نصوص أدبية
سعاد الراعي: "على حافة الأبوة... حين بكى الجليد"

أسام، مهندس عراقي، نشأ في بيتٍ تتقاطر من جدرانه رائحة المعرفة وتنضح زواياه بحب الحياة. بيتٌ تملأه موسيقى الرحابنة، وتتعطر صباحاته برائحة القهوة التي كانت والدته تصنعها بحنو. في كنف والدين، لا يملكان سوى تعليم متوسط ولكنهما ربيا اولادهما على الانفتاح، متشربين معنى الحرية لا كترفٍ أناني، بل كمسؤولية تتطلب وعيًا ونضجًا وسموًّا عن الأهواء العابرة.
حين ضاق الوطن بأحلامه، حملها أسام الى المنفى. كانت أوروبا هي الأرض التي رماه القدر في حضنها، وتحديدًا مدينة رمادية المناخ، باردة العاطفة، تئن من وطأة الصمت. هناك، التقى بـ إليزا، مهندسة معمارية كأنها جاءت من كتب الحداثة، بعينين عسليتين كغابات الشمال، وابتسامة فيها من الجرأة ما يغري ومن الثبات ما يطمئن. كانت مثلَه مغتربة، لكن غربتها صقلتها، فبدت متجذّرة في عالم الدقة والنظام، تسير بخطى مدروسة لا تعرف العشوائية.
جمعت بينهما الهندسة أولاً، ثم الموسيقى، ثم ليالٍ من الحديث المتواصل عن الخرائط المعلقة في القلب: عن الوطن الذي خلّفاه، والغربة التي وجدا فيها ملاذًا وعبئًا معًا. لم يكن حبًّا عابرًا، بل اتحادًا حقيقيًّا بين روحين تتلمّسان معنى الأمان في بعضهما.
جاءت الطفلة الأولى، ليلي، فكانت إشراقًة جديدة في حياتهما. لم يلبث هذا النور أن تضاعف بولادة التوأمين، نوح وآدم. بدا كل شيء في بدايته كقصيدة حب تكتبها الحياة بمداد النعمة، لكن سرعان ما انقلبت المشاهد إلى مزيجٍ يوميّ من الصراخ، والفوضى، والتعب الممتد على مدار الساعة.
استحال المنزل إلى ورشة حياة لا تهدأ، يعمل فيها الأبوان بصمت وجَلَد وكان له منها النصيب الاكبر: إطعام، تبديل حفاضات، تهدئة نوبات البكاء، تنظيم نوم الأطفال، إعداد وجبات، تنظيف لا ينتهي... ثم دوام عمل لا يرحم أمام شاشات لا تطفأ. ومع كل ذلك، لم يكن أسام وحده في الميدان، لكن شيئًا غريبًا كان يتآكل روحه، شيئًا لا يُرى ولا يُقال، إنما يُحسّ كغصة في القلب.
لم يكن التعب من الشراكة، بل من تآكل الذات تحت وطأة الأدوار المتعددة. بات يشعر أن كيانه يُضغط بين جدرانٍ غير مرئية: جدران الروتين، والمسؤوليات المتزاحمة، وفقدان اللغة الام التي تعبّر عنه دون حاجة إلى ترجمة. كل شيء صار مختلطًا: النهار بالليل، الزوج بالحاضن، العاشق بالمُجهد. حتى صوته الداخلي لم يعد يُسمع وسط ضجيج الواجبات.
إليزا، التي أحب فيها قوتها ووضوحها، بدأت تبدو له أشبه بمديرة مشروع أسري، تدير اليوم برتابة، لكنها تفقد شيئًا من العذوبة التي ألفها فيها. أو لعلّ روحه هو من صارت متعطشةً لما هو أكثر من الرتابة؛ لصوتٍ يشبه نغم طفولته، لنظرة تُشعره أنه ما زال يستحق الحب دون جدول مهام.
كان الحنين ينقر على قلبه كالمطر على زجاج نافذة قديمة: اشتياقٌ لأمه، لندائها الناعم، لدفء البيت البغدادي، وللرجولة الشرقية التي كانت تُحاط بالتبجيل لا بالتكليف. اشتاق للغته، لألفاظ لا تُفسَّر، ولوجوهٍ تفهمه من نظرة لا من قاموس.
ولعلّ أكثر ما كان يؤلمه هو تغيّر العلاقة الحميمة بينه وبين إليزا. لم تعد تهمس، لم تعد تتوق، كما لم يعد هو يبادر. صار جسده آلة تؤدي دورها، لا وقت للشوق، لا مكان للرغبة.
وحين تسلل إلى نفسه سؤال موجع في عزّ الليل وهو يهدئ أحد التوأمين: هل هذه ضريبة الحب؟ أم أنه مجرد انسحاق تحت عجلة الحياة الحديثة؟
ورغم كل شيء، حين تجلس ليلي في حضنه، وتلف ذراعيها الصغيرتين حول رقبته، وتهمس ببراءة:"بابا..."، يشعر بأن هذا التعب، رغم قسوته، ليس هزيمة، بل شكلٌ جديد من أشكال الحبّ... حبٌّ يصنعه التعب، ويحرسه الصبر، ويبرّره وجود من يُشبهه في عينيه.
