آراء
علي فضيل العربي: انقلاب النيجر.. إصرار في نيامي وهلع في باريس.
هل تحوّلت إفريقيا إلى مقبرة للديمقراطيّة والليبيراليّة؟
قامت القيامة في بلد النيجر الشقيق ولم تقعد. لأنّ جماعة من العسكر انقلبت على الشرعيّة الدستوريّة، وأزاحت الرئيس المنتخب عن كرسي السلطة. حقّا، لقد حدث ذلك منذ أسبوعين في بلد غنيّ بثرواته الظاهرة والباطنة، وأراضيه الزراعية الخصبة وشبابه، بلد يعيش في أحضانه شعب مسلم، طيّب، مسالم، لكنّه يعاني من ويلات الفقر المدقع إلى حدّ المتربة.
والسؤال المطروح: أين تذهب عائدات الذهب واليورانيوم وغيرها من ثروات النيجر الشقيق؟
لقد هبّ الغرب بقيادة فرنسا، التي مازالت تحنّ إلى سالف وجودها الاستعماري، بمعيّة ثلّة من الأفارقة المغرّدين في سربها، وتظاهروا، بل صنعوا مندبة على الديمقراطيّة والشرعيّة. والحقيقة أن شعب النيجر المسكين لا يعنيها من قريب أو بعيد، بل هي سبب ما يعانيه من فقر وتخلّف وأزمات أمنيّة حادة، ومن تغوّل بعض الجماعات المسلّحة التي تنشط في دول الساحل. إنّ فرنسا تلعب على الحبلين، فهي تلعب دور الصديق والعدو. وهذا دأب الاستعمار القديم الذي لم يستوعب ولم يهضم طرده من إفريقيا الغنيّة بثرواتها وشبابها. أين كانت فرنسا والغرب عندما حدثت انقلابات سابقة على الشرعيّة الدستوريّة في إفريقيا؟
ولكن الحقيقة التي لا غبار عليها، فإنّ فرنسا والغرب لا يهمّهما الديمقراطيّة في النيجر أو في إفريقيا كلّها؛ بشمالها وجنوبها، بشرقها وغربها. ما يهمّ السلطات الفرنسيّة، هو الحفاظ على مصالحها الاقتصاديّة ومكاسبها الثقافية التي جنتها أثناء احتلالها للنيجر وما بعد استقلال هذا البلد الإفريقي الساحلي، الواقع في منطقة استراتيجيّة، غنيّة بالمعادن الثمينة وبشبابها البكر، الطموح. هدفها من كلّ العيطة والزيطة هو الهيمنة على الموارد الطبيعية؛ من غاز وبترول ويورانيوم وذهب وحديد وغيرها من المعادن الثمينة. أين كانت فرنسا الديمقراطيّة - رافعة ثلاثيتها الثوريّة؛ الحريّة والأخوّة والمساواة - في ميدان الشانزيليزيه وقوس النصر، أثناء الانقلابات العسكريّة السابقة في إفريقيا؟ أم الديمقراطيّة الفرنسيّة والغربيّة لا تطلق العنان للسانها وجوارحها، ولا تلمز وتهمز وتلغو وتملأ الدنيا ضجيجا وعجيجا كالعربة الفارغة على مضمار أسفلت القرون الوسطى، تبدي حرصها على الشرعيّة الدستوريّة، إلاّ إذا شعرت بأنّ مصالحها في خطر.
لقد نهب الغرب الاستعماري خيرات إفريقيا لعدّة قرون مضت ولم يشبع - ولن يشبع - ومازال ينهب من خلال حكومات إفريقيّة غير وطنيّة، عميلة وخائنة لشعوبها مقابل عمولات أو مساعدات وهميّة. إنّ الغرب لا يتذكّر الديمقراطيّة وحقوق الإنسان في إفريقيا ولا يزعم الدفاع عنهما إلاّ إذا تهدّدت مصالحه. فالديمقراطيّة الإفريقيّة – في نظر الغرب – هي تنصيب حكام تُبّعا له.
هناك حرب أهليّة في السودان والصومال. هناك في إفريقيا العميقة مجاعة وجياع وأمراض ومرضى وحفاة وعراة، فراشهم التراب وغطاؤهم السماء وعبيد في أسوء حال. لكنّ عيون الغرب مغمضة، بل هي عمياء لا تُبصر سوى مناجم اليورانيوم والذهب والحديد والفوسفات ومنابع النفط والغاز وغيرها من خيرات إفريقيا المثقلة بالهموم والمآسي والديون والأمراض الفتّاكة والمرتوقة.
