آراء
فرات المحسن: العراق وسباق المسافات الأمريكي
دائما ما سببت المواقف الأمريكية تجاه الوضع في العراق حالات من الفوضى والإرباك والقلق بين أوساط الشعب العراقي.فهي وفي العموم تتفاوت بين الشدة واللين، بين الجد والإهمال، بين التغاضي والتضييق،بين التهديد والوعيد مقابل الرضا والقبول. ومع هذه الربكة في التعامل تنهار العقلانية عند الكثير من الناس وتحجب الرؤية الواقعية لديهم وتشل القدرات وتضطرب معها الحياة اليومية بجميع تفاصيلها، ويفقد الناس حياة الطمأنينة ويعيشون القلق والتوتر بانتظار تلك اللحظات المرتقبة الممزوجة بالخوف المشروع من ما تضمره طبيعتها ومآلاتها.
فالعراقي يتلقى يوميا كما هائلا من الأخبار المتضاربة، ومشاكله ومشاغله اليومية تجعله يفقد القدرة على تدقيقها والوقوف على حقيقتها، لتتحول لديهم لوظيفة نفسية اجتماعية ذات قدرة على تنشيط وإثارة التفاعل والاضطراب، وفي نفس الوقت تشيع الفزع والريبة والشكوك، وتنتعش معها قريحة البعض من السياسيين صناع الخوف وزعزعة القناعات ومروجي الشرور، وتبدأ مرحلة حياكة الروايات والسيناريوهات على طريقة ضاربات الودع وقراء الطالع، ومثال على ذلك الأخبار المتداولة والمتكررة في جميع وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، عن تغيير قادم لا يبقي ولايذر، يكتسح أمامه كل شيء، ولا تقدر على مقاومته أية قوة. جبروت مدمر لا تستطيع صده أي متاريس وموانع .
ولكون الإنسان العراقي يعاني من أزمات حادة ومزمنة سببتها له السلطات الحاكمة على مر عقود طويلة من عمر الدولة العراقية ولحد الآن، فان هذه الأنباء تجعله يعيش بتوتر انفعالي دائم، لذا نراه يدخل في هوس التحليل وتفاصيل سياسية شائكة ومرهقة وبالذات ما يتعلق بالموقف الأمريكي وسباق التصريحات المربكة التي يتلقاها والتي لا يجد فيها ما يساعده على الاستقرار وضبط إيقاع حياته اليومية.
نهاية عام 2022 أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن عن إنهاء الولايات المتحدة لمهامها القتالية في العراق ، وأشار في ذات المرسوم الرئاسي لاستمرار بقاء عدد من القوات الأمريكية بمهام تدريب الجيش العراقي. ولكننا فوجئنا لاحقا وفي هذه السنة 2023، بمرسوم آخر مدد الرئيس بايدن بموجبه حالة الطوارئ الوطنية، المتعلقة بالأوضاع في العراق، وجاء في المرسوم الجديد: لا تزال هناك عقبات تعترض إعادة الأعمار المنظم للعراق، ولضرورة استعادة السلام والأمن في البلاد والحفاظ عليهما، يحتاج العراق تطوير مؤسساته السياسية والإدارية والاقتصادية ، لذا تمدد حالة الطوارئ الوطنية المتعلقة بالأوضاع في العراق. مع التأكيد على أن هذه العقبات تشكل أيضا تهديدا غير عادي للأمن القومي والسياسة الخارجية للعراق للولايات المتحدة الأميركية.
عندها أثيرت تساؤلات جادة وحيوية تتعلق بطبيعة وتوقيت هذا الإعلان، وما انطوت عليه هذه الرسالة التحذيرية المقلقة. فما هي غايات الرئيس بايدن مما جاء بمرسومه هذا، هل يعني وضع نوع من الوصاية على العراق، يتقدمها حفظ وحماية الأصول المالية العراقية الموجودة في الخارج، أم اتخاذ تدابير محددة تفرض من خلالها قيود على تحركات الحكومة العراقية لإعادة ترتيب تشكيلاتها الإدارية ونسق عملها، بما يوائم مصالح العراق وقبلها المصالح الدولية تتقدمها المصالح الأمريكية، أو أن الغرض من حالة الطوارئ إعلان عقوبات صارمة وصادمة ضد شخصيات أو قوى وجهات سياسية بعينها تعدها الولايات المتحدة عقبات تعترض تطوير مؤسسات الدولة السياسية والإدارية والاقتصادية، وتقف بالضد من استعادة وصون السلام والأمن، وبات وجودها يشكل تهديدا غير عاديا للأمن
القومي والسياسة الخارجية الأمريكية، وأصبح العراق جراء أعمال وتحركات هذه الأطراف، منطقة غير آمنة وخطرة على المصالح الأمريكية وهذا يستدعي إعادة وضع العراق تحت نوع من أنوع الوصاية أو الحماية القسرية.
