نصوص أدبية
سعاد الراعي: الحرز (2)
حين خفّ هدير النزيف في جسد الفتاة، وهدأت الأجهزة إلى نبضٍ مُنتظم كأنها تستعيد إيقاع الحياة من حافة العدم، خرجت الممرّضة من الغرفة بخطواتٍ مترددة تحمل في جيب ردائها قلقًا كثيفًا، قلقًا لم يكن مما يُقال، بل مما يثقل الصدر كصخرةٍ صامتة لا يتبدّد ثقلها. كان الصباح يتأرجح بين سواد الليل وبياض الفجر، والممرّ الطويل يشبه مجرى نهرٍ هجره صوته، لا يُسمع فيه إلا أزيز خافت لأجهزةٍ تقاوم الصمت كما تقاوم الأرواحُ الهشّةُ الغرق.
في نهاية الممر، كانت امرأةٌ تجلس على مقعدٍ خشبيٍّ مُتآكل الحواف، تضمّ ذراعيها إلى صدرها كمن يحمي قلبًا يتشقق تحت وطأة الانتظار. وجهها شاحبٌ كأنما فَرَّ منه الدمّ إلى حيث لا رجعة، وعيناها الواسعتان لا تحملان سوى خوفٍ يتسلل منه الرجاء كما يتسلل الضوء من نافذةٍ مُغلقة. عرفت الممرّضة، دون أن تسأل، أنّها الأم؛ أمٌّ أنهكها الزمن وجرّح الانتظار في ملامحها خطوطه العميقة.
اقتربت منها بابتسامةٍ متعبة، تُخفي وراءها اضطرابًا لم يُفلح عقلها في تهذيبه، وقالت بكلماتٍ مقتضبة إن الحالة استقرت وإن الخطر تراجع قليلًا. لكنّها لم تذكر شيئًا عن الحرز. لم تستطع. ثمة يدٌ غامضة غير مرئية كانت تُغلّف الكلمات وتمنعها من الخروج. شعرت أن السر لم يعد ملكًا للفتاة وحدها، بل صار وديعة مشتركة بينها وبين قدرٍ مبهم، بين الرحمة التي تحاول أن تحيا، والمصادفة التي تضرب بلا إنذار.
أخرجت الاستمارة وبدأت تسأل الأم بالهدوء المعتاد في مثل هذه المقابلات:
– الاسم؟
– حياة عبّود.
– العمر؟
– أربعة عشر عامًا.
ثم أضافت الأم بصوتٍ يكاد ينكسر:
– متزوجة… ولم تُرزق بعد بأطفال.
توقفت الممرّضة لحظة، كأن الزمن انكمش حولها. أربع عشرة سنة فقط؟ كانت الجملة تتردّد داخلها كصفعة باردة. كيف تحمل طفلةٌ هذا القدر من الوجع؟ كيف يسع العالم أن يضع هذا الحمل في صدرٍ لازال غضًّا؟ تمتمت ببضع عبارات رسمية وانسحبت، لا تهرب من الأم، بل من الشعور الذي نما داخلها كشوكةٍ مسنونة.
* في غرفتها الصغيرة عند طرف المستشفى، حيث الليل ينسحب متثاقلًا كجسدٍ هرم، جلست الممرّضة ايفا أمام طاولتها وأخرجت من جيبها الحرز. كان قطعة جلدٍ باهتة تفوح منها رائحةٌ تشبه الغبار المختلط بأنفاس الذاكرة، وحولها خيوط خشنة كأنها بقايا خيطٍ تشبّث بالحياة قبل أن ينقطع. تأمّلته طويلًا. لم يكن محض تعويذة. كان فيه أثرُ نبضٍ قديم، أو ربما ظلُّ خوفٍ لامسته أصابع طفلةٍ تسلّلت إلى عالمٍ أكبر من قدرتها.
تساءلت في سرّها:
ما الذي يدفع طفلة على أعتاب المراهقة أن تتمسك بهذه القطعة كما يتمسّك الغريق بخشبةٍ متهالكة؟
أهو أثر أمٍّ غابت؟ أم عهدٌ صغير لقصّة حُب وأدها الزمن؟ أم خرافة تغزلها الروح حين لا تجد ما تسند به نفسها سوى قطعة جلدٍ ظنّها الآخرون بلا قيمة؟
لكنها لم تجرؤ على حلّ عقدته. شعرت أن فتحه دون إذن صاحبته خيانة لروحٍ أُنهكت بما يكفي. ضمّته بين يديها لحظةً، كأنها تمنحه بركتها أو تستأذنه أن يبوح لها قليلًا مما يُخفيه. وفي الوحدة التي لا يُسمع فيها إلا صرير قلمها، أدركت أن كل إنسان في هذا العالم يحمل حرزًا خفيًّا، لا يُصنع من جلدٍ ولا قماش، بل من ذكرى أو وجع أو وعدٍ لم يكتمل.
عند بزوغ الضوء، حين غسل الفجر وجوه الممرضات المتعبات، أعادت الممرّضة الحرز إلى جيبها بخفة، كأنها تعيد قلبًا إلى صدره. شعرت أن هذا الشيء الصغير صار جزءًا من عالمها، شاهدًا على هشاشة البشر، وعلى قدرة الألم في جعل أبسط الأشياء معنىً يُقاوَم به الموت.
