نصوص أدبية
سعاد الراعي: سهام الفتى عادل السليطة

اهداء الى روح المربي الأستاذ عادل سعيد
كان الفتى عادل، ذو الاثني عشر ربيعًا، كتلة من الذكاء المفعم بالشقاوة والمغامرة، طفلًا يحمل في قلبه جذوة التحدي وفي عقله نور الابتكار. كان عالمه أشبه بساحة تنافس لا يهدأ، يمارس فيها ألعابًا يبتكرها بنفسه أو يعدّلها بما يتناسب مع شغفه العارم وإرادته التي لا تعرف الكلل. كان يبحث دومًا عن العقبات، ليكون هو العقدة وهو المفتاح وهو الحل، كل ذلك ليخطف الأنظار نحوه، سواء بين أفراد عائلته وأشقائه الخمسة الذي كان هو أكبرهم، أو في أروقة المدرسة وبين زملائه الصغار.
كان والده يعامله بحظوة خاصة، يغمره بعناية تمتزج بحب غير مشروط، وقد أورثه من صفاته الكثير؛ فكان عادل واثقًا بنفسه حدّ الثبات، جريئًا في فرض شخصيته وسط أقرانه، ذا نظرة ثاقبة تحمل تحديًا جليًا، تلمع من خلف سواد عينيه الحادتين اللتان تشبهان ليل الجنوب الهادئ. أما ملامحه السمراء، فكانت تزداد جاذبية حين يولي هندامه ونظافته اهتمامًا خاصًا، متأثرًا بشغف والده الذي حرص على أناقته بقدر حرصه على تربيته.
أما مغامراته، فكانت تحيا في كل زاوية من زوايا قريته الصغيرة. يتفق ويخطط مع أخيه الأصغر على صنع الألعاب بحنكة العارفين. كانوا يجمعون بقايا النفايات وأعواد السعف والحصى، فينحتون منها طائرات ورقية وأقواسًا وأسهمًا ومصائد ومقاليع وسنارات صيد، وكأنهم يحولون اللاشيء إلى كنز ملموس. لم تكن ألعابهم مجرد لهوٍ عابر، بل كانت مصدرًا إضافيًا يضمن لهم بعض المال القليل الذي يتقاسمانه بفرح كبير، كأنهما اكتشفا سر الحياة.
كانت الرماية والتهديف شغفه الأعمق، يطلق سهامه نحو الأهداف الثابتة والمتحركة وكأنه يرمي ذاته نحو التحدي ويقيس قدرته في إصابة المستحيل. ببراعة لا تعرف الخطأ، كان سهمه نادرًا ما يخطئ الطرائد من عصافير وطيور، وكأن يديه تتحدثان بلغة تتماهى مع الريح. كل شيء أمامه كان هدفًا مستحقًا لسهامه، يسكنه هوس التميز والتفوق، ويمتلئ قلبه بنشوة الانتصار حين تصفق له عيون اقرانه بدهشة وافتتان.
حين يعود إلى البيت بعد الظهيرة، كان يحمل غنائمه بكل فخر، فيشعل نارًا صغيرة من أغصان جمعها في طريق العودة، ليشوي صيده على وهجها الدافئ. أما البستان القريب من بيتهم، فقد كان مملكته الخاصة، حيث يثبت أهدافه على الأرض أو على جذوع النخيل المتراصة كشواهد على مهاراته. وكان إذا صادف سربًا من العصافير وهي تحلق في السماء، شعر بأن قلبه يحلّق معها، وأن كل سهم يطلقه ليس إلا إثباتًا جديدًا لتفوقه وتحديه، وتصديقًا على سحر الطفولة الذي يسري في عروقه كالنهر الجاري.
كان الرهان هذه المرة جريئًا ومتهورًا، بل ربما كان التحدي الأعظم الذي أقدم عليه عادل دون تردد. فقد وقعت عيناه على تلك البقرة الوادعة، بقرة البستاني، التي كانت ترعى في البستان وقت الظهيرة، تتهادى بخطوات وادعة مطمئنة لا تعرف الخوف.
جلس عادل القرفصاء، وقلبه يخفق بشدة تشبه إيقاع الحرب، لكن بعينيه كان ثبات المقاتل الذي لا يخشى شيئًا. شدَّ القوس بحذر وتوترت أوتاره كأنها تختزن كل رغبة في النصر، ثم أطلق سهمه بعزيمة جامحة. انطلق السهم كطائر جائع يبحث عن فريسته، فاستقر في فخذ البقرة بعمق.
قفزت البقرة المسكينة وقد مزقها الألم، فاندفعت تخور بصوت عالٍ وهي تركض بجنون في أنحاء البستان. كان المشهد كابوسًا يتفجر أمام عيني عادل، وهو يركض خلفها بكل ما أوتي من قوة. لم يكن يريد إنقاذها، بل كان يسعى لنزع السهم من فخذها، ذلك السهم الذي تحول إلى دليل إدانة لا يرحم.
لكنّ الأمر كان قد فات. فالبقرة دخلت بيت البستاني وسهم عادل ما زال مغروزًا في فخذها، والدماء تسيل منه شاهدة على جريمته الطفولية.
أطبق الهلع على صدره، وأدرك أن العقوبة هذه المرة ستكون قاسية بلا شك. لم يكن أمامه سوى الهروب. مضى إلى بيته بخطوات متعثرة، وجهه شاحب كالقمر في ليلة عاصفة، وهيئته مبعثرة كأنها فريسة نجت لتوها من كمين مفزع.