مازالت دماء ضحايا فرنسا الاستعماريّة من الشهداء الأبرياء، لمّا تجف بعد في المغرب العربي وإفريقيا عموما. ومازال الدهر لم يكشف بعد عن جرائمها كلّها في الجزائر، وكلّما افتضحت جريمة لها، هنا أو هناك، تبعتها أخوات لها أكبر وأفظع. إنّ فلسفة المستعمر، وسيكولوجيّة الاحتلال لا يحدّها مكان ولا زمان. وربّما اعتقد بعض المغفّلين، أنّ الغرب الاستعماري قد تخلّى عن فلسفة احتلال الأخر وإذلاله واستعباده ونهب خيراته، وتخلّى عن أطماعه، المتوارثة عن العصر الوسيط، عصر المغامرات والقرصنة والاكتشافات الجغرافيّة، وهو – لعمري – اعتقاد خاطيء ومهلك، مردّه إلى الغفلة والسذاجة والجهل بعبر التاريخ ومخرجات السياسة.
إن الانقلاب في النيجر مؤشر على يقظة الشعوب التي نخر عظامها الاستغلال الأوروبي غير المشروع لثرواتها المعدنيّة، ما ظهر منها على السطح وبطن، وما خفيّ منها وما هو ظاهر للعيان.
إنّه الصيف الإفريقي الماطر، يا سادة، الذي أيقظ الأفارقة في جنوب الصحراء والساحل من سبات دام عقودا من الاستغلال والاستدمار، عكس الربيع العربي المزعوم الذي دمّر البنيان وخرّب النسيج الاجتماعي، وما نجا منه دمّرته الطبيعة، وأكملت سلسلة الخراب والدمار في الحوز ودرنة وما جاورهما. إن الغرب الصليبي الرافع لراية حقوق الإنسان منذ عقود من الزمن البشري، ينفق عشرات التريليونات على الحروب البينيّة والأهليّة، وعلى تطوير الأسلحة الفتّاكة؛ التقليديّة منها وغير التقليديّة، وعلى أقمار التجسّس وأجهزته وعملائه، في الوقت الذي يتضوّر أطفال أبرياء وأمّهات مغلوبات على أمرهنّ جوعا وخوفا. لماذا يغض الغرب المنافق الطرف عن مآسي أطفال اليمن وسوريا والسودان وفلسطين والروهينغا، بينما أظهر للعالم أشدّ الاهتمام ومنتهى الإنسانيّة عند تعلّق الأمر بأطفال أوكرانيا؟ لماذا عجز مجلس الأمن وجمعيته الأمميّة المتّحدة قولا لا فعلا عن وضع نهاية للحرب في اليمن وسوريا والسودان؟ لماذا تبدو الدول الأوروبيّة الغنيّة – وغناها من ظهر إفريقيا – مقتّرة وممسكة وقابضة اليمين في إعاناتها لضحايا الكوارث الطبيعيّة المدمّرة؟
إن ما ابتليت به إفريقيا من مآس واستبداد وكوارث، تتحمّل مسؤوليته ووزره فرنسا . لعدّة أسباب أهمّها: أنّ هذه المجتمعات الإفريقيّة المنضويّة أنظمتها تحت سقف الفلسفة الفرانكفونيّة، مازالت تعتبرها فرنسا غنيمتها التاريخيّة وامتدادها الاستراتيجي؛ الثقافي والسياسي والاقتصادي. ومازالت فرنسا تنظر إليها بعين الوصيّ على أيتام قصّر لم يبلغوا بعد سنّ الرشد، بل إنّ فرنسا تحلم – توهّما – بالعودة عسكريّا تحت غطاء محاربة الإرهاب الجهادي والجماعات المتطرّفة وبارونات السموم. بينما الواقع أنّ عدم الاستقرار في المستعمرات الفرنسيّة السابقة، راجع بالدرجة الأولى إلى السياسة الفرنسيّة القائمة على فلسفة النوستالجيا الاستيطانيّة (الحنين الاستيطاني) والأنانيّة الفوقيّة والنظرة إلى الشعوب الإفريقيّة نظرتها إلى البقرة الحلوب.
