نصوص أدبية
سعد غلام: مَسَافَاتُ النُّورِ الْخَفِيِّ
(العبور إلى المجهول)
سَأُغْرِقُ خُطْوَيَّ فِي نِدَاءِ الضَّوْءِ،
وَأَمْضِي فِي انتِشَاءِ غَمَامَةٍ سَوْدَاءِ،
أَسِيرُ عَلَى مَدًى يَشْتَدُّ فِي صَدْرِي،
وَأَلُفُّ نُجُومَ أَحْلَامِي عَلَى رِيحٍ تُدَاعِبُهَا السُّهُوبُ.
2
أُرَاوِغُ سَاعَةَ الْفَنَاءِ، وَأَسْتَبْقِي
شُظَايَا الْوَقْتِ فِي أَكُفٍّ تَبْسُمُ الْأَفْلَاكُ فَوْقَ رَيَّاهَا.
3
يَذُوبُ صَدْرِي فِي مُرُوجِ الْمَاءِ،
وَيَصْحُو فَوْقَهُ صَوْتٌ مِنَ الْغَيْبِ،
يُسَافِرُ فِي جَنَاحِ الْحُلْمِ مُسْتَنْفِرًا كَوَاكِبَ السُّدُومِ.
4
لِأَقْرَعَ أَبْوَابَ الْغُيُوبِ، وَأَنْسُجَ
مِنَ الْيَأْسِ الْقَدِيمِ قُبَّةً أُخْفِي بِهَا وُجُوهَ الْكَوَاكِبِ.
5
يَا أَيُّهَا الصَّوْتُ الَّذِي يَأْتِي عَلَى ظِلِّي،
غَيِّرْ نِدَاءَكَ، لِيَفْتَحَ جُرْحُنَا أُغْنِيَّتَهُ الْمَرْسُومَةَ.
6
وَرَجَعَتِ الْقَافِلَةُ مِنْ بَحْرِ الرَّمَادِ،
وَأَشَارَ السِّرَاجُ إِلَى وَجْهِ الْفَتَى،
فَخَافَ الْخُطْوَةَ، وَارْتَدَّ إِلَى الظِّلِّ،
فَاقْتَادُوهُ، وَقَطَعُوا عُنُقَهُ فِي السُّحُبِ،
وَمَضَيْتُ أَجُرُّ وَجْهَ دَمِي، وَأَحْفَظُ حُلْمَهُ.
7
مَضَيْتُ كَالرِّيحِ الَّتِي تَجْتَازُ أَجْفَانَ الصَّدَى،
تَخُطُّ عَلَى ضُلُوعِ الْغَيْبِ أُغْنِيَةَ النُّدُوبِ.
8
قَطَعْتُ صَحَارِيَ الْيَأْسِ، أَحْمِلُ ظِلَّنَا الْمَجْرُوحَ،
يَرْتَفِعُ الْحِصَانُ عَلَى شُرُفَاتِ نَجْمٍ مُشْرِقٍ طَلِقٍ.
9
لَوْ أَنَّنِي أَمْلِكُ زَمَانَ النُّبُوَّةِ،
لَسَجَّيْتُ الطُّفُولَةَ فِي بُسْتَانِ اللَّوْزِ،
وَحَوَّلْتُ حُرَّاسَ الظِّلَالِ طُيُورَ أَمَانٍ تَطِيرُ.
10
يَا أَرْضُ، خُذِينِي إِلَيْكِ كَيْ أَسْكُبَ أَسْمَاءَ الْفَقِيدِينَ فِي نَبْضِكِ الْخَفِيِّ.
11
أَصْعَدُ كَالْجِذْوَةِ الْعَاتِيَةِ فِي وَقْدَةِ النَّهْرِ،
وَأُشْعِلُ فِي دَمَائِي وُجُوهَ أَيَّامِي الْقَدِيمَةِ.
12
يَرْفَعُنِي الْيَأْسُ كَهَزِيمَةٍ نَبِيلَةٍ،
وَيَغْسِلُنِي الْوَعْيُ كَمَطَرِ الْخَرِيفِ الْمُشْرِقِ.
13
لَسْتُ نَجْمًا وَلَا نَبِيًّا مُعَدَّدًا،
بَلْ سَاكِنُ الْخَلْقِ فِي مَتَاهَةِ الْجَسَدِ الْمُقَفَّرِ،
أَنْحِتُ مَصَائِرِي عَلَى أَكُفِّ الرِّيحِ، وَأَنْتَظِرُ الرُّجُوعَ.
14
فِي صَدْرِ هَذَا الْكَوْنِ أُشْعِلُ أَلْفَ نَشِيدٍ،
وَطَنِي نُقْطَةُ دَمٍ عَلَى جَبِينِ الرِّيحِ الرَّؤُوفِ.
كودا:
فِي الْمُنْتَهَى
يَبْقَى الظِّلُّ ظِلًّا،
وَتَبْقَى الْخُطَى فِي الرِّيحِ عَلَامَةً لَا تُمْحَى
فِي مَسَافَاتِ النُّورِ الْخَفِيِّ
يَصْغُرُ الْمَلَكُوتُ فِي صَدْرِي،
وَتَتَّسِعُ الْعُزْلَةُ حَدَّ الْكَوْنِ
أَنَا النَّازِفُ فِي جُبَّةِ الْغَيْبِ،
السَّابِحُ فِي مَرَايَا السُّدُومِ،
الْمَطْرُودُ مِنْ يَقِينِ الْحَشُودِ؛
أَكْتُبُ بِالدَّمِ رِسَالَتِي الْأَخِيرَةَ:
-وَطَنِي لَا يَسْكُنُ الْخَرَائِطَ؛
وَطَنِي هُوَ النَّازِفُ فِي نُقْطَةِ الضَّوْءِ،
يَنْبُضُ كُلَّمَا أَضَاعَهُ الزَّمَنُ في صمت الخراب، يهمس الضوء،
يقول لي: «هذا هو العبور».
كل رماد، كل سقوط، يولد صدىً جديدًا،
والظلّ يصبح وجه الحقيقة.
***
د. سعد محمد مهدي غلام






