نصوص أدبية
ناجي ظاهر: الابنة المختلطة
قبل أن أصل إلى حيث توقّفت متلكئة، رأيتها وهي تمُدّ يدها إلى كلّ مَن يمرّ من جانبها.. سواء كان كبيرًا أو صغيرًا.. امرأة أو رجلًا. كانت تُمدّ يدها إليهم بصمت يُشبه صمت القبور، كأنما هي تقول لهم وترجوهم أن يعطفوا عليها وعلى ثيابها الرثّة المتسخة المشردة. كانت تلك واحدة من المرّات القليلة النادرة، التي رأيتها فيها.. أما سبب اهتمامي بها فقد قام على غليان داخلي.. ارتفع لهيبُه حتى كاد يحرق قلبي. عندما وصلت إلى حيث توقّفت، افتعلت حركة ابنة تودّ أن تطلب مِن أبيها معونة.. مهما كانت قليلة قد تساعدها في التغلّب على مرارة الحياة.. معونة حتى لو بنزر يسير مما توقّعت أنني خبأته في جيبي. وما واريته في قلبي من مشاعر الابوة، وتبدّى لي أنها نظرت إلي بكلّ ما لديها من مشاعر البنوة. توقّف كلّ منّا يحدّق في الآخر ولا يدري ماذا بإمكانه أن يفعل. شعور عميق جعل كلًا منّا يتحرّك في مكانه.. لأجدها لاحقًا.. تبتعد عن حيث توقفت.. ولأبتعد بدوري عن حيث أدارت كبوتها المهترئ الرثّ.. ومضت..
تمعّنت في إيلائها ظهرها المحدودب ألمًا وحزنًا فهالني أنني رأيت فيها ظهر ابنتي. ابنتي لا تكبرها كثيرًا فكلّ من الاثنتين في الأربعين أو تجاوزتها قليلًا، وابنتي أيضًا بحاجة إلى المساعدة، مثلما تحتاج هذه المسكينة ابنة الشارع المشرّدة الوحيدة. أرسلت نظري إلى البعيد.. البعيد.. حيث تبدّى لي أنها تبتعد رويدًا رويدًا.. وبقيت أرقبها وأنا في حَيرة من أمري، إلى أن اختفت وراء الزاوية الأخيرة في الشارع الطويل. شعور قاتل انتابني وهمس في أذني.. اذهب إليها.. لماذا لم تعطها شيئًا مما منحك إياه الله. تحفّزت لأن اجري حيث توارت مبتعدة، غير أن شعورًا لاهبًا حارقًا قال لي.. لا تركض وراءها فقد ابتلعها الشارع المسكين.. ولن تراها مجددًا..
انطلقت في الطريق ذاته.. لا الوي على شيء وتصوّرت تلك الغريبة المسكينة تلحّ عليّ.. انها تشبه ابنتي حدّ التطابق، باستثناء أمر واحد هو رثاثة ثياب هذه وهندمة ثياب تلك. أما في الجوهر فقد كاد الامر يلتبس عليّ فلا أميّز بين الصورتين اللتين امتدتا على المساحة الاوسع من تفكيري. كان ما شعرت به في البداية ثقيلًا مختلًطًا بشيء مِن الرتابة والبطء، غير أنني اكتشفت فيما حلّ مِن وقت أنني ابتدأت أخفّ حتى صرت بخفة الريشة في عاصفة مفاجئة.. هوجاء وقاصفة. هذا الشعور دفعني لأن انطلق في الشارع ذاته حيث انطلقت مسكينتي الجديدة. عندما أيقنت أنني في النهاية سأصل إلى بيت ابنتي، قرينة تلك المسكينة، انتابني شعور أنني أكاد أتوقّف عن السير و.. أطير.
