نصوص أدبية
علي فضيل العربي: رؤيا في إيكوزيوم

فجأة، وفي غمرة من الحزم والعزم والحماس تدفق خلق كثير نحو الشوارع والأزقة والساحات.. كأنّ زلزالا عنيفا رمى بهم من وراء الجدران الأبواب والنوافذ والشرفات..
يا إلهي، ماذا حدث؟ لماذا غادر أهل إيكوزيوم* البيوت والحوانيت والمقاهي والحدائق، وحتى المشافي والعيادات الخاصة؟ وكان من عادة الناس يوم الجمعة، وهو عطلة الأسبوع لجل الموظفين، أن يختفوا عن الأنظار.. وأن يناموا حتى ساعة متأخرة من الضحى.. يمارسون في نومهم عادات التثاؤب والتكاسل والشخير والتناسل والتمطط تحت الغطاء الدافيء.. وهي عادات محمودة بعد أسبوع من العمل والخصام والتعصب والسفر والانتظار والقلق ونزول الضغط الدموي وصعوده، وكثير من الآلام النفسية والجسدية..
ليس من عادة المدينة أن تضج في هذا اليوم.. ثم ما بال الناس مجتمعون عند البريد المركزي؟ ماذا حلّ بهم؟ أهي أزمة سحب الرواتب كالعادة؟ لقد تعودت المدينة على الهدوء كل يوم جمعة.. فلا يخرج بعض أهلها إلاّ للصلاة عند منتصف النهار، والبعض الآخر فيخرج للتنزه على واجهة البحر، كون أنّ الحدائق نادرة، والمساحات الخضراء قد ابتلعها الإسمنت..أما السواد الأعظم، فيقبعون في البيوت، يمارسون القيلولة والشخير وأشياء أخرى...
تقول الحكاية، التي تشبه أساطير ما قبل التاريخ:
إن أصواتا سُمِعت فجرا، وأمرت أهل إيكوزيوم بالمغادرة نحو الشوارع والساحات.. وبثت في نفوسهم شغف الخروج..
ولم ير أحد لتلك الأصوات ظلالا، ولم تتبين ملامحها لأحد.. وكيف قدمت؟ ومن أين قدمت؟ وما مصدرها؟ أمن السماء أم من البحر أم من كهوف الأرض؟
الحاصول، أنّ سكان المدينة، أصابتهم رغبة شديدة في مغادرة بيوتهم، وأشباه بيوتهم.. تلك الرغبة التي تتحول بسرعة فائقة إلى نوع من الجنون، يشبه جنون البقر، يصيب كل من رفض الخروج، او أبطأ فيه.. بل إنّ مجرد التفكير في عدم الخروج، يتحول إلى حكّة جلدية شديدة تشبه حكة الإكزيما ونوبة من القلق الذي يعقب عادة زلزالا عنيفا بعد منتصف الليل..
وقال آخرون، إنّهم رأوا رؤيا واحدة موحدة، طوال الأسبوع الذي سبق تلك الجمعة.. والغريب أن الناس قد أصابتهم الدهشة، وهم يروون تلك الرؤيا الموحدة.. فكلّما رواها أحدهم قال آخر:
- لقد رأيت ذلك أنا أيضا ليلة البارحة أو ما قبلها.
وهي ظاهرة غريبة وعجيبة.. أن يرى الناس رؤيا موحدة، وكأنهم على قلب رجل واحد.. وملخص الرؤية، أنّهم رأوا أنّ مدينتهم سيبتلعها البحر، إن لم يخرجوا لإنقاذها من الهلاك والفناء.. ليس مثلما حدث لمدن التسونامي.. بل إنّ مدينتهم ستهرول مسرعة ناحية البحر.. وترتمي في أعماقه.. وهي تعتقد أنّها سوف تبتلع البحر بما فيه.. لكن سيحدث العكس.. فقد ولد البحر قبلها بقرون.. كان هو السابق وهي اللاحقة.. هي الجزء وهو الكل.. والبحر ماؤه أجاج.. لا تستسيغ ماءه إلاّ مدن الملح.. ومن أجل ذلك خرجوا لدفع الكارثة عن مدينتهم.
وصدّق سكان المدينة الرؤيا، وخرج منهم الرجال والنساء والشباب والشيوخ والعجائز، والرضع المحمولين بين الأيدي، وعلى الرقاب والكواهل، وحتى الأجنة التي مازالت في الأرحام، إلاّ شرذمة قليلة.. كذّبوا، وأبوا الخروج من بيوتهم..
و قالوا عن تلك الرؤيا:
- إنّها مجرد أضغاث أحلام لا غير.. ومتى كانت الرؤى يقينا.. ربما أكثر هؤلاء الحالمين من أكل الفول والبازلاء في موسم الربيع.. هههههه..
