نصوص أدبية

ناجي ظاهر: الجار الشرير

بدأت المشكلة لحظة اعتقادنا أنها وجدت الحل الابدي لها، وما زلت اتذكر أمي وهي تنظر إلى أبي وتبتسم في خفر أول مرة منذ هجرنا من قريتنا الوادعة في منطقة بيسان. وتقول له الحمد لله صبرنا ونلنا. عندها طلب منها أبي أن تُعدّ نفسها للتوجه إلى بيت أبي داوود لإكمال شراء قطعة الأرض الصغيرة، تمهيدًا لإقامة براكية عليها تؤوينا وتقينا شرور التنقلات من قرية إلى قرية ومن حارة إلى حارة. في بيت أبي داوود اتخذ كل منّا نحن أبناء العائلة المقطوعة من دوحة غناء، مجلسه وما زلت أتذكّر ابتسامات أبي داوود وتساؤلات أمي وأبي، وسط تطمينات أبي داوود. انتهت تلك الجلسة بثقل، بطء وانتظار، لنتوجّه جميعًا إلى تلك الأرض الموعودة، ارض الميعاد.

بدت لنا تلك القطعة المقدّسة من الأرض الصغيرة كبيرة، وقد وقف كل منّا في أعلاها يرسل النظرة الحانية الرؤوم نحوها ونحو امتدادها المغري الاصيل. أنعمنا النظر فيها، فرأينا رجلّا وامرأة وفتاة كل منهم يشتغل بحماس ولا يفصله عن أرضنا سوى سياج قليل الارتفاع. استغرق كل منا في حالة حالمة، هنا سنقضي أيامنا الطيبة دون ان يقلقنا مؤجر أو تقف لنا زوجته متخنصرة تطالبنا بأجرة البيت في الثلاثين من كل شهر. ولم نفق من غفوتنا إلا بعد أن سمعنا أبا داوود يحدّد لنا مساحة أرضنا:

-هناك هل ترون ذاك الوتد الخشبي.. حتى تلك مسافة تشمل قطعة الأرض المجاورة والعاملين فيها). هذه القطعة الأرضية لكم. لقد أجرينا كل المعاملات. هي لكم بإمكانكم بدء العمل لإقامة غرفة او براكية حسب امكانياتكم.

كلام أبي داوود هذا مرّ على جميع أبناء اسرتنا الصغيرة مرور الكرام، كان كل منهم يستغرقا بأحلامه وتصوراته، وكانت أمي هي أول المستغرقين تلاها أبي، فأختي الصبية الطالعة المتطلعة إلى الحياة الهانئة السعيدة. أنا الوحيد الذي انتبه إلى ما قاله أبو داوود. سألته:

- أحقا ما تقول؟ ولماذا يعمل هؤلاء في أرضنا..

- لا تقلق يا ولدي.. هذه الأرض لكم.. رد أبو داوود، فواجهته: إذا كانت هذه الأرض لنا.. لماذا يعمل فيها ذاك وينعم بخيراتها؟ مشيرا إلى أولئك العاملين في الأرض. صمت أبو داوود. وخيّم صمت على المكان، كان الصمت مدهشًا ما جعل أبناء اسرتنا يقفون حائرين. أما انا فقد انتصبت رافعًا راسي إلى السماء:

    -انت يا حبوب.. لماذا تعمل في أرضنا؟ ومن سمح لك بالعمل فيها؟

رفع ذلك العامل راسه، وعاد يعمل فكرّرت عليه السؤال، غير أنه لم يردّ، عندها اقتربت منه وأمسكت فأسه:

-مَن سمح لك بالعمل في أرضنا؟

عندها اضطر ذلك الرجل على ما بدا أن يؤشر إلى أبي داوود:

-اساله.. أعرف أنكم اشتريتم هذه القطعة من الأرض.. إلا أنه هو من سمح لي باستغلالها..

تجاهلت ما قاله الرجل قُبالتي وغرست عيني في عيني الرجل المدبق بارضنا:

-دعنا من أي كلام فارغ.. انني أطلب منك أن تتوقف عن العمل في أرضنا.. أنت ذاتك أقررت بانها أضحت ملكًا لنا.

بدا ان الامر اسقط بين يدي ذلك العامل في ارضنا، فأرسل نظرة نحو ابي داوود.. وعندما لم يجد ردًا.. ركب رأسه وطلب من أبناء اسرته مواصلة العمل، عندها لم يكن أمامي من مفر سوى افهامه بنوع من الحسم. سالته بحدة رجل مهجر عرك الحياة وسبر اغوارها القاسية:

-ستغادر ارضنا.. يعني ستغادرها..

وتوجهت الى ابي داوود:

-الم ندفع مقابل هذه القطعة من الأرض؟ الم تضحي ملكا لنا؟

عندها لم يكن امام ابي داوود الا الإجابة الواضحة المباشرة:

-بلى انتم من اشتريتموها.. وهي ملك لكم.. منذ دفعتم ثمنها.

إجابة ابي داوود هذه شجعتني اكثر.. فانتفضت انتفاضة نسر غاضب.. وتوجهت الى الرجل العامل في ارضنا الجديدة:

-هل سمعت؟ الأرض باتت ملكا لنا..

انكمش الرجل في موقفه.. وطلب من أبناء اسرته التوقف عن العمل، فأرسلت نظرة فرحة الى أبناء اسرتي، لقد نظفنا ارضنا. هي الان باتت ملكا حقيقيا لنا.. وتشجعت اكثر، فطلبت من ذلك الجار الشرس.. الشريك المعتدي، ان يزيل سياجه اللعين من ارضنا.. فاضطر لإزالته.. جرى كل ذلك ما بين الصعوبة والصعوبة.. والإصرار من جهتي.. هكذا اوشكت المشكلة على الانتهاء.. غير انا ما صارت اليه قال ان الامر ليس كذلك.. فقد اكتشفنا لأسفنا القاتل ان أبا داوود قد سمح لذاك الرجل وأبناء اسرته ان يقيموا في ارضنا.. اكتشفنا هذا عندما ترك أبناء تلك الاسرة موقعهم وتوجهوا الى موقع اخر قريب.. عندها ابتدأت معركتنا من اجل التحرير.. وما زلنا منذ تلك الأيام الى هذه الجارية.. نحاول استرداد ارضنا.. يحدونا امل جبار.

***

قصة: ناجي ظاهر

في نصوص اليوم