نصوص أدبية
ناجي ظاهر: امرأة الطيف
لامست أشعة الشمس زجاج نافذتها في الدور الثالث. فتحت عينيها. ها هو الصباح يلوح شابًا طريّ العود غضّ الاهاب. تحرّكت في سريرها. اغرتها نعومة شرشفها بملامسته. لقد حرصت منذ انتقالها للإقامة في نوف هجليل، قبل ثلاثة أعوام، على استبدال شرشفها قُبيل استلقائها وإغماض عينيها كلّ مساء تقريبًا. هي لا تذكر أنها خرقت هذه العادة، إذ أنها رهنت بها سعادتها المنتظرة. منذ اليوم الأول لانتقالها هذا قالت لنفسها " سأغيّر الشرشف.. ربّما تغيّر حظي". اغمضت عينيها.. كانت أشعّة شمس الصباح تبعث فيها الحياة المُغادرة منذ تركت بيتها في الناصرة وجاءت للإقامة هنا بحثا عن الهدوء والاستقرار.. بعيدًا عمّن ينغّص عليها حياتها، بما فيه بناتها المشغولات الثلاث وابنها .. وحيدها العاقّ. لقد حاولت أن تتقرّب منهم جميعًا فتردّدت عليهم في بيوتهم ضمن زيارات.. تعمّدت أن تجعلها قصيرة.. كي لا يملّها أحد منهم. في البداية رحّب أبناؤها بها واستقبلوها أحلى استقبال، لا سيّما عندما كانت تستخرج ما انتوت إهداءه لهم من الأوراق النقدية. هي ما تزال تذكر تلك المرأة الثقيلة عندما تناقشت معها حول محبّة الأبناء لأهاليهم، وما تزال تذكر جيّدًا عندما امتدحت هي ذاتها أبناءها وانتقدت محدثتها في المقابل .. ابناءها. هي امتدحت لحُسن الاستقبال، ومَن قُبالتها انتقدت لسوئه.. وكان لا بدّ من إجراء الرهان بين الاثنتين. الرهان قضى بأن تتوقّف حضرتها عن إهداء أبناءها. ابنها الوحيد وبناتها الثلاث الأوراق النقدية الجديدة خلنج. لترى ماذا سيحصل فيما بعد. للأسف الشديد خسرت هي الرهان. وكان لا بُدّ لها من ان تلحق مَن راهنتها في مسارب الوحدة وبيوت العناكب المُعرّشة. غير أنها لم تتمكن من مرافقتها طوال الوقت، فقد لمست فيها نوعًا غريبًا من القسوة.. حاولت تبريره بما اتصفت به تلك المرأة من تفكير واقعي..، غير أنها عندما اكتوت بنار ذلك التفكير، انصرفت عنها غير آبهة. يومها قالت لنفسها الوحدة خير من مرافقة مَن يتسبّب لك بالمضايقة. وعادت إلى بيتها لتنام على سريرها وشرشفها المغسول جيدًا.
شعور طاغٍ بمحبّة الحياة، في ذروة مشوارها الحياتي، بعد انفصالها عن زوجها، الشيخ المُرهَق والمُرهِق، وفشلها فيما سبق وراهنت عليه، داعب مُخيّلتها.. ربّما كان ذلك بسبب ملامسة أشعة الشمس الدافئة في يوم خريفي من أيام تشرين الأول. في الامس استمعت إلى أخبار مناوشات حدودية.. أثارها ذلك. غير أنها لم تهتم به كثيرًا. أما الآن في هذا الصباح المُشعّ، فقد خطر لها أن تستمع إلى الاخبار. مدّت يدها إلى ترانزستورها الصغير، لتفاجأ بأخبار غير متوقعة، ها هي تستمع جيّدًا.. الحرب في حالة تصاعد. والمسؤولون يطلبون من السكان التزوّد بالمواد الغذائية الكافية مدة أسبوع على الأقل. الأوضاع آخذة بالتأزّم إذًا.. فماذا عليك أن تفعلي؟ انهضي يا امرأة.. انهضي وتوجّهي إلى المُجمّع التجاري.. لتشتري ما نصح به الاعلام الرسمي. صحيح أن تجارب سابقة اثبتت أنه لا أهمية لمثل تلك التوجيهات في فترة الحرب.. لكن صحيح أيضًا "أن مَن احترص ما انقرص".
