آراء
صادق السامرائي: معضلة السابق واللاحق !!
ما علاقة اليوم بالبارحة؟
وما علاقة الأحداث الماضية بالأحداث الجارية؟
وهل أن الحاضر مولود من رحم الماضي أم أنه مولود في أنابيب الإختبار؟
هل أن ما سبق يرسم ملامح ما لحق؟
تساؤلات تستحق التأمل والنظر.
وفي الطب هناك قاعدة معروفة مفادها أنك لكي تصل إلى التشخيص الصحيح للمرض عليك بدراسة وتتبع تأريخه، ولا زالت هذه القاعدة سارية رغم التقدم التكنولوجي، ولا تخلو إضبارات المرضى من الإسهاب في متابعة تاريخ المرض، لكي يتمكن الطبيب المعالج من فهم طبيعته وسلوكه وما يقتضيه من إجراءات مناسبة.
وما يقوم به البشر من سلوك في السابق ينجم عنه ما يعانيه في الحاضر والمستقبل.
فالشخص الذي لا يميل إلى النشاطات البدنية ويأنس للسكون والأكل الكثير، سيصاب بالبدانة ومضاعفاتها وبأمراض القلب والشرايين والسكر ويموت مبكرا.
وهذه القاعدة تنطبق على السلوك الفردي والجماعي، فسلوك أي مجتمع في السابق يحدد حالته في الحاضر والمستقبل، وما جرى في مجتمعنا في القرن العشرين وخصوصا النصف الثاني منه يرسم حاضرنا ومعالم مستقبلنا.
فالشيء مولود من رحم شيئ ولا يمكنه أن يكون إبن لا شيء.
وإذا أخذنا الأحداث السياسية العراقية -على سبيل المثال- وقارنا ما بين الأحوال والتطورات في الزمن الملكي والزمن الجمهوري، يتبين أن السلوكيات التي أدت إلى سقوط النظام الملكي قد ساهمت في ما تحقق في الزمن الجمهوري الذي أسس لما جرى بعده.
وبما أن السلوك ناجم عن الأفكار الفاعلة في عقل الفرد والمجتمع، فأن الأفكار المتفاعلة فينا هي التي رسمت حاضرنا وستصنع أوجاع مستقبلنا، فالعلاقة ليست علاقة رقمية أو تبدو وكأنها بسيطة ومسطحة، وإنما هي تفاعلات عميقة خفية لا واعية في دنيا الفرد والجماعة، توفرت الظروف اللازمة لإطلاقها والتعبير عنها.
فالعيب لم يكن في النظام الملكي أو الجمهوري وما بعدهما وإنما بالعقليات الفاعلة فيها.
نعم، العيب فينا وليس بنوع النظام، ولن يتغير شيئ لو غيرنا الحالة السياسية ألف مرة، لأننا لم نتغير ولم نتبدل ونتفاعل بذات العقلية ونعبّر عن السلوك الناجم عنها، ونمارس في قراءاتنا وتحليلاتنا آليات إسقاطية وإنكارية، فلا نريد رؤية عيوبنا وندعي أن المشكلة في النظام، ونتمادى في إنكار إضطراباتنا السلوكية والفكرية والنفسية الفاعلة في تقرير مصير مسيرتنا الدامية.
ففي النظام الملكي لم تكن هناك رؤى وتصورات وطنية واضحة يمكن للمجتمع أن يلتف حولها ويصنع وجوده المعاصر، ولم تنجب تلك المرحلة قادة ومفكرين ومثقفين وطنيين لهم القدرة على توجيه سلوك المجتمع نحو الأفضل.
فلم يمتلك الوطن على مدى القرن العشرين الريادة الثقافية والفكرية اللازمة لصناعة الحياة، لأن طبيعة التفاعلات في المجتمع لا تسمح بذلك إطلاقا وتقضي عليه فورا، ويظهر ذلك بوضوح بمقارنة بسيطة مع مصر وكيف تصرف قادتها مع الملك وكيف تصرفنا مع الملك عندما تحقق التغيير، وعلة ذلك أن مصر كان فيها قادة مثقفون يؤثرون في صناعة الرأي وبناء التطلعات الوطنية ذات القيمة الحضارية المعاصرة.
أما في العراق فلم يكن عندنا تلك القدرات، وإنما كانت التفاعلات المنفعلة والعواطف الساخنة هي الحَكم والمقرر الأخير لكل خطوة ووجهة نظر وتعبير، وإن ظهر مُصلح إجتماعي وأخلاقي بيننا أذقناه الصعوبات والمعاداة وحاصرناه وطاردناه .
فنحن نحسب أنفسنا من النسل المقدس الذي لا يعرف الهفوات، ونميل إلى التبعية العمياء ومعاداة الأشخاص، وأن أنانيتنا الحمقاء تقتل وطنيتنا السمحاء .
