نصوص أدبية

ذكرى لعيبي: رسائل قيد الإرسال

مثل كاتبة تكتبُ نصًا جميلًا من الغزلِ لرجلٍ واحد، يقرأه الجميع ما عداه؛ هكذا بدت رسائلي إليك...

لم أستطع أن أتخلص من عادة انتظار بريدك الصباحي...ولم أستطع أن أقنع قلبي أننا انتهينا...ولم أتقبّل فكرة أن يومي لم يعد ممتلئًا بأحاديثنا...

موجوعة حد النخاع؛ لغيابك، وأفُول نجمك عن حياتي، وجع استشعره كهاجس يواكب كل زفير وشهيق لروحي التواقة لك، كشوق طائر مهاجر لعشه الأول...

***

بعد هجرك وغيابك؛ قررتُ أن استمر في كتابة رسائلي إليك، رغبة لا تشبه الحلم، محاولة لمواصلة الوصل مع طيفك، طيفك الذي يحومُ حول ذاكرتي، قد أجد جوابًا يأخذ بقلبي بعد حين إلى مسرب نور يخرجني من نهاية الشوق العميق؛

لماذا مزّقت ما بيننا من عهود؟

تركتني أركض لأتسلّق قلقي وسط عاصفة الأفكار، ارتكز من جديد إلى عزلتي، أعود لها مثل ترس من ورق! وأواجه يقظة نهاري الأخير، مخدّرة مثل عصر أدركته النهاية.. فتجلّد؛

تركتني أشعر بالظمأ إلى ذلك الحنان الصافي الذي كنت أراه في عمق عينيك، إلى أبوّة فيك تعادل العشق، هل كان زيفًا؟

كيف استطعت أن توهمني بأنك أمني وأماني؟

لأجد نفسي تالياً سفينة راسية على شاطئ من وهم! في أيّ اتجاه أبحرت سفينة الكلم الحلو؟

تركتني ظمأى لتلك اللثغة الموشّاة المحببّة، حين تتسرّب من بين شفتيك وتختبئ بين أحضان سمعي، وأنت تنطق اسمي.

عاشقة أنا أضناني الشغف.

***

لم أعد ألتقط موسيقى السموّ؛ كنتُ اسمعها في صوتك حين تهاتفني، فترنّ تراتيل الشوق مثل أجراس الكنائس في الأعياد.

وكنتُ آمنتُ أن كلامك تعويذة خلاصي من التيه والفراغ والوحشة.

انتظرتك طويلاً.

نتيجة الانتظار الطويل، موت الرغبة وفتور الشغف بما كنت تنتظره؛ هكذا يقولون؛

لكنهم مخطئون... إذ كلما يمرّ يوم وأنا انتظر مجيئك المرتقب الذي أحجمتَ عنه! تزداد رغبتي في عناقك لوقتٍ أطول مما أتخيله.

هل أنا معذورة، لكوني بحاجة إلى دفئك؟

***

سأَلتني عنكَ صديقتنا " كرمة الشام"، قلتُ لها بأنكَ ما زلتَ تائها في الكون، تبحث عن مجرّة تتسع لحبّنا، لم تقتنعْ، خاصة بعد أن لاحظت السواد تحت عيني:

ـ  يشاغلكِ بالأمل، ويعلنُ فراقًا مشوشّا جديدًا! واضح جدًا هذا السواد من الحزن والبكاء.

ـ لا.. أنه من السهر والجفاء.

قالت لي:

لا تفرضي نفسك... مشاعرك.. وجودك...على حياة شخص لا يعتبرك عنصرًا مهمًا في حياته.

فغمرتني كآبة دفعتْ شحيح الأمل إلى خلف حائط عالٍ من الألم.

***

كلانا غريبان؛ وكلانا نحتاج أن نتدفأ ببعضنا من برد المنافي وغدرها؛

الحب الكبير والحقيقي؛ هو الحب الذي لا تترجمه جميع مفردات اللغة؛ مثلُ حبّي لكَ، هذه الرسالة العاشرة كتبتها خلال هذا الأسبوع.

اليوم وأنا أجلس في المقهى التركي، هل تذكره؟

المقهى الذي اتفقنا أن نلتقي عنده منذ عام!

لمحني مصادفة رفيقك " سراب"، جلس كالعادة من دون أن يستأذن، لم يسألني عنك! لاحظ انشغالي بالكتابة، كنتُ أكتب إليك...