دائما ما مثلت سياسة وزارة الخزانة الأمريكية تجاه السلطة في العراق نوعا من أنواع التهديد العلني والصريح بإمكانية غلق العديد من المنافذ التي تتنفس عبرها مؤسسات الدولة العراقية وبالذات الاقتصادية منها. حيث من المعروف قدرة وزارة الخزانة على فرض قيود مالية تشمل مراقبة صارمة لتداول العملة في البنوك العراقية، وفرض قيود تعارض تعاملات البنك الدولي وباقي المؤسسات المالية الدولية مع العراق. وتستطيع أيضا مخاطبة وزارات ومديريات عديدة في أمريكا لتقييد التعامل مع العراق، من مثل وزارات الخارجية والأمن القومي والعدل والطاقة والدفاع والتجارة، ومديرية مراقبة التجارة ومكتب مراقبة الأصول المالية الأجنبية وهيئات الكمارك، وإعطائها الإشارة بتقييد التعامل وفرض جزاءات على المؤسسات العراقية والبعض من السياسيين، ومراقبة حركة الممتلكات العامة ولأشخاص محدودين وشركات ومؤسسات بعينها، ومن ثم التهديد بتجميد كافة الأصول المالية للحكومة العراقية الموجودة في الولايات المتحدة، وهذه التهديدات لوحت بها الإدارة الأمريكية خلال بداية أزمة الدولار في العراق، ولكنها وعند منتصف الطريق خففت من حدة تهديداتها وتغاضت عن الكثير من السياسات الاقتصادية المعطوبة للحكومة والبنك المركزي العراقي.
في جميع الاحتمالات فان مستقبل العراق مهم ، ليس فقط للعراقيين بل للمنطقة والمجتمع الدولي بأجمعه، وما تقوم به الولايات المتحدة أو لا تقوم به، سيكون له تأثير كبير على مستقبل المنطقة.وهذا ما دفع المتحدث باسم مجلس الأمن القومي السيد ادم هودج للقول بأنهم يؤيدون سيادة واستقلال العراق بشكل كامل، ورحب بزيارة أمير قطر للعراق، وهذا الترحيب تلميح لأهمية ومحورية علاقة العراق بمحيطه العربي بعيدا عن المحاور الأخرى.ومثلت زيارات السفيرة الأمريكية السيدة آلينا رومانوسكي وتطوير علاقتها ببعض أطراف العملية السياسية وبالذات ممن لهم علاقة وطيدة بالجانب الإيراني وسبق لهم أن أدلوا ولمرات عديدة بتصريحات متشنجة عن امتناعهم إجراء أي لقاء أو مقابلات مع الجانب الأمريكي، والإصرار باعتبارها أي أمريكا بلدا محتلا للعراق وعليها الخروج منه. وكان تصريح السفيرة بالقول إن الإدارة الأمريكية لن تعود إلى لعبة تغيير أنظمة الحكم،مثال حيوي لحسن نوايا وعملية تطمين قدمت كعربون للأصدقاء الجدد.
بعد انقضاء كل تلك السنوات ومنذ خروج العساكر الأمريكان عام 2011 ومن ثم إعادة تواجدهم وفق تخريجه دبلوماسية ـ عسكرية، سميت بقوة التحالف الدولي للحرب ضد الإرهاب، وانتشار عسكري تحت مسمى تدريب الجيش العراقي.عادت للتفكير بلعب دور جديد وحيوي يختلف عن سابقته. يبدو السبب في هذه العودة القوية والاهتمام الجدي وكذلك تفعيل الدبلوماسية النشطة من خلال التحركات الدؤوبة والمحورية للسفيرة السيدة آلينا رومانوسكي،التي قالت وهي تخرج من اجتماع ضمها وبعض رجال عشائر، بأن العراقيين لايرغبون بوجود مليشيات.كل هذه التخريجات والتحركات جاءت بعد أن أدركت الولايات المتحدة الفجوة الكبيرة التي أحدثها تضارب الأفعال والرؤية القاصرة التي شابت الأداء العسكري والدبلوماسي غير المقنع، للطاقم الذي كلف بإدارة العمل في العراق خلال السنوات العشر الماضية.وكذلك ما تمخضت عنه الوقائع على الأرض قبل وبعد انتهاء سيطرة داعش على المدن العراقية. وليترافق كل هذا مع احتدام التجاذبات والمشاحنات غير العقلانية والتشوهات السياسية والاقتصادية وعدم الثقة التي تشوب علاقات وسلوك الكثير من السياسيين العراقيين، مما سبب ويسبب خللا كبيرا في إدارة المؤسسات وإضاعة أموال الدولة. لذا باتت الأوضاع في العراق تحتاج العودة إلى مشروع يعزز وجود الولايات المتحدة قبل أي شيء أخر، ويعطي انطباعا حيويا لطبيعة مهامها وحتمية بقائها كفاعل محوري، يتقدمه بالأهمية الحفاظ على مصالحها الحيوية، ولذا عليها استحداث أطر عمل جديدة لطبيعة العلاقة مع العراق، وهذا ما دفع الإدارة الأمريكية بالعودة لقراءة الحدث العراقي بتفاصيل جديدة قديمة يجعلها أكثر مكنة ودراية وفهما للمشكلة العراقية. مما اضطر الرئيس لإعلان مرسومه الأخير استنادا للأمر التنفيذي المرقم 13303 الصادر عام 2003 أي بعد أيام من احتلال العراق وعلى عهد الرئيس جورج بوش الابن.ويقضي هذا المرسوم بحضر تصدير بعض السلع الخاصة بالإضافة لمعاقبة شخصيات وكيانات تضع العراقيل وتعترض تطوير مؤسسات الدولة وتمارس أعمالا تهدد السلام والأمن.