ومَن يقرأ أشعار الجواهري يرى ذلك بوضوح، فالرجل قد سطر تاريخ العراق الحقيقي في القرن العشرين وبحذاقة شاعر يعيش مأساة الشعب ويتحسس آلامه وقهره.
وبهذا فأن فقدان الرؤية الحضارية الواضحة وغياب العقول المثقفة الواعية الفاعلة في الحياة، قد أوجد حالة من التخبط والإضطراب الكامن في النفوس والمحتقن في اللاوعي، وما أن يجد منفذا حتى يعبر عن وجوده بغابية ووحشية منقطعة النظير وتكرر ذلك مرارا، وقد عشناها في السنوات الماضية بأقصى ما يمكن أن يكون عليه التعبير والفعل المحتقن المشين.
وهذا الفقدان هوالذي جعلنا وعلى لسان قادة ذلك التغيير الذي أوجد الجمهورية بدعواتهم وبياناتهم، أن نحقق الهياج الإنفعالي العالي الذي توجناه بالقتل البشع والسحل في الشوارع، ومضينا على هذا المنوال في النصف الثاني من القرن العشرين .
ولا زلنا نعيش ضبابية وطنية وغياب مروّع للرؤية والمنطق والعقل المعاصر القادر على إستيعاب التناقضات، وإكتشاف القوانين اللازمة لتحقيق صيرورة وطنية ذات تأثير وطني نافع.
ولا توجد مؤشرات على وجود نظرية سياسية أخلاقية ذات قيمة حضارية ووطنية نافعة عند الذين حققوا التغيير في النظام السياسي في جميع الأحوال، وإن وجدت فأن الإلتزام بها يكون معدوما.
وسنبقى في حالة من الترنح والتخبط، لأن أفكارنا لا تتفاعل وعقولنا لا تتلاقح وإنفعالاتنا هي السائدة وعواطفنا تتحكم بنا رغما عنا، وما فينا يجلدنا ويقرر رؤيتنا ولا يسمح لنا برؤية ما حولنا، بل دوما نحن نندفع ونناضل من أجل أن نرى ونحقق ما عندنا من إنحرافات سلوكية تتمحور حول الكرسي، الذي يرمز للسلطة والقوة والإمتهان والثراء الفاحش على حساب المساكين من أبناء البلاد الأبرياء، المحكومين بالحاجة والفقر والعوز الشديد.
وما دمنا قد دخلنا في دائرة مفرغة من التفاعلات السلبية التي بدأت بتأسيس الدولة، وتفاقمت وتعاظمت وفقا لتفاعلات الأحزاب الدامية، فأن الأمر مترابط ومتشابك، وكل مرحلة تساهم في زيادة وتعقيد عناصر التفاعل المرير .
ولن يخرج البلد من مأزق الويلات وحمى الكراسي والتحزبية والمذهبية وغيرها من أمراض المجتمعات وأوبئة الضياع والخسران، إلا بتغيير الأفكار والرؤى والنظر إلى الدنيا بمنظار العصر، وعدم التمسك بمنظار ما مضى وما إنقضى وقراءة ما جرى ويجري بواسطته.
إن مأزق الوطن الحضاري، هو أن هناك مَن لا يرى بعيون الحاضر والمستقبل، وإنما يحمل منظار كان يا ما كان ويقرأ الحياة بواسطته، ويتصرف على ضوء ما فيه من جراثيم الأفكار والتصورات، والمعتقدات الخالية من الحياة والمتعفنة في صناديق الآهات.
فلا النظام الملكي أفضل من النظام الجمهوري، ولا السابق أفضل من اللاحق، ولا اللاحق أفضل من السابق، وإنما الحالات تدور في ناعور يغرف من جهة ويصب في جهة، وفقا لمعادلة تثمير الويلات ونهب القدرات والثروات، والجميع وأكثر يساهمون في تدوير الناعور .
فلن تتغير الأحوال للأفضل ، لأن الإناء ينضح بما فيه، وما فينا لا يحقق مصالحنا ويقضي على حاضرنا ومستقبلنا، وتلك محنتنا الحقيقية التي أوجدت الصراعات واحتضنت الويلات والقهر والمعاناة.
فهل سنغير ما في أنفسنا وعقولنا لكي يتغير واقعنا ونمارس الحياة الحرة الكريمة؟!
هذه قراءة لواقع عراقي لكنها قد تنطبق على الواقع العربي بأسره، فالأوطان أجهزة حية في بدن الأمة، إذا أصيب الواحد منها بعلة يؤثر على بدن الأمة ويُعلّه!!
***
د. صادق السامرائي
23\7\2010