آراء
جعفر المظفر: هل كان بايدن صهيونياً بحق
لا بد أن هناك ما يفسر للرئيس الأمريكي بايدن تصريحه السابق قبل أن يصبح رئيساً، والذي أعلن فيه أنه ليس نصيراً لإسرائيل فحسب وإنما هو صهيونياً بخمسة نجوم. التفسير ببساطة متناهية: لأن الرجل كاثوليكي وليس بروتستانتي. ولأنه كذلك فلقد كان من حقه أن يتحدث عن دعمه الأكيد لإسرائيل دعماً مفتوحاً على أساس نظرية الأمن القومي الأمريكي التي تتبنى الأمن الإسرائيلي إلى حد التوئمة بدلاً من دخوله الخانة التي تلزم الشخص أن يكون بروتستانتياً متطرفاً حتى يصير مسيحياً صهيونياً، لأننا في الخانة الأخيرة ننتقل هنا إلى الدين دون أن نغادر السياسة.
بالنسبة لي كان ذلك مضحكاً بعض الشيء. لقد جعلني ذلك أجزم أن التصريح لا يخلو من المجاملة المتطرفة حتى في الحالات القليلة التي يدعي فيها الكاثوليكي انتماءه للمسيحية الصهيونية ذات الفقه البروتستانتي المتطرف.
لكن معرفة أن المال السياسي وكذلك الإعلام وأغلب السياقات التي تتحكم بوصول السياسي إلى البيت الأبيض أولاً، والكونغرس ثانياً، بمجلسيه السنت والنواب، هو مال تهيمن عليه إلى حد فائق قوى اليهودية الصهيونية، سيجعلك تفهم سريعاً السر الذي يجعل هؤلاء السياسيين (المسيحيين) يتقاتلون من أجل إرضاء الحركة والمؤسسات الصهيونية، وبخاصة من خلال التأكيد على دعمهم إسرائيل بكل الوسائل المتاحة، وتفهم أيضاً لماذا يجب أن يكون الطامع لمنصب سيادي أمريكي، بداية بعضوية الكونغرس ونهاية بالرئيس، منافقاً سياسياً وذلك إن لم يكن بروتستانتياً منتمياً لتيار الصهيونية المسيحية.
لو كان ترامب هو الذي أعلن ذلك، فلن أشكك بمصداقية الرجل، فالصهيونية المسيحية هي بالأساس حركة ذات جذور وفقه ومضمون بروتستانتي متطرف، والرجل بايدن كاثوليكي كما نعرفه. وما جعل بايدن منافقاً من الناحية الدينية أن صهيونيته المسيحية تشترط عليه أن يكون بروتستانتياً في المقام الأول لأن الصهيونية المسيحية هي حركة دينية قبل أن تكون سياسية، والسياسي هنا فيها تعبير عن الديني، وليس هناك فرصة مطلقاً لتغيير جوهر المعادلة، كأن يكون الديني تعبيراً عن السياسي، كما ليس شرطاً أن يكون المتعاطف مع إسرائيل والمشروع الصهيوني بروتسانتياً، لأن التعاطف السياسي هنا هو حالة تماهي سياسي وليس حالة انتماء. فأما التماهي الأمريكي الإسرائيلي فهو كان قد نشأ على مشتركات أمنية وسياسية جعلت المشروع السياسي الأمريكي والإسرائيلي يتوحدان حتى تكاد تحسبهما بالأصل واحداً، و كأنهما صارا كما هي أحجية: هل البيضة من الدجاجة أم الدجاجة من البيضة. وما لدينا هنا المعادلة التي تقول: ليس كل بروتستانتي هو مسيحي صهيوني وإنما هو جناحهم اليميني العنصري المتطرف، أما الكاثوليكي فيمكن أن يكون داعماً للصهيونية دون أن يكون صهيونياً بالفقه والرؤى الدينية.
