آراء
كريم المظفر: في ذكرى خطاب بوتين2007 في ميونيخ
اللقاء الذي اجراه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع الصحفي الأمريكي تاكر كارلسون، سيُسجل في التاريخ، وسيصبح واحدة من أكثر المقابلات مشاهدة وإعادة مشاهدة، سواء بسبب الطريقة التي تصرف بها تاكر كارلسون أو بسبب مدى دقة شرح الرئيس بوتين لموقف روسيا، والذي لم يكن في عجلة من أمره لإقناع أي شيء، أراد التحدث عن التاريخ، حول أسباب ما يحدث في العالم اليوم، وفي نهاية المطاف، لم يكن يتحدث عن أوكرانيا، بل كان يتحدث عن الأحداث العالمية، وعما حدث قبل أن يصبح رئيسا، وما يحدث الآن وما سيحدث بعد ذلك. لقد قلب الرئيس بوتين صورة هذا العالم رأساً على عقب، وكان لا بد من أن تنتهي أكاذيب الأنغلوسكسونيين والفرنسيين والألمان وغيرهم من المستعمرين عاجلاً أم آجلاً
وكل شيء تقريبا من خطاب الرئيس الروسي الشهير في ميونيخ في فبراير 2007 ، وأصبح "حقيقة، ولا يزال عدد من الأفكار والتحذيرات التي ذكرها بوتين صالحة حتى يومنا هذا، ويُطلق عليه إعلان إحياء السيادة الروسية، لكنه لا يزال أكثر من ذلك، فقد حذر الزعيم الروسي، الولايات المتحدة وأوروبا من المسار الذي قد يقودهم (وكذلك بقية العالم) إلى صراع كبير، أي ما تحدث به في 10 فبراير 2024 وما قاله بوتين مؤخرًا للصحفي الأمريكي تاكر كارلسون.
فقد قال بوتين بالفعل في مؤتمر ميونيخ، إن توسع الناتو إلى الشرق يشكل تهديدًا لروسيا، وفي خطابه في ميونيخ، تحدث أيضًا عن حالة الأزمة التي تمر بها الاتفاقيات الدولية المهمة، خاصة في مسائل التسلح، وتحدث عن خطط الولايات المتحدة لإنشاء نظام دفاع صاروخي، والتي كانت تدمر نظام الاستقرار الاستراتيجي، وبطبيعة الحال، انتقد المفهوم الغربي لعالم أحادي القطب، ووصفه بالقول "هذا عالم سيد واحد، وملك واحد" وأوضح بوتين أن "هذا مدمر في نهاية المطاف، ليس فقط لكل من هو داخل هذا النظام، ولكن أيضًا للسيادة نفسها، لأنه يدمره من الداخل".
واكد الرئيس الروسي إن العالم الأحادي القطب محكوم عليه بالفشل، وستتم مقاومته لأنه دكتاتورية عالمية، ومن وجهة النظر هذه، فإن توسع الناتو والدفاع الصاروخي هما أدوات للحفاظ على أو بالأحرى، محاولات الولايات المتحدة للحفاظ على هيمنتها وهيمنتها العالمية، ويقول ديمتري سوسلوف، نائب مدير مركز الدراسات الأوروبية والدولية الشاملة في المدرسة العليا للاقتصاد، ان محاولات منع صعود وإحياء المنافسين المحتملين، وحتى تدميرهم، وهو ما أوضح مخاطره بوتين، واعتبر أن هذا مستحيل، فأن مثل هذه السياسة لن تؤدي إلى أي شيء جيد، ولن يؤدي إلا إلى المزيد من المعارضة، وقد أثبت التاريخ أنه كان على حق، وأصبح كل شيء تقريبًا من خطاب بوتين في ميونيخ حقيقة.
فمحاولات الحفاظ على الأحادية القطبية باتت محكوم عليها بالفشل، وتحققت، و أصبح تشكيل عالم متعدد الأقطاب حقيقة، وأصبحت المواجهة بين الغرب وروسيا بشأن توسع حلف شمال الأطلسي حقيقة، كما وأصبح سباق التسلح وتدمير نظام الاستقرار الاستراتيجي بسبب المحاولات الأمريكية لإنشاء نظام دفاع صاروخي حقيقة، وبدلاً من الحفاظ على الهيمنة، لم تفعل الولايات المتحدة سوى تسريع تدمير العالم الأحادي القطب، ودمرت أيضًا الأدوات الحقيقية والفعالة للحفاظ عليه (مكانة الدولار كعملة عالمية، والجاذبية العالمية لليبرالية مع الرأسمالية، وما إلى ذلك). .
