نصوص أدبية

نورالدين حنيف: ورطةُ الجِهاتِ النّائمة

"رَأَيْتُ الْعَبَثَ ولَمْ تَضِقْ يَدايَ بِسُكونِ الْجِهاتِ الْنَّائِمَةِ. ورَأَيْتُ خَرائِطَ الْفَرَحِ تُعِدُّها بِمَكْر، ثَعالِبُ الْوَقْتِ الْعابِرِ فاتَّسَعَتْ بُقَعُ السَّفَرِ في قدمِي. ولَمَّا رُمْتُ انْتِشالَ الْحُقولِ مِنْ ضُباحِ الْكائِناتِ اللَّوْلَبِيَّة فَرَّتْ مِنْ أَصابِعي كُلُّ الدّالِياتِ. سَقَطَ الدَّمْعُ في جَيْبِي الْمُعَلَّقِ فِي فَهارِسِ النِّسْيانِ، فَتَّشْتُ في قاعِهِ عَنْ دُرَيْهِماتٍ أسُدُّ بِها ثُقوبَ الْحُقولِ الْمَسْلوخَة فَلَمْ أَجِدْ رَنيناً، وَوَجَدْتُ بَقايا مَخالِب، ونُتْفاتٍ مِنْ زَغَب وَحُشاشَةً مِنْ روح وبَعْضَ أحْلام كانتْ دَفِينَة. "

ماذا تَقول أيّها الْمعْقُوفُ في يدِ الكلام؟ وهل أنتَ شاعرٌ فقدَ بوصلةَ البيان أم حاكٍ تاهَ عنهُ غزالُ المَجاز؟

انا الحاكِي والْمحكِيُّ عنه. وأمّا العبثُ أعلاهُ فبعضُ السّلوك. وأمّا الجهاتُ النّائمَة فبعضُ السّكوت. وأمّا خرائطُ الْفرح فبعضُ الانْفِراجِ في سيماءِ العسْف والخسْفِ و...

هل أنتَ تشْرَحُ لي؟ وهل بدوْتُ لك جاهلاً بمسارِب الْكلام؟

سيدي... لا تقلق ولا تندفع فليس قصدي أيُّ إهانة أو ما شابه. كلّ ما في الأمرِ أن الرّغبةَ في الكتابة انزاحتْ نحو التغميضِ الدّلاليّ بِقصدٍ يُنيخُ بالمحْكِي في أرْضِ النّخبة. ولا أرانِي جانَبْتُ صواباً إذْ ضيّقْتُ أفقَ الاستِقْبال. أليسَ من حقّي وأنا الحاكِي أن أختارَ قُرّائي؟

سأتركُكَ إلى نخبَتِكَ وأغادِرُ حماكَ. وليس مطلوباً منّي أن أذعِن لهذيانِك...

لك ما تشاء...

قال الحاكي:

و في غمْرةِ انتصارِ الثّعالِب على نقاءِ التّراب، دلفتُ أنا المحكِي عنهُ إلى ثقوبِ البسْتان. عبرْتُ شُعاعَ الثّقبِ الْوحيد الذي نسلتْ منهُ فصيلةُ ابنِ آوى. وجدتُ المقاسَ أكْبَرَ من بطنِها، فعلمتُ أن الثعالِبَ استأْسَدتْ وتكوّن أو تكوّمَ على صدرِها لِبْدٌ كثيف. وعلمْتُ أيضاً أن بعض الجهاتِ النّائمة تستيقِظُ في حالةٍ واحدَةٍ عندما تُدرِكُ أن الثعالِبَ في مأزق. فتصنعُ لها وجْهاتٍ أخرى أنسبُ لمواقِيتِها الثعْلبِيّة.