وليس من باب الغرائب ولا العجائب أن نقول أن إسرائيل هي مشروع المسيحية الصهيونية قبل ان تكون مشروع اليهودية الصهيونية، وأن دولة إسرائيل تبدو في إطارها الثقافي والفقهي ومن ثم السياسي هي في خدمة مشروع المسيحية الصهيونية قبل أن تكون في خدمة مشروع اليهودية الصهيونية، ففي النهاية ومن ناحية دينية خالصة تطمع الصهيونية المسيحية أن يتحول اليهود الصالحين إلى مسيحيين. إن الإتيان على بعض الحقائق التاريخية ربما سيساعدنا على فهم ذلك.
نعلم أن المؤتمر الصهيوني الأول الذي ترأسه هرتزل كان قد عقد في بال السويسرية وذلك في عام 1897، لكن في عام 1844 وفد إلى القدس أول قنصل أميركي، (واردر كريستون)، وكان من الأهداف التي رسمها القنصل لنفسه أن "يقوم بعمل الرب، ويساعد على إنشاء وطن قومي لليهود في أرض الميعاد" (رضا هلال: المسيح اليهودي ص 95). وبذل (كريستون) جهداً مضنياً في الاتصال بالقادة الأميركيين وحثهم على العمل من أجل "جعل فلسطين وطنا قوميا لليهود حتى يلتئم شمل الأمة اليهودية، وتمارس شعائرها وتزدهر"
وعلى خطى كريستون جاء الرحالة الإنجيلي الأميركي (ويليام بلاكستون)، الذي نشر كتابا بعنوان "المسيح قادم" عام 1878 بيعت منه ملايين النسخ، وأثر تأثيراً عميقا على البروتستانتية الأميركية. والفكرة الرئيسية للكتاب أن "عودة المسيح" التي ظل المسيحيون ينتظرونها على مر القرون لن تتم إلا بعودة اليهود إلى أرض الميعاد. وفي العام 1891 تقدم بلاكستون بعريضة إلى الرئيس الأميركي يومها (بنيامين هاريسون) مطالبا بتدخل أميركا لإعادة اليهود إلى فلسطين. وجمع على العريضة توقيعات 413 من كبار رجال الدين المسيحي في أميركا، إضافة إلى كبير قضاة المحكمة العليا، ورئيس مجلس النواب، وعدد كبير من أعضاء مجلس الشيوخ، ورؤساء تحرير عدد من الصحف الكبرى.
على الجهة الأخرى علينا أن نتذكر أن عدداً لا باس به من اليهود يؤمنون بأن الفقه اليهودي لا يقر قيام دولة أسرائيل ومثال ذلك اليهود من (الحريديم) الذين يحرمون على أنفسهم الخدمة في الجيش. وثمة حركة يهودية تطلق على نفسها اسم "ناطوري كارتا" أي حراس المدينة تحارب الفكر الصهيوني ولا تؤمن بدولة إسرائيل.
إن اليهود الصهاينة الذي عقدوا مؤتمرهم الأول عام 1897 في (بال السويسرية) لم يعقدوه إلا بعد أن أدركوا أن الظرف السياسي الأمريكي والأوروبي، على إختلاف الذرائع، قد بات يعمل لصالحهم. وأقول مختلف الذرائع بغية التمييز بين الدوافع الأمريكية من جهة والأوروبية على الجهة الأخرى، إذ حيث ينسب للمال السياسي والإعلام الصهيوني والتعاطف البروتستانتي صلته بخلق التعاطف الأمريكي فإن أوروبا كانت طامعة أيضاً في التخلص من اليهود الذين كانوا قد أصبحوا مشكلة حقيقية لمجتمعاتها.
ونلاحظ هنا أن الدول ذات الأغلبية الكاثوليكية ميالة لإتخاذ مواقف لصالح الفلسطينيين ومثال ذلك إسبانيا وأيرلندا، أما البرازيل ذات الأغلبية الكاثوليكية العالمية فمواقفها واضحة. ولا نعني أن هذه الدول محكومة بمواقف ذات صبغة دينية كاثوليكية، إلا أن المعني هنا أن ثقافتها الدينية العامة الداعمة لثقافتها السياسية هي بكل تأكيد معاكسة إن لم تكن متناقضة مع ثقافة المسيحية الصهيونية ممثلة بالجناح البروتستانتي اليميني المتطرف.
***
د. جعفر المظفر