وما تحدث عنه بوتين مرة أخرى في مقابلة مع كارلسون بان «الدولار هو أساس قوة الولايات المتحدة" وبمجرد أن قررت القيادة السياسية استخدام الدولار كأداة للنضال السياسي، وجهت ضربة لهذه القوة الأمريكية، وأوضح الرئيس الروسي: "لا أريد استخدام أي تعبيرات غير أدبية، لكن هذا غباء وخطأ فادح"، والسؤال كيف رأى بوتين عام 2007 ما لم يراه الأميركيون؟ ولماذا لم يستمعوا إليه؟، والجواب بسيط، إذا اعتمد بوتين على الأنماط التاريخية والنقاط الأساسية لنظرية العلاقات الدولية، فإن واشنطن كانت في عالم الأحلام، " ولم يستطع الغرب أن يأخذ تحذيرات بوتين على محمل الجد في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، في ذلك الوقت، كان الغرب لا يزال مبتهجاً بالنصر في الحرب الباردة، وفي سياق ما اعتبره عصر الأحادية القطبية، آمنت النخب الأميركية بقدرة الولايات المتحدة على الحفاظ على هذه الهيمنة إلى الأبد.
ويؤكد الخبراء، انه ولفهم نشوة النخبة الغربية، يكفي النظر إلى بداية كتاب زبيغنيو بريجنسكي “رقعة الشطرنج الكبرى”، فهناك كتب المؤلف أن هناك العديد من الهيمنة في العالم، وأن كل واحدة منها انهارت، لكن الهيمنة الأمريكية لن تنهار، أو على الأقل فرص سقوطها ضئيلة للغاية، وذلك لأن الهيمنة الأمريكية هي نوع جديد من الهيمنة يختلف جوهريا عن كل أشكال الهيمنة السابقة، وهي تختلف من حيث أنها تقوم على القيم العالمية - الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ولا يقوم على الاستيلاء على الأراضي من قبل الولايات المتحدة نفسها، وقد اعتقدت النخب الغربية بصدق، أن نهاية التاريخ قد جاءت، ومن المفترض أن يكون النظام الدولي الليبرالي جذابًا ورائعًا لجميع البلدان (وليس فقط لحلفاء أمريكا)، وسيكونون سعداء بالانضمام إليه، وأن العقبة الرئيسية أمام انتشار هذا النظام هم "الديكتاتوريون السيئون"، ويشرح سوسلوف: "لقد اعتقد الغرب أن بوتين كان على الجانب الخطأ من التاريخ ومحكوم عليه بالهزيمة التاريخية".
ولم يكن يُنظر إلى روسيا على أنها لاعب يجب أن يؤخذ رأيه بعين الاعتبار، وكما قال بوتين في مقابلته "كنا بحاجة ليس فقط إلى الاستماع إلينا، بل إلى الاستماع إلينا أيضًا "، فمن وجهة النظر الغربية، فإن روسيا، التي ليست جزءًا من الحضارة الأوروبية، هي هدف للتوسع والاستعمار، أي شريك غير متكافئ، ويتذكر نيكيتا ميندكوفيتش، رئيس النادي التحليلي الأوراسي، انه منذ بداية التسعينيات، اتبعت الولايات المتحدة ودول الناتو طريق عدم الاعتراف وتقويض مصالح روسيا، الأمر الذي حدد مسبقًا في نهاية المطاف الانتقال إلى المواجهة الحادة في العقد الأول من القرن الحادي والعشري، ولم يعير الغرب الكثير من الاهتمام للتحذيرات الروسية (من أنه إذا لم تؤخذ مصالحنا في الاعتبار، فسوف نحميها بطرق أخرى)، وتشير المحللة السياسية يلينا سوبونينا، الى ان الرئيس بوتين "قد صدمهم في مؤتمر ميونيخ، لكن على حد علمي من التواصل مع الممثلين الغربيين في تلك السنوات، فقد اعتبروا خطاب بوتين مجرد نقد لفظي، لن تتبعه خطوات حقيقية جادة"، ففي ذلك الوقت، كان يُنظر إلى روسيا على أنها محطة وقود، وليست دولة.