قالَ الّذي انتدبتْهُ الثّعالِبُ: أعلنُ باسمِ كل الثّعالِبِ أن الأمر لا يعْنِينا، وأن الثّقبَ لم يدْلِفْ منهُ ولا ثعْلبٌ واحِد. وإنها لفرْيةٌ عظيمةٌ ما جاء بها زمان. نحنُ لم نَلجِ البستانَ ولم نسرِقْ غلّته، كما لم نبدّل فرواتِنا أبداً. فابحثوا عن الفاعلِ ولا تذهبوا في تحقيقكم هذ المذهبَ المغلوط والّذي سيودي بكثيرٍ من الثعالِبِ البريئة. وفضلاً عنْ ذلك فشبَعُنا فيما يغمُرُنا من رزقٍ غابويٍّ يكفِينا والحمدلله على نعمِه.

" رَأَيْتُ الْعَبَثَ ثانِياً ولَمْ تَضِقْ يَدايَ بِسُكونِ الْجِهاتِ الْنَّائِمَةِ. ورَأَيْتُ خَرائِطَ الْفَرَحِ تُعِدُّها بِمَكْر، ذِئابُ الْوَقْتِ الْعابِرِ  فَاتَّسَعَتْ بُقَعُ السَّفَرِ في قَدَمَي .وَ لَمَّا رُمْتُ انْتِشالَ الْحُقولِ مِنْ ضُباحِ الْكائِناتِ اللَّوْلَبِيَّة فَرَّتْ مِنْ أَصابِعي كُلُّ الدّالِياتِ. سَقَطَ الدَّمْعُ في جَيْبِي الْمُعَلَّقِ فِي فَهارِسِ النِّسْيانِ، فَتَّشْتُ في قاعِهِ عَنْ دُرَيْهِماتٍ أسُدُّ بِها ثُقوبَ الْحُقولِ الْمَسْلوخَة فَلَمْ أَجِدْ رَنيناً وَوَجَدْتُ بَقايا مَخالِب وَنُتْفاتٍ مِنْ زَغَب وحُشاشَةً مِنْ روح وبَعْضَ أحْلام كانتْ دَفِينَة. "

أهذا أنت ترجعُ بعد أن غادرتَ حكْيِي ووصمتَه بالنّخبوِيّ؟ مرحبا بحضورك مهما كان موقفك، فأنا أعتبركَ نُخْبَويّاً بامتِياز.

سيدي، كل ما في الأمر أن مسارَ الحكيِ انبعثَ مُشوّقاً فقرّرتُ أن أستمْتِع.

مرحبا بقلبك وعقلك وسمعك وكل جنود استساغاتك.

يبدو أنّ المسألةَ ستأخُذُ مجرىً آخرَ غيرَ الذي خطّطتْ له الجِهاتُ النّائمة. وأنّ الثعالِبَ بمكرِها الغريزيّ أسقَطتْ كفّةَ المتلاعِبِين وكسّرتْ أجنداتِهِم تكسيراً سينجُمُ عنهُ الكثيرُ من الضّرر. ولولا صبْرُ الجهاتِ واستعانتُها بالخبراتِ الأجنبية والمتخصّصة والمُكوّنَة أشدّ التكوين لكلّفها الأمرُ خيباتٍ لا قِبَلَ لها بتجاوُزِها...

هكذا تحوّل الدمعُ في مجراهُ... فمسحتِ الجهاتُ النّائمةُ التّهمَةَ في معشرِ الذّئابِ. وألْصقَتْها بمكْرِها اللّولبِي. فشاعَ بينَ الأنامِ أن الذّئابَ دلفتْ إلى البستانِ وسرقتْ ما سرقتْ وعاثَتْ فيه ما عاثَتْ ودمّرتْ وخرّبتْ وأفسَدتْ . انطلتِ الحيلةُ زمناً على الإعلامِ والمثقّفينَ وباقِي الدهْماء وسائرِ الأنامِ. حتّى أوشكَ كلّ ذِئْبٍ على الرحيلِ من البِلادِ جرّاءَ هذه الوصمة وهذا الْبلاء.

