آراء
العلمانية واليسار وخيار الديمقراطية
تبدو الديمقراطية واحدة من المبادئ الحاسمة في اختبار السلوك وتوصيف الأحكام عن طبيعة السلطة وحراكها واستحكاماتها، وتعد الديمقراطية بمبادئها العامة، الثغرة النافدة التي تعطي المبرر المنطقي لمنظمات وهيئات ذات مصالح متشابكة ومترابطة، لتأشير الإخفاق وإثارة التساؤلات ورصد الظواهر والخصائص الأساسية الكلية لطبيعة نظام الحكم، أي نظام حكم كان. ومن ثم توصيف طبيعة تعامله مع الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعلاقته بأفراد المجتمع، وطابع ردود أفعاله تجاه حاجاتهم الآنية والمستقبلية، وهل هناك علاقة تكافؤ بين السلطة والجماهير، لخلق توازن مرن لتامين السلم المجتمعي. ومن خلال حيثيات هذا المدخل والمراقبة، تكون الديمقراطية بابا للضغط على السلطات لأجل بناء قواعد للسلوك والقيادة، بالرغم من كون هذا المدخل دائما ما يكون واجهة لما هو أبعد من ظاهره.
مع التطور التاريخي المتسارع، يبدو أن معادلة الديمقراطية أصبحت أكثر تنوعا وتشابكا وتأثيرا، فقد خرجت لما وراء حدود الدولة القومية، وتم ثلم الكثير من الخصوصيات الوطنية، لصالح شراكات دولية، إثر ظهور نماذج لروابط بعيدة ومؤثرة، تتمثل بصيغ العولمة الاقتصادية والتقنيات والمعلوماتية، وتشابك مشتركات المصالح الدولية والهيئات والمنظمات الدولية، التي باتت العامل الأقوى في التأثير على سير الأحداث وقلب المعادلات، والضاغط الأكثر قوة لتغيير أنماط السلوك والتفكير المحلي، ودفعه لمواكبة متطلبات الشراكة الدولية، ومن ثم صناعة التوجهات وأساليب وسياقات العمل والعلاقات حتى اليومي منها، بما يتناسب وتلك المشتركات العالمية.
تعرف الديمقراطية بمبادئها وقيمها الأساسية، وتلك القيم والمبادئ هي التي تقدم الدليل الحيوي على فاعلية ونشاط وحقيقة علاقة المؤسسات والأفراد بنموذجها الأمثل، ونوع الترتيبات والطرق المتخذة لصيانتها وتطويرها.وفي عموم مظاهرها تبرز القواعد والقيم من مثل، مشاركة المجموع في صناعة القرار العام، وتأثيرهم على صناع القرار، وكذلك المساواة الفاعلة بينهم في الموقف، والتمثيل والمسؤولية والشفافية والتفويض، والقدرة على التأثير والسيطرة على اتخاذ القرار، وإزالة احتكار النخبة له، والمكاسب الناتجة عنه، وكذلك مدى فعالية وشفافية النظم التي تتحكم بعمل المؤسسات المدنية (السياسية ـ المهنية ـ الاجتماعية) والى أي مدى تتخطى تلك الفعاليات التشوهات والتعديات والتقسيمات الجنسية والدينية والعرقية، وما هي الحصانة الفاعلة لنظام المؤسسة المالي والإداري، ضد اشتراطات المصالح الخاصة .كل ذلك يمكن من خلاله تعريف الديمقراطية وتقييم علاقة تلك الفعاليات والمؤسسات بقواعدها .
في محاولة لتقييم وضع الحكومات التي تدير وقائع الحدث اليومي في العالم الثالث، وضمن البحث في تأثير هذا المضمار الواسع من العلاقات الدولية المتشابكة والمعقدة المتعددة الأوجه، ولكون العديد من تلك السلطات تفتقد حقول السياسة والإدارة فيها، لأي نوع من أنواع الحريات والسلوك الديمقراطي. فقد باتت تتعرض لضغوطات وجرعات حث مستمرة، لزجها في حومة الحراك الدولي ودفعها نحو خيار النهج الديمقراطي كسلوك عمل، ولذا ما عادت معزولة أو محصنة في بعدها الوطني.