ظلّ أسام، رغم انغماسه في تفاصيل العائلة ومتاهات العمل، يبحث عن نسمة صداقة ينتشل بها نفسه من هذا الغرق الهادئ. طرق أبوابًا كثيرة، وجالس وجوهًا مختلفة، لكنّه لم يجد في تلك العلاقات ما يستحق الرهان. كانت النفوس من حوله شاحبة، مترددة، أو عابرة كأرصفة لا تحفظ المارّين.
وكان له صديقٌ قديم، رافقه في محطات غريبة من العمر، تعرف إليه في اليمن قبل سنواتٍ طويلة، يوم كان الزمن أقل وطأة، وكان الحنين أخف وقعًا. كان يناديه مازحًا بـ"الأب الروحي"، لكنه في قرارة نفسه كان يرى فيه أكثر من ذلك: صوته البعيد الذي يهدأ إليه قلبه، ومرآته التي لا تجامله. كان حين يثقل صدره بالضيق، يرفع الهاتف ويجري ذلك الاتصال المنتظر، كمن يبحث عن ملاذ، أو لحظة دفء تُرمم تصدعات روحه. وكان ذاك الصديق يُنصت بصبر، يمتص الألم كإسفنجة حانية، ثم يحاول أن يسحب أسام برفق نحو الضوء، نحو ما هو أصلح له ولمن يحبهم.
ومع تعاقب السنوات، لم تتوقف دوّامة التحديات، بل تغيّر شكلها. كبر الأولاد، ولم تعد مشاكلهم تُحل بحفاضة نظيفة أو قصة قبل النوم. صارت الهواجس أوسع، والمخاوف أعمق، وحالة الطوارئ العاطفية في بيته لا تنتهي. دخلت ليلي سن المراهقة، وتحوّلت من تلك الطفلة الراقصة على الجليد إلى شابة تبحث عن ذاتها وسط صخب المشاعر واكتشاف العالم. أما نوح وآدم، فانشغلا بكرة القدم، وسعى أسام جاهدًا لتأمين الطريق أمامهم ليصنعوا لأنفسهم مستقبلًا مختلفًا.
كان قلبه ممتلئًا بالحب، لكن خوفه الشرقي، حذره الفطري، غيرته الصامتة، جعلته أكثر صرامة مع ابنته. كان يراها تتزين، تتألق، تخرج مع صديقاتها وتغيب عن عينه، فيتملّكه قلقٌ يتجاوز المنطق. يبدأ بنصيحة، ثم يتحول الكلام إلى ملاحظة، والملاحظة إلى توتر، حتى أصبح بينه وبينها جدار من النفور الصامت. هي لم تعد تطيق ملاحظاته، وهو لا يحتمل عنادها.
كان يشعر بذلك الصدع يتسع، لا بينها وبينه فقط، بل بينه وبين إليزا كذلك. رأى في عيني زوجته نظرة استفهام، وربما لومًا مكتومًا. لكنها، كعادتها، آثرت ألا تُضيف وقودًا على النار.
وفي إحدى مكالماته المعتادة مع صديقه، قال له بأسى:
– أنا لا أريد أن أخسر عائلتي.
جاءه الردّ هادئًا، حاسمًا:
– طبعًا لا تريد. لكن هل نسيت ما حدث قبل ثلاث سنوات؟ حين أبلغت إدارة المدرسة الشرطة ببلاغ عن احتمال تعنيف، فقط لأن أحد أبنائك عبّر عن خوفه منك بطريقة عفوية؟
– نعم، أتذكّر تمامًا.
– ولولا شهادة أولادك بأنك أب محبّ، لكنت خسرتهم جميعًا... إذن، أرجوك، حاول أن تضبط انفعالك. أحبهم واحترمهم. لا تجعل حبك يتحول إلى عبء، ولا حرصك إلى قيد.
– أنا لا أضيق بشقاوة الأولاد، بل أفرح بهم، وأضحك معهم، لكن... ليلي، عنيدة جدا. تريد كل شيء بطريقتها. تدفعني إلى الغضب دون أن تدري.
صمت الصديق لحظة، ثم قال بصوتٍ يملؤه الحنان:
– لا تنسَ أنها كانت مدللتك الأولى، ثم انشغلت بالتوأم عنها. قد تشعر بأنك تُفضل إخوتها عليها. وربما ترى أنك تتعامل معهم كرجال، وهي لا تزال تحت نظرتك، طفلة أنثى يجب أن تُضبط.
– لكن والدتها قريبة منها، صديقتها وأمانها.
– وأنت أيضًا، يجب أن تكون لها سندًا لا رقيبًا. لا تجعلها تخشى حضورك. يا أسام... انتبه قبل أن يأتي اليوم الذي تشتاق فيه إلى حضن ابنتك فلا تجد إلا ظهرًا مُعرضًا.