سألني بعد أن طلب فنجانًا من القهوة:

ـ هل ما زلتِ تنشدين ذلك الفرح الأخضر العميق؟

أجبتهُ:

ـ وأنشدُ سنابل الكلام التي تطعمني الشوق كذلك.

ـ لكن صوتكِ يوحي غير هذا، كأنه بعثرَ في حنجرتكِ حرشًا من الأشواك والعاقول!

لم أكن أريد أن أدخل معه في سجال عنيد، كانت مواجع فراقك تثقل رأسي، حتى شعرتُ كأنه يتدلى أمامي ويكبر.

رفيقك حدّثني عن حبيبته وهو يضحك، يقول:

عندما التقيتها في إحدى المكتبات العامّة، كانت تبحث عن كتاب "التأملات" لماركوس، أعجبتُ بها، فالمرأة التي تقرأ كتب الفلسفة، لا تعترف بالهشاشة، وتعشق بصدق، وتحرص على عقلها من الصعاليك مثلي، غير أني لم أعرف كيف أعشقها، كل ما أتذكره في آخر لقاء بيننا حينما باغتتني بسؤالها الغريب:

ـ غيمة الله أم غيمة هارون؟

قلتُ لها: غيمة هارون.

قالت:

لكن أنا غيمة الله؛ والأرض التي اتنزل عليها... سيكون خراجها لصاحبها، أما أنت فابقى انتظر غيمة هارون، وأمسك بها إن مرّت من فوق رأسك... لو استطعت!

ثم تركتني ومضت بعيدًا.

وبدأ يقهقه عالياً، حتى نَسيَ ظله فوق الطاولة وذهب هو الآخر بعيدًا.

رفيقك " سراب " يشبهك.

***

كنتُ صادقة جدًا في مشاعري معكَ، أفرغتها كُلها في حضرة عينيك، ولم أدّخر شيئًا لمثل هذا اليوم، لم أتخيل أننا سنفترق بعد اللقاء الثاني! بعد أن منحتك نهر ريحاني، وشهد أنفاسي.

لم أتخيّل أبدًا أنكَ لا تختلف عن الباقين، ولم يخطر في بالي أبدًا هذا الغياب الطويل.

خيرًا فعلت؛

فقد علّمتني أن لا أمنح الحب لأي مذّكر يطرق باب عواطفي، ولن أثق بمن يبيع مدارات الكلام بين الخسوف والكسوف.

أشعرُ بالخيبة والهزيمة هذه اللحظة، وحان الوقت لتعرف أنَّ مشاعري اتجاهك غادرتْ، والمشاعر الجميلة إذ تغادر لا تعود أبدًا.

أعطيتك أكثر من فرصة، سامحتك أكثر من مرّة، لذا لا تنتظر العودة بعد رحيلي.

الآن اقتنعت أنكَ غير معتاد على اقتناء الأشياء النفيسة، وأيضًا غير معتاد على إتمام المواسم.

***

بين الوهم والتذكّر تستدير الفكرة، أتساءل:

كيفَ تصحّر قلبك؟

كم غبتَ؟

وقت طويل... أطول من الرغبات البريئة، تلك التي تسعى لتمسك بظلال الروح؛

أطول من البدايات التي تفتحُ أفواهًا في المجهول، وأطول من النهايات التي تتحول إلى أفق من سديم.

ماذا تظن لو جئت الآن؟ بعد هذا الغياب؛ لتسأل بكل برود عن حالي، كما تفعل بعد كل انقطاع.

هل أخبرك أني اشتقت لك حد البكاء المرير؟

أم أخبرك كم انتظرت اتصالك، أو رسالة منك ؟

أم أخبرك كم مرّة قلبّتُ صورك ورسائلك القديمة؟

كم مرّة أحدّثها؟

كم مرّة أقبّلها؟

انشطر، أتوالد، أصير مجموعة أسئلة، وأتيه بين شكّ أسود يشلّ العقل، ويقين أبيض يغمر العين والقلب، وبين الحال وتقلّب الأحوال، وجدتك غير مبالٍ، فجمعتُ تفاصيلنا...

كل التفاصيل... كلّ الذكريات والوعود والأمنيات، وركنتها خلف زاوية القلب، داهمها الاصفرار والشحوب، وحكايتنا تفتّت وأصبحت ظلال ذكرى.

