آراء

بدر العبري: إبراهيم رئيسي وولاية الفقيه

في حادثة أليمة تعاطف معها المجتمع الدّوليّ ككل، وهي حادثة تحطم مروحية كانت تقل الرّئيس الإيرانيّ إبراهيم رئيسي، ومعه وزير الخارجيّة حسين أمير عبد اللّهيان، وإمام جمعة تبريز آية الله آل هاشم، ومحافظ أذربيجان الشّرقيّة مالك رحمتي، وعناصر أخرى من الحرس الثّوري، حيث كانت تقلّ الرّئيس من حدود أذربيجان وحتّى تبريز، وسقط في أذربيجان الشّرقيّة.

وعموما لستُ بصدد الحديث عن الحادث، ولكن كثرت التّأويلات حول سبب وقوعه، فمنهم من يرجع ذلك خارجيّا، ومنهم من يرجعه داخليّا، وعلى رأس أسبابه داخليّا هو الصّراع على السّلطة، وجميع ما قيل حول ذلك على سبيل التّخمين.

والمتأمل في العديد من دول العالم في الجملة يجد الحكم فيه إمّا حكم شموليّ أبويّ مطلق، تتوارثه أسرة معينة، له كافة الصّلاحيّات، أو ملكيّ تعاقدي دستوريّ، يجمع بين الوراثة من حيث الحاكم، والانتخاب من حيث رئيس مجلس الوزراء، أو رئاسيّ ديمقراطيّ منتخب، وأمّا إيران فقد كانت ملكيّة شموليّة في عصورها القديمة، وآخرها العصر القاجاريّ، وبداية عصر الشّاه، حيث تعيش الملكيّة المطلقة، ثمّ بعد ثورة المشروطة تحوّلت إلى ملكيّة دستوريّة تعاقديّة، فلمّا ساءت الأحوال في عهد محمّد رضا بهلوي (ت 1400هـ/ 1980م)، واجتمعت الأحزاب اليمينيّة واليساريّة على الثّورة، استطاع الشّعب أن يثور عليه بجميع توجهاتهم وأحزابهم، وكانت غايتهم إصلاح عهد الشّاه سياسيّا واقتصاديّا واجتماعيّا وفق البقاء على الملكيّة التّعاقديّة الدّستوريّة، ولمّا لم يتعامل الشّاه معها بحكمة أصبحت الغاية الانتقال إلى الدّيمقراطيّة التّداوليّة بين الجميع، وفق دستور يحمي الجميع.

بيد أنّ الانتقال من مرحلة إلى أخرى يحتاج إلى شيء من التّوازن الدّاخليّ، وحتّى لا تدخل البلاد في فوضى داخليّة قد تقودها إلى حرب أهليّة، خاصّة وأنّ المخابرات السّابقة – أي في عهد الشّاه – لا زالت تلاحقهم باغتيالاتها، ومحاولة خلق فوضى داخلية، لهذا وجدوا من الإمام الخمينيّ (ت 1409هـ/ 1989م) رمزيّة وحدويّة داخليّة، اجتمع عليها الجميع، للتّمهيد لحكم ديمقراطيّ يشمل الجميع، تحت مظلّة ولاية الفقيه كصورة رمزيّة دينيّة لها صلاحيّتها المحدودة ابتداء وفق دستور الثّورة، أي الدّستور الأول، بينما السّلطة يتمّ تداولها ديمقراطيّا، ومفتوحة لجميع الأحزاب، وليست حكرا على فئة ثيوقراطيّة معينة.