إن مثل هذا التوصيف يضعنا في خانة الطعن في بعض القوى دون غيرها، وبالذات القوى الحاكمة، ويقودنا لتغافل الحقائق حول موقف الآخرين وقيمهم، وعليه يتوجب للوصول إلى الفكرة الأعم، بافتراض تقصي جميع ذلك الخليط غير المتجانس، والتداخل المربك بين الطبقات والشرائح الاجتماعية في هذا العالم المترامي الأبعاد، ونتاج مؤسساته المدينية على مستوى الأداء والفاعلية والمشاركة والشفافية المبدئية.
لذا وفي محاولة تقصي المسيرة الديمقراطية في الحياة العامة، فإن مثل هذا المبحث يسترعي الإشارة أيضا للكثير من القوى العلمانية في هذا الجزء من العالم، والتي سنحت لها الظروف، امتلاك شيء من السطوة وبناء قواعدها الجماهيرية. وهنا لا حاجة لنا للتكرار والاستعانة بقائمة الخروقات اليومية لحقوق الإنسان والديمقراطية، التي ترتكب من قبل تلك القوى العلمانية، والذي يفرض علينا الواقع وضعها في خانة القوى التي لا تتمتع بعلاقة سوية مع الطبيعة والسلوك الديمقراطي، وفي المحصلة النهائية نجبر على تصنيفها ضمن القوى المضادة للديمقراطية وحقوق الإنسان، وما أكثر هذه النماذج والكتل والشرائح وما أوسعها وبالذات في العالم العربي، والشرقي أيضا. لذا لا يمكننا حصر واختزال إشكال الديمقراطية عند حدود نموذج بعينه، وضمن نمط قيمي أيدلوجي، والافتراض عنوة أن العلمانية أو اليسار قلعة حصينة للديمقراطية وحقوق الإنسان.
في نظرة فاحصة لتشكيلة قوى العلمانية واليسارية، نجد أن هناك الكثير من الجفوة بينها ومفهوم الديمقراطية، وكذلك وجود تمويه ملتبس لمفهوم العلمانية، وهذا أيضا من عيوب الكثير من القوى بمختلف أشكالها ونماذجها القومية والمحلية (اليسارية والمحافظة). ولا يمكن قصر الإشكال عند هذه الحدود أو تقنينه بآليات وملكات تختص بها تلك القوى دون غيرها، وإنما الواجب يفترض النظر بموضوعية، لهوامش أخرى تتحكم في المسار العام للعلاقة بين الوعي الديمقراطي والوعي الاجتماعي، ومن ثم تأثير القيم والعادات والتقاليد، في تركيبة ونشوء تلك الفعاليات. يضاف لذلك العلاقة الملتبسة والمشوهة، التي تنتظم وفقها نماذج الأداء السلطوي وآليات القوانين والدساتير المشرعة، وتأثيرها في طبيعة التكوينات والمؤسسات السياسية والاجتماعية، ومدى القسوة والعنت الذي يمارس لتعميم وفرض خيارات متخلفة محبطة وباعثة على الخيبة، في ظل غياب سلطة القانون والتشريعات التي تحمي المواطن وتكفل حقوقه وتعطي لمؤسساته المدنية حرية الخيار والحركة والتطور.
مجمل قوى اليسار والعلمانية العربية نشأت وفق خيار استيراد الأيدلوجية من الخارج أو محاولة خلق توليفة بين المستورد والمحلي (قومي ـ تراث وطني) باستعارات للخروج بنموذج، اعتقدت تلك القوى بأنه الخيار الأكثر حضارية وعقلانية، وأنه الأقرب لنبض الشارع، والأكثر قدرة على مواكبة التطور. وكان ولا زال التجريب والاستعارة وردود الفعل الآنية، الصفة الغالبة على الخطاب الأيدلوجي، لجميع تلك القوى السياسية، مما جعلها تتخبط في الرؤى والأفعال، وأصبح من العسير عليها إكمال مشوار نهضتها وعدتها المعرفية وقدراتها التنويرية، وهذا ما جعل الوضع السياسي بمجمله يعيش أزمة حقيقية، تتمثل بقصور بائن في مواكبة التطور الحضاري ومعطيات العصر، وتخلف البنية التنظيمية لتلك القوى، بالرغم من اعترافنا بطليعيتها وتقدمها على باقي تشكيلات المجتمع. فصفة اللاثبات لا زالت تميز فكرها وفعلها السياسي .
