نصوص أدبية

ناجي ظاهر: المُترجمة المنتظرة

أرسل الكاتب الشيخ شهوان شهوان نظره عبر نافذة غرفته القائمة في راس الجبل. ابتسم. وعاد يرسل نظراته المليئة بالمعاني نحو صور أحبائه الراحلين. أمه، ابيه وأخويه.. الأكبر والاصغر. تمعّن الأشياء غير المُرتبة في غرفته الصغيرة. "أنا يجب أن أرتب كلّ شيء في هذه الغرفة الملعونة"، قال في نفسه وواصل" ها هي اللحظة الكبرى تأتي إليّ.. لقد تأخرت.. لكنها أتت"، بعد صمت فرح عاد يقول" عليّ أن أرتب الغرفة بطريقة تليق بمترجمة أمريكية مشهورة". أرسل نظره نحو ساعة الحائط المعلّقة هناك منذ اكثر من نصف قرن.. استحثّ عقاربها المشرئبة بأعناقها الراغبة في الجري ضمن محاولة منها لتسبق ظلها. استحثها أن تطوي الوقت طيًا كما طوت جمال الصحراء العربية الكبرى الرمال اللاسعة طيًا. همس لها قائلًا اسرعي.. انتقلي من العاشرة.. إلى الثانية عشرة. سوّى قبة قميصه المنشّى العتيق. معانقًا كلّ ما في غرفته تلك ومُرسلًا أنظاره الحالمة إلى البعيد.. البعيد. لقد مضت السنوات سراعًا وما بين سن الثالثة يوم استمع إلى أول قصة سرقته من ذاته المُهجّرة إلى سنوات السبعين المرفرفة في سمائه وهو يحلم بأمر واحد أن يكتب ما أراد ان يكتبه. ما حلم به وما زيّنه له خياله من عوالم زهرية تشبه ورودًا ضاحكة على شاطئ بحر. صحيح أن تلك لن تكون المرّة الأولى لطرق المترجمين أبوابه، فقد سبق وطرقت اليد الناعمة بابه الموارب من اليابان وفرنسا وألمانيا أيضًا.. بل من أمريكا ذاتها، غير أن هذه المرّة تختلف فالمترجمة امرأة عاملة في السياسة وهي مَن ترجم منتخبات من القصص والروايات العربية إلى الإنجليزية بلغة أغرت الملايين من أبناء جلدتها بقراءتها.
استرخى الكاتب الكبير. هذه المرة يحق له ان يرى ذاته كبيرًا. فقد أنتج في سنواته الخصبة الأخيرة خاصة ما ودّ أن ينتجه خلال العشرات من السنوات العابرة المنطوية، ما أراد أن ينتجه ولم يتبقّ عليه سوى أن يقرأ بنو جلدته وكلّ الجِلَد في العالم أجمع ما جادت به قريحته. في نشوة انتظار تسلّل إلى ذاكرته صوت تلك المترجمة الناعم. لقد قرأت قصتك عن الضبع والمُهجًر. كنت ساحرًا فيها. انتصرت للحياة. تلك القصة بهرتني. بالضبط كما بهرت الكثيرين في بلادنا. أحداثها الساحرة في جبال بلادك. اقنعت الكثيرين وأنا منهم باننا إنما نقرأ لكاتب تمكّن من مواجهة ذاته وانسانيته. أريدك أن تحضّر لي قصصًا تشبه هذه القصة. أنا متأكدة من أنك كتبت ما يستحق أن يقرأه الناس في كل اللغات.. لما اتصف به من جوّ إنساني كريم وسخي. كلمات تلك المترجمة المشهورة شنفت أذنيه.. أطربتهما.. جعلتهما تتحوّلان إلى مغارتين عميقتين تضربان في أعمق أعماق مرتفعات بلاده وسهولها. أراد أن يقول لها إنه إنما اختصر تاريخًا وافترش روحًا في قصته تلك وفي سواها، غير أنه فضّل