وكان أن أصابتهم الحكة الشديدة.. واقتربوا من دائرة الجنون، بل وصاروا كأبقار مجنونة، لا يصلح لحمها ولا لبنها..
وروى شاهد عيان عنهم، أنّهم فقدوا البصر والبصيرة.. ندم بعضهم، وتلاوموا، واشتدّ تلاومهم إلى حد الخصام والتنابز بألقاب الفسق. تدابروا وتقاطعوا، ولم يبق منهم رجل رشيد..
قال شاهد عيان:
- أنّهم، لمّا فقدوا السمع والبصر والفؤاد.. وسقط بين أيديهم. ادّعوا أنّ تلك الرؤيا، ماهي إلا سحر ساحر.. أراد أن يستوليّ على خيرات مدينتهم...بعد أن يقنع أهلها أنّه منقذهم من الغرق.. وأنّ البحر لا يبتلع مدنه الأصيلة..
و لمّا قيل لهم بالدليل والشاهد:
- ألم تروا كيف فعل المحيط بمدن في الشرق؟ ألم تشاهدوا ذلك التسونامي؟
قالوا، بنبرة الجدل العقيم:
- ذاك من عمل المحيط، وليس البحر.. بحرنا لا يأكل من لحم أبنائه، ولا يشرب من دمائهم.
ونسوا آلاف الضحايا الحرّاقين الذين غيّبهم البحر، كما تغيّب أجهزة المخابرات ضحاياها في بلاد العُرب والأعراب.
والغريب في الأمر – إضافة لعدم تصديقهم للرؤيا – أنّ حكماءهم، الذين منحوهم صكوك الهلاك والوباء نصحوهم بأكل نفايات دجاج التريسنتي ( الكهرباء )، من (الكاشير) والجبن، ليشفوا من سكرهم وكوابيس أحلامهم.. لكن حدث عكس ذلك تماما.. فقد اشتدّ عليهم مرض الجنون.. وأصيبوا بالكساح.. وفقدوا الذاكرة.. ونسوا محل وجودهم وزمانه..
و أضاف شاهد عيان:
- لقد أصابتهم حشرة " الطكوك "( 4 )، وتفاقم داؤهم، لمّا بقوا مصرين على تكذيب الرؤيا، وتساقط شعر رؤوسهم، فصارت قرعاء مثل أرض هجرها الماء.. وارتخت أطرافهم العليا والسفلى.. حتى عادوا لا يتحركون إلا زحفا على البطون أو الدبر...
روى أهل إيكوزيوم الحقيقيون، الراسخون في الصدق والوفاء لمدينتهم، لا الوافدون، المزيّفون، الذين لا ظلّ لهم.. عن مدينتهم صفحات من عجائب البطولة والشهامة والإباء.. فهي، كما يقولون، مدينة لا يحكمها إلاّ الرجال الأحرار.. وكم حاول الغرباء من البدو والعجم استمالتها بشتى السبل والحيل والقسوة والمكر، لكنّها استعصت عليهم، وأذاقتهم مرارة الحنظل...
اكتظت الشوارع والساحات بسيول بشرية.. لم تشهد مدينة إيكوزيوم مثلها قط من قبل.. كادت الأشجار والأحجار والجدران أن تسير في ركب حراكها.. وكانت أسراب من القطا والحمائم البيضاء والسنونوات تضفي على فضائها ألوانا من بهجة الربيع.. وبدت المدينة تعيش ربيعها الأخضر بعد عقود من اليباب..
وانبسط البحر هادئا، ضاحكا، رومانسيّ الهوى، غارقا في لجّة الإغراء.. كان فيما يبدو، يعزف على أوتار الغواية، ويترنّم نسائم الانتظار.. كان عريسا ينتظر عروسه في ليلة الزفاف.. لكنّ إيكوزيوم، لم تترجل صوب البحر بفضل أهلها الشجعان، الأحرار.. ولم يبتلع البحر سوى المكذّبين بالرؤيا. فقد أقدموا على الزحف نحوه مثل السلاحف وكلاب البحر. وكانوا مأدبة نتنة لأسماك البحر.
وعند الأصيل قاءهم البحر وأبصر أهل إيكوزيوم أسرابا من الغربان تنعق وتحوم على الشاطيء حتى أدركها الظلام.
ونجت إيكوزيوم من الغرق والفناء، بفضل أهلها الشرفاء.
(تمت)
***
بقلم القاص: علي فضيل العربي – الجزائر
..........................
هامش:
(1) إيكوزيوم: الاسم التاريخي لمدينة الجزائر، موقعها هو موقع حي القصبة في العاصمة الجزائرية الحديثة. ومن أسمائها: المحروسة، البهجة، الجزائر البيضاء.
الطكّوك: حشرة تصيب الأبقار في زمن الربيع، فتهيّجها، وتحيلها إلى أبقار ناطحة، حرونة