لم يبقَ من قوّة يقيني بكَ سوى وهم... الوهم الذي علّمني أن النهايات صِنو حقيقتنا.

***

اقتربتْ ذكرى يوم عيد ميلادك.

كنتُ أفكرّ أن أكتب لك قصيدة، أو أقتبس بيتًا من شعر الغزل لشاعرٍ أو شاعرة، بيد أني شعرت بسذاجة تفكيري.

لابد أن أصنع لك شيئًا فيه ضوء نجمة مثلاً، أو دفء نبضة، أو وهج قُبلة؛

كأن أنسجُ شالًا يقيك برد المسافات وأوقات الغياب، أو أصنعُ سلّة من خوص القلب، لتجمع فيها قُبلاتنا، تلك التي أزهرت... على جانبّي موائد المواعيد المؤجلّة، أو لوحة بسبعة عيون وشتات هذا المنفى، لتعلّقها على جدار الوقت، الذي أصبح حاجزًا بيني وبينك...

وهكذا عكفتُ لأسابيع وأنا أصنع هدية تليق أن تتذكرني بها... كنتُ ابتسم؛ كلما انجزت فيها مسافة، أتحدّث معها، أحاورها، أقصّ عليها اشتياقي، شغفي، أمنياتي، أحلامي، ثم أوصيتها ألّا تستوحش إن نسِيتها في درجٍ ما لوقتٍ طويل، كما نسيتني تمامًا...

غلّفتها بأنفاسي، ثم انتظرت...

وانتظرت...

حتى علمت أن صندوق بريدك، لم يعد يسع حبّي وهديتي.

***

صباح الخير على عينيكَ التي تشبه وهج الفصول.

أصبحتْ وسيلتي الكتابة إليك... استقطب التواءات الأمنيات، رغم أن مغيب الفرح يتوغّل داخل نفسي، متلصّصاً على نبض قلبي.

ماذا تفعل المرأة، عندما تحتاج إلى الرجل الذي أحبتهُ، ولم تجدهُ؟

عندما تساوم أحلامها، أوهامها، رغباتها، وتلجأ إليه... ولم تجده؛

محمومة تستيقظ من غفلتها وغفوتها؛

تتقاسم أوقاتها مع غصّة ألم عتيق، ألم يدفعها لملاقاة مصير مرتعش، قد يقودها إلى أن تطرق بابًا آخر!

من دون رغبّة، ولا هدف، ولا حُب... هكذا تأخذ الأمر عِـنداً وتهورا.

تركب البحر بقاربٍ منخور، وعصا من صلصال بارد، فجيعة لا أريد أن أصل إليها.

أتوارى عنها بالكتابة إليك يومياً؛

هذا الأمر موجع - ربما لكلينا – ليتك تعلمني سبب هذا الرحيل والغياب؟

فتحتُ عينيَّ على سعة الحقيقة؛

فلم أجدك...

وأنا امرأة ترنو إلى المكان الفسيح، وإلى أفق القلب، وإلى صباحات تشرق من أقاصي النخل، رحلتي في الحياة مستمرة، ولم اعتد أن أقف وانتظر مرافق متردد، بدأتُ استوعب ابتعادك وإهمالك، كذلك هيأتُ أيامي القادمة ودرّبتها على عدم الالتفات للوراء.

***

اكتفيتُ بأن انكفئ على أحزاني، وأنتظر فوق ربوة تأملاتي، القادم من الأيام؛

وكأنني أراهن على حصان هوايَ، أو على حمامتي التي درّبتها كي لا تضيع درب العودة!

جعلتُ جلّ أحلامي اللقاء بك... رغم معرفتي أنني آخر اهتماماتك!

كنتُ أفرح مثل طفلة، عندما تخبرني بأننا سنلتقي قريبًا؛

أفتح خزانة ملابسي، فتصيبني الحيرة، أيّ فستان أختاره للقاء بك؟

أتذّكر الألوان التي ترغبها، أقوم بتنسيق الفستان مع الإكسسوارت والحقيبة، أضعه جانبًا، بانتظار مكالمة منك، تخبرني فيها بموعد اللقاء...

أحلم بالجنّة الموعودة، العناق الحار، تشابك الأيدي، تبادل الضحكات والنظرات، إغفاءة مطمئنة على ساعديكَ...

انتظر مكالمتك... وانتظر، فأدركُ أن كل ما حلمت به، محضّ خيال أو أمل؛

فأنهض لأنفض الغبار عن فستاني، وأعيدهُ إلى الخزانة من جديد.