انبرى ذِئْبٌ مثقّفٌ من عامّةِ الذّئابِ ويبدو من تعابيرِهِ أنهُ اشتغلَ سابقاً في المحاماة. قال والعهدةُ على الرواي: لم نشغلْ بالَنا نحنُ معشر الذئابِ بالسّرِقَة إلا لجوعٍ اعترضَ بطونَ صنفِنا أو لخصاصة هدّدتْ فصيلَتنا أو لسغبٍ شديد وضعَ انقِراضَنا في ميزان الموجودات. وأمّا اللمْزُ من جهاتٍ معلومةٍ أو مجهولَةٍ بأنّنا نمثّلُ متّهما أو مُداناً في قفص الاتّهامِ أو ما شابَه، فأمرٌ يبعث على الضحك، لأن الإشارةَ واضحةٌ أوضحُ من شمسٍ في ظهيرة. وإنّنا من هذا المنبرِ الموقّر نقول لا لكلّ أفّاكٍ أثيم. ونشجبُ التهمةَ قبل الفعل ، وندين من وصمنا بأدني صفة. وليطمئنّ الفاعل أننا لن نألوَ جهداً في المتابعةِ القضائية حتّى نبرّئَ ساحتنا من هذا الذي كان، بفعلِ فاعل موبوء...

لم يغمض لِلْجهاتِ النائِمة جفنٌ ولا استراحَ لها جنب. وقضت مواسِمَ حصادِ الانتخابات والترشيحات في قحطٍ بائنٍ ومحلٍ أبْين. تجرّ ذيولَ هزيمَتِها خلفها أينما حلّتْ وارتَحلتْ. ولمّا ضاقَ بها الأمرُ ذِرْعاً جنّدتْ للأمر جيشاً عرمْرَما من جنودِ الشبكات العنكبوتية، تستثمرُ الوسائط الاجتماعية في التشهير بالفاعل الحقيقيّ الذي وضعتْ فيه ثقَتها العمياءَ وانصدَمتْ فيه أشدّ الصدمات...

الْصقَتْ إفْساد البستانِ لفصيلةِ الكلاب.

" الآنَ رَأَيْتُ الْعَبَثَ ولَمْ تَضِقْ يَدايَ بِسُكونِ الْجِهاتِ الْنَّائِمَةِ. ورَأَيْتُ خَرائِطَ الْفَرَحِ تُعِدُّها بِمَكْر، كِلابُ الْوَقْتِ الْعابِرِ  فَاتَّسَعَتْ بُقَعُ السَّفَرِ في قَدَمَي .وَ لَمَّا رُمْتُ انْتِشالَ الْحُقولِ مِنْ ضُباحِ الْكائِناتِ اللَّوْلَبِيَّة فَرَّتْ مِنْ أَصابِعي كُلُّ الدّالِياتِ. سَقَطَ الدَّمْعُ في جَيْبِي الْمُعَلَّقِ فِي فَهارِسِ النِّسْيانِ، فَتَّشْتُ في قاعِهِ عَنْ دُرَيْهِماتٍ أسُدُّ بِها ثُقوبَ الْحُقولِ الْمَسْلوخَة فَلَمْ أَجِدْ رَنيناً وَوَجَدْتُ بَقايا مَخالِب ونُتْفاتٍ مِنْ زَغَب وحُشاشَةً مِنْ روح وبَعْضَ أحْلام كانتْ دَفِينَة. "

 سيّدي... وهل الكلابُ صاحبةُ الفعل؟

لا تتسرعْ يا صديقي. فأنا أربأ بك أن تكون ممّن يجتنون الثمارَ قبل نضجِها.

الحقيقة يا سيدي أنك شوّقْتني للنهاية حتّى نسيتُ نفسي، ووجدتُني كذلك المتفرج على شريط سينمائيٍّ عبر آلية اليوتوب، ووجدتُني كأنني أضغط على سهم التسريع لأحداث الحكاية. والأمر في حقّه وحقيقته يُعاش حكياً وحياةً بتفاصيله الدقيقة. هذا فرقٌ سرديّ ينبغي أن نسجّله في مقامات الحكي المتعددة بين مكتوبٍ ومسموعٍ ومرئيّ...