لقد غزت فرنسا الجزائر في يونيو 1830 م، بحجة تحرير الجزائر من الاستعمار العثماني، وفرضت على مدينة الجزائر حصارا استمرّ ثلاث سنوات. و" أنّ الجنرال دي بورمون كان ينوي تماما عدم التخلّي عن مدينة الجزائر للعثمانيين، وهو الذي كان قد صرّح للكولورليس، وللعرب، ولسكان المدينة، أنّ الجيش الفرنسي قد جاء لطرد الأتراك طغاتكم، وأنّهم سيحكمون كما كانوا يحكمون من قبل في بلدهم أسيادا مستقلّين في مسقط رأسهم، وبعد أن قال أنّ الولاية ستخضع قبل خمسة عشر يوما أعلن تباعا أنّ المور (1) والعرب ينظرون إلينا كمحرّرين "(2).
و لمّا وطأت أقدام الغزاة أرض الجزائر الطيّبة، عاثت فيها فسادا وخرابا. أخلفت فرنسا وعودها كلّها، ونقضت معاهداتها، وارتكبت أفظع الجرائم. لم ترع عهدا، ولم تحترم دينا ولا لغة ولا عرفا ولا تاريخا. داست كلّ المقدّسات بنعالها. نهبت الأموال والودائع والمكتبات، وأحرقت البيوت على رؤوس أهلها وحوّلت المساجد إلى اسطبلات وأعدمت أكثر من أربعة آلاف من المسلمين المعتصمين في مسجد كتشاو ا (3) العتيق، بعدما رفضوا تحويله إلى كنيسة. وكان منظر إخراج المصاحف والمخطوطات الدينيّة إلى ساحة الماعز وإحراقها أشبه بمنظر إحراق هولاكو للكتب في بغداد عندما اجتاحها. ولسان حال الجنرال روفيقو يردّد: " يلزمني أجمل مسجد في المدينة لجعل منه معبد إله المسيحيين ".
إنّ ما ارتكبته فرنسا من جرائم خلال فترة احتلالها المقيت الممتدّة من 1830 م إلى 1962 م، لا تتّسع له صفحات الدنيا ومدادها ولو كان البجر مدادا لها والأرض قرطاسا. ثم تطلّ فرنسا، اليوم، ومن ورائها أذنابها وفلكها الغربي الصليبي، بمرثيّة الديمقراطيّة والشرعيّة الدستوريّة وحقوق الإنسان في النيجر وعموم إفريقيا والعالم العربي. ألا ما أغبى الاستعمار، إنّه فعلا " تلميذ غبيّ " كما قال الجنرال الفيتنامي " جياب "، وما أغرب مواقفه منّا – نحن أهل الجنوب – حين يتعلّق الأمر بمصالحه الاقتصاديّة.
حان الوقت لتطبيق شعار إفريقيا للأفارقة، دون إفراط أو تفريط. وإنّ مبدأ التعاون بين الأمم والشعوب مبدأ فطريّ، لا تنفر منه الطبيعة. إنّ الكون مبنيّ على التناسق والتكامل، فالكائنات الأرضيّة والفضائيّة تمارس غريزة التعاون والتكامل والتدافع في مسارات متوازيّة أو متفاعلة . إنّ النظام الكوني قائم على عنصري الإيجاب والسلب، وزوال أحدهما عاقبته الخراب ونهاية العالم.
لقد حان الوقت لتعود إفريقيا وخيراتها لأبنائها، وليرفع الاستعمار القديم ميسمه عن إفريقيا. إنّ إفريقيا في حاجة إلى البدء في كتابة تاريخ جديد، وبمداد وأقلام أبنائها البررة. إنّ إفريقيا الغنيّة بمواردها الطبيعيّة، الثريّة بشبابها وإطاراتها وتراثها الحضاري، جديرة بالعيش في ذروة القمّة، لا في حضيضها الأسفل.
***
بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر
.............
هامش:
(1) المور: المور وجمع الموريون. بالإسبانية (موروس) وبالإنجليزية (مورس)، وبالفرنسية (مور). مصطلح في اللغات الأوروبيّة، شاع استعماله في وصف عرب الأندلس والمسلمين
(2) تاريخ الجزائر المعاصرة – شارل روبير اجيرون ص 76 / 77 - - ترجمة عيسى عصفور – منشورات عويدات – بيروت وديوان المطبوعات الجامعية – الجزائر – ط 2 – 1972.
(3) كيتشاو ا: كلمة تركية مركبة من(كيت) وتعني ساحة و (شاو ا) وتعني عنزة . اسم أشهر مسجد شيّده الأتراك في الجزائر، وسمّوه (كيتشاوا) نسبة إلى الساحة المجاورة، وكان الأتراك يطلقون عليها اسم: سوق الماعز. أسّسه القائد خير الدين بربروس عام 1520 م.