دخل البيت وهو يترنح تحت ثقل أفكاره، واندفع إلى زاوية بعيدة في غرفة جدته. جلس متظاهرًا بالانشغال بدروسه وواجباته، كأنما يحتمي بها من المصير الذي ينتظره. كانت يداه ترتجفان رغم محاولاته البائسة في رسم الهدوء على ملامحه.
استغرب الجميع من سكونه الغريب وانهماكه المفاجئ في مراجعة دروسه، ذلك الصبي الذي لم يكن يعرف عن الهدوء سوى اسمه. لكن لم يمهله القدر طويلًا، فسرعان ما قطع ذلك الهدوء طرقٌ سريعٌ وعالٍ على باب البيت، كسوط يُجلد به ظهره الضعيف.
ارتعش جسده بالكامل، وتجمّدت عيناه على حقيبته كأنها ملاذه الوحيد. وعلت صيحات البستاني الغاضب، تتخللها كلمات مليئة بالاتهام والوعيد وهو يتحدث إلى والدته التي فتحت له الباب بتردد. أخبرته والدته بأن والده لا يزال في العمل، وأنها ستنقل إليه ما حدث عند عودته.
هنا، شعر عادل بأن الزمن قد توقف. لم يعد يسمع شيئًا سوى دقات قلبه المتسارعة، ورعبه الذي صار له ثقل يكاد يقتله.
سألته والدته بصوت يملأه القلق والغضب المكتوم، كأنها تحاول استباق كارثة قد حلت
ــ ماذا فعلت هذه المرة؟ وبدون مراوغة، أخبرني الحقيقة.
كان جسد عادل ما زال يرتجف تحت وطأة الخوف، لكنه جمع شتات شجاعته المتناثرة وردَّ بصوت متقطّع، كمن يحاول الإمساك بخيط من أمل واهن
ــ لم أتعمد التصويب نحو البقرة، كنت فقط أحاول اصطياد عصفورٍ، لكنها مرت في نفس اللحظة، فأصابها السهم دون قصد.
في تلك اللحظة، تجمع إخوته وأبناء خالته حوله كحلقة دفاعية، كدرع بشري يريد حماية قائدهم الصغير. هزّوا رؤوسهم مؤكدين كل كلمة نطق بها عادل، وكأنهم كانوا شهودًا حاضرين أو شركاء في الجريمة البريئة.
أما الجدة موزة، أو كما يناديها الجميع "أمنا الكبيرة"، فقد كانت تتابع المشهد بعينيها الحانيتين وابتسامتها التي تروي حكايات عمر طويل. كانت منهمكة في جمع أطراف ضفيرتيها الحمراوين بعقدة محكمة أعلى رأسها، وكأنها تزيّن تاج حكمتها الأزلية.
تقدمت نحو عادل بخطوات واثقة، ولوّحت بيدها بتحذير لطيف يحمل في طياته الحب والخوف عليه معًا. قالت بصوت يفيض بالحكمة
ــ لا تكررها يا بني. المرح والشقاوة لهما حدودهما، ويجب ألّا يكونا على حساب الآخرين.
أطرق عادل رأسه خجلاً، وكأنه أدرك أن الجدة موزة تستطيع أن تقرأ كذبه حتى وإن تزينت كلماته بالبراءة. وعدها ألا يعيد فعلته، ورجا حمايتها، فهي دائمًا كانت ملاذهم الآمن من قسوة والده.
كانت الجدة موزة هي الأم الحقيقية لهم جميعًا. تطعمهم بيديها ما يحبون، وتضمهم ليلاً على سريرها الحديدي الواسع، ذلك السرير الذي كان بمثابة سفينة نوح تحتضنهم من كل مخاوفهم وفزعهم. كانت تروي لهم أجمل قصصها، وحكاياتها التي تمزج بين الأسطورة والواقع، وهم يتسابقون لمشاركتها أسرار شقاوتهم وضحكاتهم البريئة.
عاد الوالد من عمله، وعيناه تحملان تعب النهار وثقل المسؤوليات. وبعد أن تناولوا الغداء، أخبرته الوالدة بما جرى، وبأن عليه معالجة الأمر مع البستاني الغاضب.
عبس وجهه، واكتسى غضبًا كريح عاصفة. نزع نطاقه وسحبه بقوة، طاويًا نهايته بقبضته اليمنى كمن يستعد لإنزال عقوبة لا مفر منها. زمجر بصوته الغاضب مناديًا: عادل!
كان عادل حينها يرتجف تحت لحاف الجدة، يستشعر برودة الخوف تمتزج بحرارة الندم. لكن قبل أن تصل يد والده إليه، هبّت الجدة موزة واقفة أمامه، شامخة كجبل يحتضن صغاره.
قالت بصوت حازم وثابت
ــ إيّاك أن تلمسه! فهو لم يتعمد فعلته. اذهب إلى البستاني واعتذر منه بنفسك، وكن مستعدًا لتقديم أي تعويض يطلبه مقابل الأضرار مهما كانت قسوتها أو حجمها. دع الأمور تنتهي بسلام وبالتراضي. أما عادل، فأنا كفيلة به هذه المرة.
كانت كلماتها كتعويذة سحرية بددت عواصف الغضب في قلب الأب، وزرعت في المكان سكينة أشبه بظل شجرة وارفة في يوم قائظ. وما كان من الأب إلا أن ينصاع لحكمة الجدة، فهو يعرف جيدًا أنها لا تقول ما تقول إلا بميزان العقل ورقة القلب.
***
سعاد الراعي