ويتذكر الروس هذه التصريحات الهجومية التي أدلى بها جون ماكين، وممثلون آخرون للولايات المتحدة، وكذلك الخطاب الذي ألقاه نائب الرئيس ديك تشيني آنذاك في فيلنيوس، حين قال إن أسعار النفط ستنخفض، وسوف تهبط روسيا معها، ويبدو أن التصور الغربي لهذا الخطاب قد ظهر بوضوح شديد في مقال ماكس "كان عنوانها "الفأر الذي زمجر"، ومع ذلك، وفي نفس العام، بدأت روسيا في استعادة ملامح الدب الغاضب بسرعة، أولاً، علقت موسكو عضويتها في معاهدة القوات التقليدية في أوروبا البائدة، ثم، في أغسطس/آب 2008، استعادت النظام في جنوب القوقاز، وبدأت عملية تحديث الجيش وإنشاء أحدث أنظمة الأسلحة، ولكن العواقب غير السارة بالنسبة للولايات المتحدة بدأت مع "الميدان الأوروبي" في كييف، عندما اتخذت الخطوط العريضة للدولة الروسية التي ستتبع سياسة سيادية هيئتها النهائية.
ونظر الأمريكيون إلى أحداث عام 2014 المتعلقة بشبه جزيرة القرم، لقد اعتقدوا أن روسيا لا تملك القوة والمزاج اللازمين لاتخاذ أي خطوات ملموسة تتجاوز التعبير عن عدم الرضا، وبعد ذلك في عام 2015، بدأت العملية الروسية لمكافحة الإرهاب في سوريا، والتي أحبطت خطط أمريكا وحلفائها للإطاحة بالرئيس بشار الأسد، ونتيجة لذلك، وصل فبراير 2022، و فشل معه الغرب في كسر روسيا بسبب تصرفاتها في الأراضي الأوكرانية السابقة، علاوة على ذلك، فقد أجهد نفسه، وبدأت الهيمنة الأمريكية التي بذلت مثل هذه الجهود للحفاظ عليها في الانهيار، و "اليوم، تبحث العديد من الدول عن بديل للهيمنة الأمريكية وتجده في شكل منظمات أخرى، مثل البريكس" .
وفي مقابلة مع كارلسون، دعا الرئيس الروسي مرة أخرى النخب الغربية، إلى العودة إلى رشدها والانتقال من نموذج المواجهة إلى التعاون، أو على الأقل إلى صياغة مبادئ التعايش السلمي، ولا يزال اقتراحه صالحا، العمل معا لحل كل هذه المشاكل المتراكمة، نعم، في عام 2007 وما بعده، رفضت الولايات المتحدة وحلفاؤها هذه المقترحات الروسية، ولكن بعد ذلك حدثت أشياء كثيرة مهمة، وإذا رفضوا ذلك الآن، فإن العالم سوف يقترب أكثر من حافة الهاوية الخطيرة، والتي بعدها تبدأ احتمالية نشوب صراعات ليست إقليمية ومحلية فحسب، بل وأيضاً صراعات عالمية، وتتحدث موسكو الآن عن هذا الأمر بقلق بالغ، في وقت كان هذا القلق بحسب سوبونينا: “في عام 2007، كان هذا القلق لا يزال أقل”.
ويشكك مجمع الخبراء ان تتقبل النخب الأميركية العرض الروسي، لأنه وللقيام بذلك، تحتاج السلطات الأمريكية إلى إعادة النظر بشكل كامل في رؤيتها للعالم، ومن أجل الاستماع لروسيا، وأخذ مصالحها في الاعتبار، كما طالبت منذ ميونيخ، من الضروري الاعتراف بها على قدم المساواة على الأقل، كدولة لها مصالحها الخاصة التي قد لا تتوافق مع مصالح الغرب، "كموضوع مستقل للسياسة الدولية"، وإدارة بايدن، إذا حكمنا من خلال سلوكها، ليست مستعدة لذلك.
ان من يستطيع أن يفهم أن غطرسة الغرب ودواره، إزاء نتائج الحرب الباردة، وإيمانه بأساطيره الخاصة قادته إلى تصور خاطئ للواقع، ومن لن يكرر هذه الأخطاء، هم من سيفهم أن روسيا الآن، كما كانت قبل 17 عامًا، لا تزال منفتحة على التعاون مع تلك الدول والجمعيات الدولية المستعدة للتعاون المتبادل والمحترم معها، وحل مشاكل التعايش الدولي بشكل عام، على المستوى العالمي، وقال بوتين في عام 2007، انه بسبب التطور الديناميكي لعدد من الدول والمناطق، "إنني على قناعة بأننا وصلنا إلى مرحلة هامة، يتعين علينا فيها أن نفكر جديا في هيكل الأمن العالمي برمته، وهنا يجب أن نبدأ من البحث عن توازن معقول بين مصالح جميع موضوعات الاتصال الدولي، وخاصة الآن، حيث يتغير "المشهد الدولي" بشكل ملحوظ وبسرعة كبيرة، ولا تزال هذه الكلمات ذات صلة في عام 2024 .
***
بقلم: الدكتور كريم المظفر