عوائل محافظة ذي قار لا تصدق التوضيحات المذكورة، ولا تثق بإعلان محافظتهم خالية من الإشعاع قريباً، ولا حتى بعد سنوات..

فما هو رد المسؤولين المتنفذين ؟!!

وما يزال البحث جارياً عن الوسائل طيلة عقدين ولغاية تشرين الثاني 2023 والجهات المعنية تبحث عن وسائل اَمنة للتخلص من النفايات المشعة. ومن ضمن البحث الزيارة التي قام بها فريق فني من مركز الوقاية من الإشعاع الى المنشآت الفرنسية للتخلص النهائي من النفايات المشعة. ضم الفريق  مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع، والمنسق الوطني لمشروع التعاون التقني مع الإتحاد الأوربي، وفريق فني متخصص من ملاكات مركز الوقاية من الإشعاع،يشارك في الزيارات العلمية الى مواقع ومنشآت التخلص النهائي من النفايات المشعة الفرنسية-كما أعلن مركز الوقاية من الإشعاع في 20/11/2023.

والسؤال: إذاً، كيف تم تنظيف المواقع التي أُعلن عن تنظيفها من التلوث الإشعاعي قبل الزيارة ؟!!

خطط وإجراءات رسمية .. منسية

نكرر ما قلناه بانه ليس جديداً إعلان الجهات المسؤولة في عام 2023 عن "خطة وطنية لمكافحة التلوث الاشعاعي في البلاد".فهو ليس المرة الأولى، وإنما سبقه إعلانات أخرى عديدة، ومنها:

في عام  2005، أعلنت وزارة البيئة عن "خطة وطنية" مماثلة، وأكدت أنها: " تتضمن اجراء المسوحات الاشعاعية للمناطق المقصوفة عامة، والمناطق الملوثة باليورانيوم المنضب خاصة،وأخذ عينات من التربة والماء والحشائش لفحصها، فضلاً عن ازالة آثار التلوث من المناطق الملوثة " ("الصباح"،26 /8/2005).. ولم تعلن ما الذي أُنجزَ منها، ولا أين صارت..

وفي عام 2006  قرر مجلس الوزراء تجميع الحديد السكراب المضروب في الحرب، من كافة المناطق العراقية، ونقله الى (مصنع الحديد والصلب) في البصرة.. إنتقدنا القرار في وقته، في مقال لنا في مجلة  "البيئة والحياة" التي تصدرها وزارة البيئة (العدد الثامن،أيلول 2006)، وحذرنا من خطورة هذه العملية على العاملين في تجميع السكراب، وفي إعادة تصنيعه، ولاحقاً على مستخدميه. ونبهنا بان العلم يؤكد بان إشعاع اليورانيوم "المنضب" لن يزول حتى بعد صهر الحديد الملوث به..

لم تأخذ الحكومة،كالعادة، بتحذيرنا، وحصل ما حذرنا منه، حيث أكدت تقارير طبية وتحقيقات صحفية إستقصائية إصابة المئات من عمال وموظفي المصنع بالسرطان، ومات العشرات منهم.. وبعد فوات الأوان تم إيقاف العمل في المصنع.وبعد 10 سنوات على غلقه، أعلن مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع:" تم تنظيف المصنع من الإشعاع " ("Independent عربية"، 27/8/2022 ).. ولم يوضح كيف تم تنظيفه، وبأي طريقة، ولماذا طالت العملية 10 سنوات ؟!!

وبعد ثلاث سنوات،ذكر رئيس الباحثين في دائرة المواد الخطرة في وزارة العلوم والتكنولوجيا عدنان حسن ان هناك مقترحات لتقليل التلوث الأشعاعي، منها تشكيل مديرية متخصصة لمعالجة وتصفية المخلفات المشعة، وفريق من الباحثين المختصين لتقديم مشروع أستثماري بهذا المجال، وتقديم خطة مستقبلية خاصة بالمفاعلات المشعة ("واع"،16/2/2009)..

لاحظ عزيزي القارئ أنه لحد ذلك التأريخ لم توجد مديرية متخصصة بمعالجة وتصفية المخلفات المشعة. ولم يكن هنالك فريق متخصص لتقديم خطة مستقبلية خاصة بالمفاعلات المشعة، بينما كان المسؤولون يتحدثون عن "خطط" و"برامج" و"جداول زمنية"..