أغلق أسام الهاتف تلك الليلة، وقلبه يئنّ. لم يكن يحتاج إلى من يعنّفه، بل إلى من يذكّره بحقائق القلب. كان يعرف في قرارة نفسه أنه لا يُسيء، لكنه أدرك أن الحب، حين لا يُصاغ بلغة أبنائه، يُصبح وجعًا يُفسَّر ضدّ صاحبه.
ثم جاء ذلك الصباح... الصباح الذي ظلَّ أسام طويلاً يحاول الفرار من مجرد تخيله، كأن قلبه كان يعرف أن الألم لا يطرق الأبواب بلا موعد، بل يتسلل حين تظن أن كل شيء تحت السيطرة.
كان الفجر رماديًا، السماء مُلبدة بغيم ثقيل يشبه مزاجه في الأيام الأخيرة. استيقظ على صوت زوجته، مرتعشًا ومضطربًا، تناديه بقلق مكتوم: "أسام، ليلي في الحمّام... لا تردّ عليّ، والباب مغلق من الداخل!"
قفز كمن خرج لتوه من كابوس، تهاوى نحو الباب الصامت، طرقه بقوة، ناداها، توسّل، لكن لا جواب. لم ينتظر أكثر. بكفٍ مرتجفة وقلبٍ يشتعل، اقتلع الباب من مفصلاته كما تُقتلع الحقيقة من الإنكار. وهناك... على بلاط الحمّام البارد، كانت ليلي، طفلته التي كانت ترقص يومًا على الجليد، ممددة كغيمة منكفئة، ساكنة، ساكنة جدًا... والدم ينزف من معصمها النحيل كقصيدة نزفت معناها.
صرخ الأولاد، شهق الهواء، تجمّدت اللحظة في ذاكرته كصورة لن تغيب. ربطت إليزا معصمها بما وقعت عليه يدها، وحملها أسام بذراعين كادتا تنهاران من ثقل الذنب لا من ثقل الجسد. ركض بها إلى المستشفى كمن يركض لإنقاذ روحه، لا ابنته. بقيت ليلي في المستشفى أيامًا، بين فحوصات دقيقة ورقابة صارمة، وبين والدين مشوشين تتناوشهما الأسئلة والتأنيب والخوف.
ثم جاء التحقيق... تحقيق لا يرحم، أسئلة الشرطة كانت كأنها تقلب مواجع البيت علنًا، تسأل الأب عن قسوته، عن صراخه، عن ضغوطه، تسأل الأم عن غياب الحوار، وعن إشارات لم تُفهم، وصمتٍ كان يجب أن يُقرأ.
بكى أسام... بكى كما لم يفعل من قبل. بكى في أروقة المستشفى، في السيارة، في الحمام، أمام صديقه على الهاتف، وأمام نفسه في الليل. لم تكن دموعه مجرد ندم، بل كانت كأنها تطفئ حريقًا في داخله ظلّ مشتعلاً بصمت.
جلس ذات ليلة بجانب سريرها، بعد أن استعادت وعيها، لم يجرؤ على سؤالها: لماذا؟ لأنه كان يعرف الجواب، يعرفه منذ سنوات، لكنه تجاهله، أغرقه بالصراخ والنُصح والمواعظ، وغطّاه بخوفه من فقدها حتى كاد أن يفقدها فعلاً.
كان يدرك الآن، بعد أن اقترب من حافة المأساة، أن الحب لا يُقاس بكمّ ما نمنعه عن أبنائنا، بل بكمّ ما نمنحهم من مساحة ليروا أنفسهم من خلاله. أدرك أن اللغة التي تحدّث بها مع ليلي، وإن كانت بدافع الحب، لم تكن لغتها. كانت تراه سجّانًا يُلبسها قميص الغيرة باسم الحنان، وحارسًا يقيّدها باسم الحماية.
في تلك الليلة، كتب في دفتره:
"لم أكن أريد أن أخسر عائلتي، فكدت أن أخسرها فعلاً. بين ثقافتي الأم التي تعلّمت فيها أن الأب سلطان لا يُناقش، وثقافة هذا العالم الجديد الذي يعلّم أبناءنا أن الحب لا يُفرض.. ضعتُ... ضاعت لغتي، وضاع صوتي، وكنت على وشك أن أفقد كل شيء."
ثم كتب:
"لكنني الآن، سأبدأ من جديد. ليس من الماضي، بل من هنا... من يدٍ صغيرة ستتعافى، ومن قلبٍ سيغفر، ومن درسٍ لن أنساه ما حييت: أن تكون أبًا لا يعني أن تُحكم السيطرة، بل أن تمنح الأمان. أن تكون رجل العائلة لا يعني أن تُطاع، بل أن تُفهم، وأن تَفهم."
وها هو الآن، بعد أن رأى الموت يمر بقربه على هيئة دم يسيل من معصم ابنته، عاد إلى الحياة بشيءٍ من الحكمة... عاد إلى نفسه، لا كـ "أسام" المهندس فقط، بل كأبٍ يُجيد أخيرًا أن يصغي، لا ليُصحّح، بل ليحب.
***
سعاد الراعي
2025.07.16