تجزم الإدارة الأمريكية أن العراق لازال يواجه معضلات جمة ليس من الممكن حلها على المدى القريب دون تقديم تضحيات على المستوى السياسي والعام، وهذا يجعله يحتاج إلى شريك فعال ومتعاون وقوي. ولكن ولحد الآن فالكثير من الساسة العراقيين يجدون أن إيران لازالت تمثل وعلى أرض الواقع، الشريك الأقرب اقتصاديا وسياسيا، وليست للعراق القدرة على فك الارتباط بهذا الشريك دون مواجهة تبعات كبرى لا طائل منها. كذلك فالوجود الأمريكي يجد أمامه عقبات كأداء تبعد حسم الأمور لصالحه، ربما أولها يتمثل بهشاشة إجراءات الحكومة العراقية و ترددها أمام سلطة الأحزاب والكتل السياسية ذات العلاقة بإيران،وعدم قدرتها على فرض القانون،والوقوف بحزم أمام النزاعات العشائرية وانتشار السلاح وتحركات البعض من الفصائل المسلحة خارج سيطرة الدولة. يضاف لذلك انتشار جنوني وعميق للفساد الإداري وسرقة المال العام في عموم مؤسسات الدولة وبأشكال عديدة ومرعبة طال آذاه شرائح واسعة من المجتمع العراقي وأنهك الاقتصاد وأعاق عمليات التنمية والبناء وأشاع الجريمة وقوض سلطة القانون.
من الجائز أن البعض من الساسة في الولايات المتحدة أدركوا بأن هناك حاجة فعلية لإعادة ترتيب علاقة ذات طابع خاص تستطيع الولايات المتحدة عبرها إمساك ما تستطيع إمساكه واكتشاف التعرجات المربكة داخل العملية السياسية الجارية في العراق والإقدام على معالجتها. لذا وجدت ما كانت تنتظره لحسم خيار تمديد حالة الطوارئ الوطنية المتعلقة بالأوضاع في العراق لوضع قواعد عمل لكسر حلقات سلسلة الروابط السياسية والاقتصادية للعراق مع الجانب الإيراني عبر زج الخليج ومصر والأردن في صلب معركة إعادة البناء وعودة العراق لحضنه العربي. لذا حددت لهذا اتجاهات ذات طابع تكاملي سياسيا واقتصاديا، لا يشمل تأثيرها الجانب العراقي فقط ، وإنما معني بعموم الإقليم. وكذلك الوقوف بوجه جميع من يحاول الإخلال بأمن العراق وقبله بطبيعة العلاقة بين الطرفين الأمريكي والعراقي.
وفي سياق العمل هذا وضعت الإدارة الأمريكية أولويات بعينها لبنية السلطة العراقية وتركيبتها، والتي تكفل من خلالها تشكيل ائتلاف واسع يعمل على ضمان المصالح الوطنية للجميع، وهذا الأمر وحسب اعتقاد الأمريكان هو الخيار الأفضل في الوقت الراهن والذي تشجع على ديمومته، فهذا الموديل يقدم تسهيلات جمة بعد أن يطمئن الاستقرار المجتمعي والسياسي عبر شراكة الأضداد، ويكون شرط رسوخ عملية المحاصصة في تقاسم السلطة. على أن يكون الهدف هذا مقرون بتعزيز المصالح الأمريكية ليصبح لها الأثر الفاعل في مسيرة توطين العملية كطريق لمستقبل العراق.
وأهم ما تؤكد عليه النقلة الجديدة، حقل العلاقات الاقتصادية حيث يضمن العمل سهولة وانسيابية تصدير النفط العراقي الذي يقع ضمن أولويات الولايات المتحدة وبرامجها وأنشطتها الدولية، ويبقى واحدا من أهم العوامل المحركة للنمو الاقتصادي الإقليمي والعالمي.
***
فرات المحسن