وفي عام 2011، ذكر مدير علاقات البيئة الدولية في وزارة البيئة لؤي صادق المختار بأن الوزارة حددت 4 مواقع جغرافية لدراستها ومعرفة إمكانية استخدامها لطمر النفايات الخطرة، واختيار موقع واحد من بينها، لتجهيزه بالشكل الذي يتناسب مع طبيعة هذه المواد"("أنباء المستقبل"، 25/5/2011).

ومرت 12 سنة ولا يوجد موقع رسمي محدد لهذا الغرض. أكد ذلك مؤخراً الوكيل الفني لوزارة البيئة  د. جاسم الفلاحي، في مقابلة تلفزيونية معه، مُعلناً ان جميع مطامر النفايات في العراق لم تستحصل الموافقة الأصولية الرسمية (" الشرقية نيوز"، برنامج: "حوار مع زينب ربيع"،13/5/2024)..

فماذا يعني ذلك غير فشل الإدارة البيئية في معالجة هذه المشكلة !!

وفي شباط 2015 أعلنت وزارة البيئة :" انتهائها من إعداد الخرائط الخاصة بالمواقع الملوثة بالإشعاع في مناطق جنوب العراق".وإعتبرته " انجاز يُعتبر المرحلة قبل النهائية لغلق ملف المواقع الملوثة بالاشعاع بشكل نهائي وحسب الجدول الزمني" (السومرية نيوز"،9/2/2015)..

ولعل الأضرب هو إعلان الوزارة بأن " العام 2015 سيشهد الانتهاء من ملف المواقع الملوثة بالاشعاع " ("إينا"،22/1/2015).. ولم يحصل ذلك طبعاً !.. بينما أعلنت وزارة العلوم والتكنولوجيا، بعد  قرابة الثلاثة أشهر:" ان عدد المواقع الملوثة في العراق يبلغ 40 موقعا، اغلبها في محافظة البصرة، وان طمر النفايات المشعة سيكون في مواقع مؤقتة لمدة تصل الى 15 عاما، وان تلك المواقع ستكون حصينة، مع ضرورة استمرار مراقبتها ("طريق الشعب"،28/5/2015)..

فأين صار "الإنجاز" السالف ؟!!

مجلس النواب يدخل على الخط

في عام 2018، إستندت دراسة لمجلس النواب الى إفادات مدير عام دائرة البيئة ومعاونه، اللذين تحدثا "بألم وحزن عميقين عن حجم المأساة التي تمر بها البيئة العراقية نتيجة عدم التدوير الصحيح للمخلفات ومعالجة النفايات، وخصوصاً في مدينة بغداد وضواحيها ". وأكدا بان "الآليات الموجودة لطمر وحرق المخلفات والنفايات لا زالت متأخرة وكلاسيكية الى حد كبير".وحذرا من وقوع كارثة بيئية كبيرة على سكان مدينة بغداد ما لم يتم ايجاد حلول ومعالجة سريعة للمناطق والبنايات التي ضربت من قبل القوات الامريكية، التي لازالت مليئة بمخلفات اليورانيوم "المنضب".وأشارا الى ان الحديد المضروب تم نقله الى كردستان، ومن ثم  اعادته ( حديد تسليح ) للبناء، وتم بيعه الى بغداد وبقية المحافظات، وهو ملوث باليورانيوم. وقالا: "ان هذه كارثة بعينها سببت الاف الامراض السرطانية والتشوهات الخلقية والاسقاطات والاجهاض وقلة الانجاب والعقم "..

ولمعالجة المشاكل القائمة دعت دراسة مجلس النواب الى عقد مؤتمر وطني يرعاه مجلس النواب للوقوف على كل المشاكل العالقة. وتشكيل لجنة تسمى ( اللجنة العليا لمعالجة آثار التلوث الاشعاعي) ضمن تشكيلات وزارة العلوم والتكنولوجيا، تضم ممثلين من بقية الوزارات المعنية (البيئة، الصحة ، البلديات والاشغال العامة،والامانة العامة لمجلس الوزراء)  تتولى عملية حصر تأثير اليورانيوم "المنضب"، واقتراح المعالجات اللازمة لتقليل أثره.وان تتالف ادارة هذه اللجنة من ذوي الاختصاص والخبرة، وتكون بعيدة عن المحاصصة والتدخلات السياسية.. ولم يتحقق ما أوصت به، ولم يتابعه أحد..

***

د. كاظم المقدادي

 

في المثقف اليوم