وهكذا سارت أيامي مع وعودك، مرّة إلى نأي اللقاء، وأخرى إلى عذاب الانتظار.

***

كم مرّة قلتَ لي بأننا سنلتقي، ولن نفترق؟

كم مرّة اشتقتَ لي؟

هل تذكر عندما أخبرتني أنني وطنك؟

حبيبتك التي تشبه قلبك... واحتك التي عندها تحطّ رحالك، وتروي عطش خلاياك، وتسرد حكاياتك، من دون قلق وخوف... كيف استطعت أن تهجر هذا الوطن؟

هل تذكر عندما أخبرتني أنك وجدتَ السلام، والأمان، والدفء قربي؟

كيف تآلفت مع الشتات والبرد وتركت هذا السلام؟

إن كنتَ لا تعني كُل هذا؛ لماذا قلتهُ لي وجعلتني أعيشه؟

أوجعتَ قلبي كثيرًا...

***

أحببتكَ إلى أبعد حَدّ وأقصى درجة؛

بكل ما أوتيت من قوّة، وأنتَ تماديت كثيرًا في تجاهل هذا الحب!

هل الأزمان تنتظر من يتأخرون في الحضور؟

هل الأحلام تكبر، وتتحقق في متاهات الضياع، والبَراري غير الآمنة؟

رأيتك الجانب المضيء من عتمة هذا البؤس.

جعلتني أتلو نفسي وسط المحبّة، وأشعرتني- لوقتٍ قصير- أنّني إنسانة بمقدورها التحليق بجناحين من فرحٍ وضوء، وكأنك أخرجتني من حبسٍ، فرضته عليّ التجارب التي جعلت صوتي يضمر، ونَفَسي ينقطع.

كنتَ كشلاّل عشق، منحتني وجودًا، وسقيت جذوري زهوًا ومعنى.

أخذتني إلى عالم السحر والأمنيات، إلى ضفّة مترعة بترف الوله الجميل، وسرعان ما تركتَ يدي في الفراغ.

ووجدتُ نفسي وحيدة، صحبتني مزنة دمع إلى روابي صدق وشوق، أبحث عن النهر الذي يطفئ ضرامي.

هل أستحق هذا العناء؟

مشكلتي الكبرى، أين أهرب من ذكرياتنا؟

وأنتَ بدر العمر، وشمس الأغنيات، وبوصلة الاتجاهات، وصوت الحروف!

مشكلتي؛ لا أقدر أن أنساك.

***

هل أُدين سهو نزقي؟  أم أتعاطف مع ما تبرّره؟

عدتُ أطرد ذلك الخوف المزمن، من الدنوّ الحميم الذي أصبح هاجسي.

حاولت أن أتصالح مع أفكاري، وألقي خلف الشمس عبء تلك الخيبات المريرة.

حاولت أن أنقش على ذراع النهار، تحية تحلّ بها عقدة لسانك، أو تعويذة أعلّقها على جناح طائر وأطيّره صوبك.

هناك شيء ما يحول بينك وبيني، شيء أكبر منك ومنّي، وأصغر من أن نراه، شيء أسرع من الضوء، وأبطئ من أن نتجاوزه، شيء يشبه الزمان الضنين الذي جرحني، ويشبه المساء

الأخير الذي فزّزني قبيل غفوة الضياء الأول.

أقنعتُ نفسي أن غيابك قدر، ولابد أن أؤمن به، لكن أصعب ما مررتُ به...

هو عندما أعدّتك غريبًا، كما كنتَ قبل أن ألتقيك، لم أعد أتابع صفحاتك، لم أتفحص بريدك، لا أهتم بتغيير حالاتك على مواقع التواصل، تقريبًا ضيّعت ملامحك وسط ضباب كثيف؛ حينها عرفتُ أني لا أكتملُ بك، ولن أنقص دونك، لكن فقط... ربما كنت سأشعر سعيدة جدًا باستمرار علاقتنا!

بصورة أدقّ أعترف أن وجود علاقة ــ بغض النظر عن فرص التواصل ــ أية علاقة ستكون ديدن يبرر استمرار النبض في عروقي...

أرجو أن تكون قد وصلت أهم الرسائل، بغض النظر عن اشكالية الارسال والتلقي...

***

ذكرى لعيبي - ألمانيا

شتاء 2023

في نصوص اليوم