آراء
ابتسام يوسف الطاهر: غياب اليسار يعني غياب العدالة
الشعوب وعلى مر العصور ما فتئت تبحث عن العدل والعدالة لتعينها على تحمل مصاعب الحياة، وما الاديان الا وسيلة من وسائل ذلك البحث الذي ولد مع ولادة أولى المجتمعات الزراعية.. لذلك في عصرنا الحالي انتمت فصائل عديدة من الفقراء عمال وفلاحين وطلبة ومثقفين للاحزاب اليسارية شيوعية واشتراكية من التي ناضلت من أجل تلك العدالة، ومنهم بعض الأغنياء من المتعاطفين مع الفصائل الأخرى او المؤمنين بالقيم الإنسانية السامية. لاشك أن لكل منهم غاياته من وراء ذلك الانتماء، فمنهم من آمن بشكل حقيقي بما طرح من نظريات وأفكار وفلسفة اشتراكية والتزم بها و ناضل وضحى من أجلها، بينما البعض الآخر كان اليسار بالنسبة له مجرد ركوب موجة أو حبا بالمغامرة. ونوع آخر ركب على أكتاف اليسار لتحقيق مطامح شخصية ذاتية أو قومية. والكثير من الفئة الاخيرة صارت اليوم تنتقد اليسار والأحزاب الاشتراكية لأنها تريد تغيير ما فطر عليه الإنسان من حب التملك ! وبعضهم او الكثير منهم متأثرا بالدعايات ووسائل الإعلام الغربية والأمريكية بشكل خاص، والذي قلنا في أكثر من مرة أنه يجند كل امواله وذكاء المبدعين فيه من أجل السخرية والحط من القيم الاشتراكية واليسار.مع انحسار دور اليسار في العصر الحالي يكتشف الانسان الواعي انحسار القيم والمثل الانسانية وانحسار روح التضامن بين الشعوب وارتفاع نزعة الأنا والانانية لدى الافراد. فالماكينة الدعائية ابدعت الافلام والمسرحيات والروايات وحتى افلام الكارتون لتزج فيها سخريتها من اليسار واليساريين وتيئيس الشعوب من فكرة العدالة الاجتماعية التي ينادي بها اليسار، وتشبيههم بفارس طواحين الهواء الدون كيخوته! وجندوا بنفس الوقت الكثير من المغيبين فكريا ليوهموهم بفكرة التعصب الديني مستغلين النزعة الإيمانية وتغلغل الدين بين صفوف الطبقات الفقيرة، والتي لا امل لها سوى في العالم الاخر ليحظوا بما وعدهم الله من حياة مرفهة وجنات تجري من تحتها الانهار. فاوهموهم تجار السلاح الغربيون بانهم يمكن ان يسارعوا الى ذلك العالم من خلال انتحار جماعي كما رأينا وعشنا في الجرائم البشعة التي ارتكبتها العصابات الارهابية باسم الدين.
إذن لا حل لليسار ليستعيد موقعه بين صفوف المتعبين غير مواجهة ذلك الكم الهائل من الخبث والدعاية ضدهم، بما يوازي ذلك الحجم من السخرية من الفكر الاستهلاكي والجشع الراسمالي، وفضح استغلال الفقراء واستخدامهم وقود لاشعال الحرائق وتدمير البلدان لتحقيق مآرب الغرب الرأسمالي وبالأخص أمريكا. وسلاح اليسار أن يعتمد على قوة الحجة والمنطق وقدرات ساخرة توازي السخرية المقابلة. البعض كان يرى في النظام البريطاني (الرأسمالي) الحل الامثل فهو أفضل حتى من بعض الانظمة الاشتراكية وقد حقق مبدأ (من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته). وهذا صحيح جدا ولكن من ناضل من اجل تحقيق ذلك هم اليسار البريطاني. فبعد الحرب العالمية الثانية ومعاناة الشعب البريطاني إثر تلك الحرب ضغطت تلك الفصائل اليسارية والثورية، بقيادة الحزب الشيوعي حينها وحزب العمال الذي كان يساريا منتميا حقا للعمال ومنهم المناضل الفذ السيد توني بن، على الحكومات البريطانية لتوفير معيشة كريمة للشعب لتعويضه عن الخسائر البشرية والنفسية والمعاناة التي تكبدها من جراء تلك الحرب. فلولا اليسار لما كان للعاطلين عن العمل والمرضى وكبار السن، من مساعدات تحفظ كرامتهم. وهذا مايحاول بعض من المترفين من اتباع امريكا مثل بوريس جونسن وفرّاج وغيرهم تغيير تلك القوانين والشرائع التي صارت جزء من الدستور البريطاني، ليعودا إلى نظام شريعة الغاب أي البقاء للاقوى أو الاغنى!
إذن ظاهرة انحسار اليسار هي ظاهرة عالمية، بعد تعرضهم لكل أنواع التشويه والمشاكسات بل وحتى محاربتهم بسبل العيش والضغوط النفسية، فوسائل الاعلام الغربية تعمل بلا هوادة للسخرية منهم وللحط من أفكارهم. خاصة بعد تعدد وسائل الإعلام والتطور التكنولوجي التي تستخدم لتحييد الشباب وملء فراغهم برغبات الاستهلاك والرغبات الذاتية البعيدة عن القيم الاجتماعية والسمو، بل وتعزيز فكرة حب الامتلاك بكل اشكاله وتحويلهم على عبيد للاستهلاك والشراء من أجل الشراء فقط، والبعد عن القناعة والتضحية من اجل الاخر!
إذن ابتعاد اليسار عن الساحة هي فرصة للآخر لتنتصر قيمه، وبالتالي تضييع كل التضحيات التي قدمتها الشعوب والفصائل اليسارية سدىً. فلا مجال للتهاون ومنح الغرب الرأسمالي الفرصة للإثراء على حساب الدول الفقيرة الناشئة، ومنح الفرصة للشر أن ينتصر على الخير والامل. فلابد من البحث المتواصل لمعرفة ذوات الشباب واهتماماتهم وطبيعة تفكيرهم ومعرفة مدى استعدادهم لتبني الأفكار السامية والقيم الإنسانية لمواجهة التحديات، مستخدمين نفس الوسائل الإعلامية وتجنيد الابداعات الفكرية والفنية ليستعيدوا موقعهم وانقاذ مايمكن انقاذه. والاهم هو تنقية روح الفرد من الأنا والانانية. لا اعتراض على حب التملك لكن بعيدا عن عبودية الشراء وجشع الاستهلاك
***
ابتسام يوسف الطاهر
لندن 2023