أغمضت عينيّ وفتحتهما لأرى إلى المشهد الماثل قُبالة عينيّ. قرب بيتها كانت ابنتي بعينيها التائهتين، تتمعّن في الفضاء الرحب، لم تكن لتراني، وحدست نفسي ترى بماذا تفكّر ابنتي؟ .. أنت تعرف بماذا أفكّر يا أبي. قال مشهدها الوحيد المسكين. نعم .. نعم يا ابنتي.. نعم أعرف.. أعرف. وغام العالم في عيني. عدت إلى أيام خلت كانت فيه هذه الصبية، الام الوحيدة المطلّقة حاليًا، كانت طفلة صغيرة. تحبو في حاكورة بيتنا، خاصة عندما أعود إلى بيتنا بعد يوم عمل شاق، كانت تحبو.. وتحبو باتجاهي.. كأنما هي تريد أن ترحّب بي وبعودتي الغالية إلى حيث هي. وكنت أرى في عينيها الكثير مِن المحبّة والوفير من الامل. كنت أفتح عينيّ على وسعهما كأنما أنا أريد أن أحتضنها بهما وأغطيها بجفنيّ. كنت أرفعها بين يديّ.. احتضنها بكلّ ما في قلبي من مودّة ومحبّة، وكانت هي تحتضنني وتبادلني المشاعر ناسية أنها ما زالت في بداية تفتحها على الحياة وغارسة في قلبي كلّ ما في طفولتها من أمل.. وأمل. الفيلم ابتدأ في التفتح. أعرف أنك عانيت يا حبّة عيني. أعرف.. أعرف. إذا كنت تعرف لماذا تركتني يا أبي.. لماذا تركتني أعاني في عالم لا رحمة في قلبه ولا حنان. لم تكن هناك أي فائدة مما قالت عيناها، ومما قالته في المقابل عيناي. كان كلّ منّا يعرف عن الآخر كلّ شيء.. هي كانت تعرف أنني اردتها أن تعتمد على ذاتها وأن تواجه الحياة بإرادتها الخاصة. وهي كانت تستمع إليّ.. خاصة عندما نصحتها بألا ترتبط بذاك المأفون الذي يكبرها بسنوات.. ويمثّل دور الثري الغني. قلت لها حينها إنه كما فهمت من أصدقاء مشتركين على حافة إفلاس. وإنك إذا ما ارتبطت به سوف تحكمين على ذاتك بالفقر ما تبقىّ لك من أيام وليالٍ في هذه الحياة. فردّت عليّ.. لكنه يصرف بقوة وكرم. جيوبه دائمة الامتلاء.. وعيناه مليئتان بالمحبّة. ماذا أريد أكثر يا أبي؟.. خطر في بالي حينها خاطر طالما راودني ولمسته لدى آخرين مشابهين في الموقف والتطلّع، فمن أدراني أنه إنّما يصرف في البداية.. ويبخل في النهاية. فقد علمت أنه إنّما يقف على حافة منحدر الإفلاس. قلت حينها لابنتي. فأصرّت. على الارتباط به مدفوعة بإعجاب آخرين وأخريات من فقراء العائلة به وبكرمه. يومها اضطررت لأن أكتب اتفاقية فيما بيني وبين ابنتي تلك. مفادها أنني لست متحمّسًا لارتباطها بذلك الرجل. وانني مع هذا لن أتخلّى عنها. كنت أعرف كلّ ما يُمكن أن يحصل بل كنت أعلم علم الحاضر الجاري وليس علم الغيب الناري. بعد كتابتي تلك الاتفاقية وقّع عليها كلّ منّا. ابنتي وأنا، وعندما وَقعت الواقعة ونزلت الفأس القاتلة على الراس.. راس ابنتي الطرية. هرب ذلك الكريم المعطاء مولّيًا ظهره للجميع واختفى في ثنايا الشوارع وزواياها المتعرّجة. منذ ذلك اليوم لم نسمع عنه شيئًا.
تحرّكت في مكاني أريد أن الفت نظر ابنتي.. غير أنها بقيت غارقة في شرودها.. تصوّرت نفسي منطلقًا في شارع بلدتي الطويل، فعدت أجري في الشارع ذاته.. علّي أدرك تلك المسكينة طالبة العطاء.. جريت وجريت.. وكنت كلّما جريت.. ظهرت لي صورة ابنتي أوضح فأوضح.. كنت أركض وراء الاثنتين.. وأتخيّل أنني إنما أركض وراء العشرات من المنكوبات المختلطات.. ما ألطف البنات.. ما أقسى الحياة.
***
قصة: ناجي ظاهر