إنّ جدليّة ولاية الفقيه هي مخرج فقهيّ وفق نظريّة الإمامة عند الشّيعة الاثني عشريّة، إذ ربطت الحكامة ابتداء بالأئمّة المنصوص عليهم نصّا جليّا – حسب رؤيتهم – من الإمام عليّ بن أبي طالب (ت 40هـ) وحتّى محمّد بن الحسن العسكريّ، المهديّ المنتظر، بيد أنّ المهديّ غاب عن الأنظار وهو صغير السّنّ، فدخل المجتمع الشّيعيّ في غيبة صغرى، وقد امتدت من 260هـ وحتّى 329هـ، وقد كان ينوب عن الإمام المهدي سفراء أربعة، ويقومون مقام الإمام في النّيابة الخاصّة، وبوفاة السّفير الرّابع أي عليّ بن محمّد السَّمريّ عام 329هـ دخل الإماميّة في غيبة كبرى حتّى اليوم، وحدث جدل فقهي قديم حول النّيابة العامّة، وكانوا أقرب إلى السّلب حتّى أتى الكركيّ (ت 937هـ)، وجعل للفقيه ما للإمام من نيابة خاصّة في الأمور السّياسيّة، بينما جمهور الفقهاء الإماميّة لم يتقبلوا هذه الرّؤية، ورأوها من اختصاصات الإمام المعصوم أو من يعيّنه من سفراء، وليس من اختصاصات الفقيه.

وفي نهاية القرن التّاسع عشر الميلادي كانت في إيران دعوات إصلاحيّة دستوريّة، توافق عليها كافّة الاتّجاهات الوطنيّة، ومنها بعض الرّموز الدّينيّة، وعلى رأسها الشّيخ النّائينيّ (ت 1355هـ/ 1936م) المشهور بكتابه: "تنبيه الأُمَّة وتنزيه الملّة"، والّذي قاد هذا إلى الثّورة الدّستوريّة، وهو تطوّر لأهميّة الفقيه وحضوره في المجال السّياسيّ، وكانت رؤية  حسين البروجرديّ (ت 1380هـ/ 1961م)،  وهو من أكبر المرجعيّات المؤثرة في عهد الشّاه، وكان منفتحا في رؤية النّائينيّ وبعض أجزاء ولاية الفقيه، وكما يذكر حسين منتظري (ت 1431هـ/ 2009م) أنّ البروجرديّ كان يطرح نظريّة ولاية الفقيه في دروسه حول صلاة الجمعة، بيد أنّ الدّروس الّتي ألقاها الإمام الخمينيّ عام 1969م أثناء نفيه في النّجف بالعراق، والّتي ظهرت لاحقا في كتاب "الحكومة الإسلاميّة" انتشرت انتشارا كبيرا في إيران وخارج إيران، ولقيت معارضة في الوقت ذاته من الرّموز التّقليديّة ومن العديد من المرجعيّات الدّينيّة، بيد أنّ الرّغبة الشّبابيّة الثّوريّة حينها بسبب الاتّجاهات الثّوريّة اليساريّة من جهة، وبداية ظهور الاتّجاهات الحركيّة الإسلاميّة من جهة ثانيّة، أظهرت العديد من النّظريّات في الوسط الشّيعيّ بسبب الحالة الفقهيّة الانغلاقيّة الّتي أشرتُ إليها، فظهرت نظريّة شورى الفقهاء، وولاية الأمّة على نفسها، ودولة الإنسان، كما تطوّرت نظريّة ولاية الفقيه، وكتب لها الحضور السّياسيّ في إيران بعد الثّورة.

ثمّ كثرت الجدليّات بعد الثّورة عن آلية اختيار الوليّ الفقيه وصلاحياته ومحاسبته وفق نظريّة ولاية الفقيه، فهل يكون بالتّعيين أم بالاختيار عن طريق مجلس الخبراء الّذي هو أقرب إلى أهل الحلّ والعقد، ويكون بالانتخاب، كذلك ظهر الجدل هل يكون شخصيّة واحدة أم هيئة استشاريّة، وهل يشترط أن يكون فقيها معمّما أم يعمّ ذلك من لديه قدرات إداريّة وسياسيّة ولو لم يكن فقيها، بيد أنّ القضيّة ضاقت من جهة، واتّسعت من جهة أخرى، لمّا صدر الدّستور الجديد بعد دستور الثّورة، فضاق في اختيار الوليّ الفقيه، واتّسع في صلاحيّاته، ممّا ضاقت صلاحيّات الرّئيس المختار من المجتمع.