بعد أن قامت بطقوسها اليومية الصباحية من دخول الحمام. الاستحمام. تناول حبة أبو كادو. الوقوف في النافذة المُطلّة على الشارع المُشجّر الوحيد. توجّهت نحو باب شقتها.. فتحت الباب.. أغلقته وراءها ونزلت الدرجات بسرعة غير عادية. استقبلها الشارع على غير عادته بنوع من الحركة. ذلك كان واحدًا من أيام قليلة ترى فيها حركة في الشارع. كان جميع من رأته من الجيران يتوجّه على الاغلب إلى المجمع التجاري في الطرف الآخر من النوف. جرى الجميع وجرت هي معهم انتقلوا جميعًا من شارع إلى آخر. بعضهم توقف في المحطّة القريبة.. استقلّ الحافلة العامة. هي فضّلت أن تقوم اليوم بما لم يقم به الكثيرون. ستنطلق راجلة على قدميها. ستُمتّع أنظارها بما حفلت به حفاف الشوارع من أشجار وورد. وانطلقت سائرة على قدميها القويتين الثابتتين.
استوقفها في أحد مقاطع شارعها الطويل، تحت شجرة منزوية هناك في أحد الأركان منظر غير متوقّع. فتحت عينيها وأغمضتهما. إنها ترى تلك المرأة الما تتسمّى، مُراهنتها وهادمة عُشّ أحلامها، تقف هناك بكامل روائها وبهائها. لماذا لا تنطلق تلك نحو المُجمّع التجاري، اسوة بسواها ممن أرادوا درء معانيات الحرب. ما الذي جعلها تقف هناك في ذلك الموضع الخفيّ من الشارع؟.. هي لا بدّ أن تعرف، وتسلّلت عبر شارع جانبي، ضمن محاولة سخيفة.. هي ذاتها تعرفها أكثر من غيرها، لمفاجأة تلك المُراهنة الفظّة. هي لا بدّ أن تعرف ما الذي دفعها لأن تقف هناك وما سرّ تجمّلها وفوح عطرها في كلّ مكان.. خطت خطوة وأخرى باتجاه تلك الواقفة هناك .. تحت تلك الشجرة الوارفة. متعمّدة الا تراها قرينتها تلك. وقبل ان يظهرها المنعطف الخفي. فوجئت بما لم تكن تتوقّعه من تلك الواقفة مثلها على حافة السبعين. ما فوجئت به كان اغرب من الغرابة. شاهدت تلك المرأة ترسل ابتسامة نحو أقصى الشارع.. ابتسامة صبيّة في العشرين.. وفي المقابل شاهدت شابًا معافى مهندم الثياب، يجرى نحوها.. فيما هي تتحفّز لالتقاطه بين يديها المفتوحتين على وسع الحياة.
ما شاهدته من موقعها الخفي ذاك جعلها ترتدّ على عقبيها.. وتبتعد عن ذلك المنظر غير المتوقّع.. مفكرة في تلك القرينة الشبيهة بها في كلّ شيء إلا في أمرين اثنين لا ثالث لهما.. واقعيتها.. وذاك المنظر المثير... لذا لم تجد أمامها من بُدّ للانطلاق في الشارع ذاته على غير هدي.. حاملة في عينيها الجميلتين رغم مضي الزمن المفاجئ، صورة لذاك اللقاء الحميم بين قرينتها المسنة وذاك الشاب المهندم المعافى.. في انطلاقتها تلك استولى عليها ذلك المنظر مُنسيًا إياها أخبار الحرب وانطلاق صفارات الإنذار.. بل ما وجّهه المسؤولون للسكان مجتمعين من أهمية التزوّد بالمواد الغذائية استعدادا لتصاعد الأوضاع.. ها هي تتوقّف على دوي صفارة الإنذار مُعلنةً التصاعد غير المسبوق للحرب.. وكان لا بُدّ لها من الجري في الشارع فيما يطرق باب خاطرها سؤال ومشهد.. السؤال إلى أين ستذهب.. والمشهد شاب معافى وحَسن الهندام.. يقترب منها و.. تبتعد عنه.. شدّت على ما تبقّى في فمها من اسنان قائلة لنفسها.. لقد بدأت الحرب..
***
قصة: ناجي ظاهر