* في صباح اليوم التالي، حين توقفت سيارة "جيب" عسكرية أمام بوابة المستشفى، بدا صوتها المبحوح وكأنها تحمل سرًا أسود لا يريد أن يُقال. نزل منها رجلٌ متجهّم، في وجهه قسوة الصحراء وريبتها، يشدّ على بندقيته كمن يشدّ على فكرةٍ مريضة بالسلطة. دخل بخطوات تتعالى فوق البلاط كأنها صفعات، واتجه نحو موظفة الاستقبال يطلب رؤية ابنة أخيه وأخذها إلى البيت.
اتصلت الموظّفة بالممرّضة المسؤولة، فجاء صوتها من آخر الممرّ متعبًا لاهثًا. ظهرت بعد لحظات أمام الرجل، وقالت بصوت تحاول أن تخفي ارتعاشه:
"الحالة ما تزال خطيرة جدًا… هناك تمزّق شديد في جدار المهبل، والنزيف عاد بقوّة، وربما نضطر إلى عملية عاجلة. كما أنها في شبه غيبوبة."
قطّب الرجل حاجبيه وقال بغلظة:
"حياة تتمارض. هي تعرف كيف تخدعكم جميعًا. سأعود غدًا لأخذها… ولو كانت على فراش الموت."
وغادر، تاركًا خلفه تهديدًا أثقل من الهواء.
أسرعت الممرّضة إلى الغرفة، فوجدت حياة ترتجف، جبينها مبللٌ بالعرق، عيناها نصف مفتوحتين تُحدّقان في الباب كما لو أنه فم جحيم. كانت قد سمعت كل كلمة. الاقتراب من صوته وحده يكفي ليعيدها إلى مقبرة الخوف التي نجت منها بالكاد.
حملت إيفا ثوبًا نظيفًا لتبدّله بثوبها الملطخ بالدم. وعندما عجزت حياة عن رفع ذراعيها من شدّة الإعياء، اضطرت إيفا مع زميلتها إلى القص. وما إن انفتح الثوب حتى انكشفت ملامحُ مأساةٍ لا تُحتمَل؛ كدماتٌ زرقاء وسوداء وجروحٌ تتناسل فوق بعضها، كأن جسدها خريطة وطنٍ مزّقته الحروب.
شهقت الممرضتان، ثم تماسكتا، وأخذتا تنظفان الجراح بالماء والقطن. في تلك اللحظة لم تعودا مجرّد ممرضتين؛ كانتا شاهدتين على قسوةٍ تجد لها في الظل ملاذًا، وعلى طفولة تُذبح.
بعد أن ألبستاها الثوب الجديد ورتبتا فراشها، جلستا إلى جانبها يُنصتان لآهاتها الخافتة. لم تكن الكلمات ضرورية، فالصمت كان أبلغ.
وفي الليلة ذاتها، حين أثقلها الخوف، بدأت كوابيسها تُهشم هدوء الجناح. كانت تصرخ وتشدّ شعرها كأنها تقتلع الوجع من جذوره. هرعت إيفا إليها، تفكّ أصابعها من خصلاتها وتقول لها بصوتٍ يبلسم الروح:
"اهدئي يا حياة… أنا هنا."
فتحت حياة عينيها وقالت بصوتٍ مكسور:
"ارجوك يا ايفا، لا اريد ان اسمع صوت عمي مجددا…. الموت أهون من رؤيته يفتح هذا الباب."
وفيما كانت إيفا تُمسك بيدها، استدعيت على عجل لحالة طارئة. وقبل أن تغادر، سقط من جيبها قلم معدني صغير على شرشف السرير.
لم تنتبه الممرّضة، لكن حياة انتبهت. التقطته سريعًا، شعرت ببرودته كأنها تمسك سلاحًا صغيرًا، ثم خبأته في جيب ثوبها.
كانت تعرف أن تهديد عمّها ليس مجرد كلمات. الرجل لا يعرف رحمة، ولا يتورع عن اقتحام المكان مهما كان.
جلسَت على السرير، تراقب الباب بعيونٍ تحرس نفسها من مصيرٍ يتربّص بها. الليل الثقيل يضغط على صدرها، والظلال تمتدّ حتى تصل إلى وجهها كأنها أصابع عمّها نفسه. أيُّ صوتٍ في الممرّ كان كفيلًا بأن يقفز قلبها بين ضلوعها: خفقة، صرير عجلات، صوت حارس بعيد… كلّها أصوات تتحول في خيالها إلى وقع أقدامه.
حين غلبها الإرهاق أغمضت عينيها قليلًا. فرأت الطفلة التي كانتها ذات يوم، في التاسعة من عمرها، تُساق إلى بيت العمّ كمن يُساق إلى سجنٍ بلا جدران، ولا يسمع العالم صراخها.
استيقظت بفزع على همس الريح قرب النافذة. نظرت إلى السماء المعتمة فلم تجد إلا نجمةً وحيدة تلمع. شعرت كأنها تقول لها:
"ما دام الليل طويلًا… فالفجر قادم."
رفعت القلم أمام عينيها، لامعًا تحت الضوء الخافت، وقالت في سرّها:
"لن أكون فريسة بعد اليوم… لن أعود إلى القبر الذي جئتُ منه حيّة."
يتبع
**
سعاد الراعي