وفي إيران، ولأسباب غلبة الاتّجاه الدّينيّ في إيران؛ ضعفت الاتّجاهات الأخرى حتّى يكاد ينعدم حضورها، بعدما كانت حاضرة أيام الشّاه، ومتدافعة مع الإسلاميين، وبعد فوز  محمّد خاتمي بانتخابات رئاسة الجمهوريّة عام 1997م بدأ الاتّجاه الإصلاحيّ في خطّه الإسلاميّ يتمدّد؛ إلّا أنّه ضعف لاحقا حتّى خفت حضوره حاليا، وأصبحت الغلبة للمحافظين، فهم من يمثلون مجلس خبراء القيادة، وهم الغالب حاليا في البرلمان والحزب الحاكم، وأصبحت الآراء تذهب اليوم إلى أنّ الوليّ الفقيه مرتبط اختياره من ذات دائرة المحافظين، لهذا ربط به إبراهيم رئيسيّ.

وطبيعيّ في أيّ دولة ملكيّة شموليّة، إذا لم يكن فيها ولي عهد؛ تكثر التّخمينات، خصوصا إذا كانت صلاحيات الحاكم مطلقة، وفوق جميع السّلطات كما هو الحال مع الوليّ الفقيه في إيران، وكذلك إذا كان عمر الولي الفقيه الحالي كبيرا في السّن، وطبيعيّ كلّما كبر عمر الإنسان ضعف في إدارة الدّولة، فظهرت التّخمينات سابقا أنّ الوليّ الفقيه المقبل هو محمود الهاشميّ الشّاهروديّ، بيد هناك من كان يضعف الأمر لكونه عراقيّا، وبسبب وفاته عام 1440هـ/ 2018م ظهرت الجدليّة أنّ الوليّ الفقيه هو إبراهيم رئيسي لقربه من الإمام عليّ الخامنئيّ، وبوفاته الحالية نجد التّخمينات تشير إلى ابنه مجتبى الخامنئيّ، وهذه لا تتجاوز التّخمينات، ففي أيام الخمينيّ كان الإيرانيون يتوقعون أنّ الوليّ الفقيه لن يتجاوز حسين منتظريّ، بيد قبل وفاته تفاجئوا بعزله، ثمّ بعد وفاة الخمينيّ عيّن الوليّ الحاليّ.

وكما أسلفت طبيعيّ مثل هذه الحالة تقلق الشّعب الإيرانيّ؛ لأن الوليّ الفقيه الحاليّ بصلاحيّاته المطلقة تعادل أي حاكم ملكيّ له مطلق الصّلاحيّات، كما يقلق العالم الخارجيّ أيضا، خصوصا أنّ الولي الفقيه يدور في دائرة المحافظين من جهة، ولارتباطه الكبير في قرارات العلاقات الخارجيّة من جهة ثانية، ومع أنّ الوضع الرّئاسيّ في إيران بالنّسبة للرّئيس محكم دستوريّا ومؤسّسيّا، وكما يبدو ظاهريّا في وضع اختيار الوليّ الفقيه من خلال مجلس خبراء القيادة، بيد أنّ القلق لا زال عالقا داخليّا وخارجيّا، وهذا ما نراه اليوم من قراءات متجاذبة في تفسير حادث المروحيّة ومقتل إبراهيم رئيسي، لا يخرج عن دائرة القلق لما يحدث في العالم حاليا، وأصبحت إيران طرفا فاعلا فيه، وللحالة السّياسيّة وللاقتصاديّة الّتي تعيشها إيران داخليّا، وللزّمن كلمته واقتضاءاته.

***

بدر العبري – كاتب وباحث عُماني

في المثقف اليوم