سجلت سنوات الخمسينات والستينات والسبعينات نزوعا حقيقيا لكثير من القوى القومية العربية نحو اليسار، وتبني الفلسفة الماركسية كخيار تاريخي. وكان الظن، أنه يعيد بعث الهوية القومية علميا، وفي ذات الوقت يقوم بخلق ثقافة تهمش العواطف القومية وتقضم أضرارها. وكانت ساحات انتصار ذلك التوجه، واضحة للعيان بين أوساط حركات الكفاح المسلح الفلسطينية والخليجية وفي اليمن وشمال أفريقيا وغيرها من أماكن وحضور للحركات العلمانية القومية في الوطن العربي. وساهمت الحركات الفكرية الماركسية في إنضاج توجهات تلك المشاريع، ليصبح المد اليساري الواجهة الأكثر حضورا والأشد مكنة في الشارع السياسي العربي.
ولكن المؤسف أن تلك التحولات اقتصرت على استعارات مشوهة وهجينه للرطانة (السوفيتية)، من مثل تبجيل خيار حكم النظام الحزبي الشمولي البعيد كليا عن المفهوم الماركسي للطليعة. واستمر العمل الحزبي بذات التوجهات السابقة كناتج ملتبس للعمل السري الخالي من الانفتاح والنقد، والخانق للمبادرات والتعبير الفردي بحجة الديمقراطية المركزية والشرعية الثورية. وقد فرض الأداء السلطوي العدائي الكابح للحريات والعلنية، على تلك الأحزاب والفعاليات خيار الإيغال في الإجراءات السرية والتشبث بالمركزية، واتخاذها كمتاريس للحصانة في مواجهة الأساليب العدوانية للسلطات الحاكمة، وعمم ذلك في النظم والعلاقات الحزبية الداخلية، ومع هذا بات من العسير على المبادرات الفردية اختراق التبريرات والحجج القاضمة للديمقراطية دون التعرض لتهمة الخيانة والتحريف .
إن أي رصد للواقع السياسي العربي وقواه الناشطة، يؤشر اليوم لهول التردي الذي وصل إليه وحجم التحديات المفروضة عليه.ولو أردنا المقاربة، فأن أول ما يواجهنا هو الحقيقة المرة في انعدام الديمقراطية والحريات والشرعية القانونية، ليس فقط للهياكل الرسمية لمؤسسات الدولة، وإنما داخل مؤسسات المجتمع المدني، وعلى رأس قائمتها التيارات الفكرية والسياسية، التي لم تكن الديمقراطية لتحتل مكانة متقدمة في جدول أعمالها . وليس من العصي التدليل على حجم ذلك التردي، لو أطلعنا على الآليات والنظم والعلاقات الداخلية التي تسير عمل تلك الفعاليات والتيارات.فنجد فيها هياكل تنظيمية تتعاطى العمل السري وتداول المحظور، وتشيع في أوساطها (ازدواجية المعايير، الخطاب الفكري المتحيز، السلطة الكهنوتية الأبوية، الإقصاء والتخوين والطعون، تقبل المساعدات المالية المشروطة، الضغوط على الأعضاء لتغيير المواقف، التكتل والشللية والإقصاء، التطير من النقد، الانغلاق على الذات وعدم القبول بالرأي الأخر والحفاظ على روح الوجاهة والقرابة واللحمة، والنزعة الطائفية والمناطقية والعشائرية وتقديس الأفراد). كل تلك العيوب هي منجز جماعي، ساهمت فيه القوى الفكرية والسياسية العربية، بما فيهم صناع الثقافة ومنتجوها ومبدعوها ومؤسسات المجتمع المدني، ومن الإجحاف اختزال مسببات ذلك الخراب فقط عند أروقة السلطة الحاكمة وشخوصها ومؤسساتها، رغم أن ثقل الإشكال يقع بالدرجة الأولى على عاتقها.
إن هذا المشهد المتناقض والشديد الالتباس، يؤشر لازمة فكرية شاملة تلف الكثير من الفعاليات والقوى الثقافية والسياسية العربية، ويؤكد هشاشة وتصدع هويتها الفكرية وفقدانها لقناعاتها بقدراتها الذاتية في مواجهة المحن والأزمات، ويشخص الخلل الكبير في منهجية واستراتجيات تلك القوى والأثر الضار والمدمر الذي تركه ويتركه العمل السري والتغييب القسري للديمقراطية.
***
فرات المحسن