الصمت. رنّت كلمات مترجمته كما ترن الاجراس في يوم ماطر يسترخي في حضن خريف بعيد. ركبت الكاتب حالة من التوازن المُفتقد طوال العشرات من السنين. وقف قُبالة الصور الغالية المعلّقة في صدر غرفته الصغيرة. أراد أن يتوجّه إلى صورة أمه المرحومة، أن يقول لها سأقترح قصة كتبتها في البدايات عنك وعن عذابك عندما اضطرك التهجير للعمل في أراضي الخواجات. بعدها انتقل إلى صورة والده. تمتم بكلمات.. نعم يا والدي.. نعم أنا سأقترح ترجمة قصة تحكي عن أيامك الخوالي مِنَ الفرح. تلك الأيام كانت ملأى بالآلام والمعانيات. أعرف أنك وضعت رأسك في قُفّة تراب الخواجات.. منذ بدايات عملك لديهم حتى أخريات أيامك في الحياة. بعدها أرسل الكاتب الشيخ نظرة أخرى نحو أخويه.. الأكبر والاصغر.. كنت الوسط بينكما. عرفت كلّ شيء عن عذابكما. أعرف أنك، وأشار الى صورة أخيه الأكبر، أحرقت أيامك في أفران الخواجات الآخرين، واكتويت بنيرانهم. وانتقل إلى صورة أخيه الأصغر.. أعرف أنك واجهت الدنيا بالزوغان من مآسيها وعذاباتها وما فرضه التهجير علينا جميعًا. اعرف يا صغيري.. انا لا يمكن أن أنسى أيامك القاسية العذبة. القصص المُستقاة من حيوات كلّ هؤلاء هي أغلى ما لديّ قال الكاتب وهو يرى إلى الصور المعلّقة هناك على حائط الغرفة.. ترسل ابتسامات النصر المتضامنة معه.. ما كاتبها ومخلّد ذكراها.
يتوجّه الكاتب الشيخ شهوان الشهوان بخطاه المُتعبة ونظراته الحالمة إلى مكتبته... أو إلى اكوام كتبه الحبيبة الجامحة.. يأخذ في تقليب تلك الكتب واحدًا تلو الآخر.. الوقت يمضي سريعًا وعقارب الساعة تستحث ذاتها ماضية نحو الموعد المحدّد نحو الثانية عشرة. انه يبحث عمّا كتبه من أقاصيص سبق وكتبها من وحي أولئك الغوالي الراحلين. ولا يجدها.. ويجنّ جنونه.. وهو يبحث ويبحث.. ويبحث.. دون أن يعثر على ما بحث عنه. عندما اتصلت تلك المُترجمة لم يضع في حسابه ولم يتوقّع أن يضيّع ما كتبه من ايحاءات أحبائه أولئك الراحلين. لذا ترك أمر إعداده للحظة الأخيرة.. وها هو يصطدم بالحقيقة المرّة القاتلة.. حقيقة أنه لم يُرتّب ذاته كما يفترض أن يفعل كاتب أراد أن يقول شيئًا ذا معنى لعالم أصم.. حالة من الحزن والالم على كلّ ما أحاط به من ظروف، سرت في عروقه وامتدت في روحه القلقة.. عندها لم يكن أمامه من مفرّ سوى أن يشرع في بعثرة أكوام الكتب المتراكمة حوله.. بعثر وبعثر وبعثر... علّه يعثر على ضالته.. وعندما تحوّلت غُرفته إلى صحراء من الكتب.. كان قد تعب وأخذ منه الإرهاق مأخذه المُنهِك.. لحظتها لم يكن بيده من مفرّ سوى أن يستلقي على كتبه الحبيبات المتعبات.. معانقًا إياها وسط نظرات أحبائه المعلقة صورهم في صدر غرفته الوحيدة.. ووسط ضياع يشبه الزُهد المجنون.. الخالص.. في الترجمة و.. في كل شيء.. كل شيء.
***
قصة: ناجي ظاهر

في نصوص اليوم