لا عليك يا صديقي، فالأمر يوشِكُ أن يكون عامّا. فأنا غالباً ما أقع في هذه الرغبة.

في سياقٍ مستضعفٍ لم يستطع كلبٌ واحدٌ ردّ التهمة. والسبب في ذلك مرجعهُ إلى أن الكلابَ لا تحظى بصفة النّدرة. فهذه تلعبُ دوراً في ترجيح كفّة الميزان للثعالبِ وللذّئاب. وأما الكلابُ فشأنها مختلف.

قد يقول قائلٌ مُعترضاً على تعليلنا بأن فصيلة الكلاب من نوع  (البيتبول) أو (الجولدن) نادرة. نقول له وبسرعة الموقنِ من دليله، إننا نقصد بذلك الكلاب الضّالّة فقط. جفّتِ الأقلامُ وطُوِيتِ الصحف.

أفحمْتَني أيها الحاكي كما لم يفعل ذلك حاكٍ من قبل. وإنني لأشهد لك بالبراعة في وصم الحكي بالموضوعية. فأين تعلمتَ هذا؟

تعلّمته في حلقاتِ أسواقِ الحي المحمدي. دعنا من هذا، وقل لي أين وصلت حكاية الجهات النائمة مع الكلاب الضّالّة؟

لم تقف الكلابُ مكتوفةَ الأيدي أمام هذا العار وهذا الشّنار. فانبرتْ على بكرةِ أبيها إلى تفعيل نقابةٍ قديمةٍ للكلابِ كانتْ قد جمّدتْ أنشطتَها ولم تُجمّد أوراقها الرسمية. أعادت هيكلتها بسرعة برقية وانتدبتْ ناطقيها ليبلوا بلاء حسناً في صدّ ما هجمتْ به الجهاتُ النّائمة ونقضِ ما حاكتْهُ عبقريتُها الخائبة. لم تلجأ نقابة الكلاب إلى بديع القول وحجيج المرافعة وجميل البيان وقويّ البرهان، وإنما لجأت إلى فعل المقاطعة تنديداً بالإساءة الحاصلة في حقّهم.

سيدي، وما موضوع المقاطعة التي يمكن أن تكون وازنة ومؤثرة وفاعلة وناجعة؟

صبراً يا صديقي صبرا...

لم أعد أطيق الانتظار يا سيدي... هات ما عندك هات.

حاضر يا سيدي ... إن فعل المقاطعة سلوكٌ حضاري وسلمي لا يقترفه إلا واعٍ بالمسؤولية. وقد أُسْقِطَ في يدِ الجهاتِ أن صدر هذا الفعل من الكلاب. حتّى ظنّتْه قاصمة ظهرِها. وقد ركزت نقابة الكلاب على مقاطعةِ قرار تسميم الكلاب بنشر الوعي بين صفوفها بمغبّات تناول هذه المواد القاتلة التي ترّوج لها الجهات النائمة للتقليص من عدد هذه الكلاب الضالة.

هل أفهم أن الكلاب كانت واعية بحملات التسميم وكانت تغض الطرف عن ذلك؟

نعم، سيدي... بعض الكلاب فقط.

هذا غريب جدّاً.

نعم، غريب ومؤسف ومأساوي.

و لمَ ذلك؟

تواطؤٌ من أجل البقاء في مقابل الإبادة الجماعية.

أكلّ هذا يحدث في بلادنا؟

نعم، وأكثر...

" ها أنا أرى الْعَبَثَ ولَمْ تَضِقْ يَدايَ بِسُكونِ الْجِهاتِ الْنَّائِمَةِ. ورَأَيْتُ خَرائِطَ الْفَرَحِ تُعِدُّها بِمَكْرٍ ناسُ الْوَقْتِ الْعابِرِ، فَاتَّسَعَتْ بُقَعُ السَّفَرِ في قَدَمَي . ولَمَّا رُمْتُ انْتِشالَ الْحُقولِ مِنْ ضُباحِ الْكائِناتِ اللَّوْلَبِيَّة فَرَّتْ مِنْ أَصابِعي كُلُّ الدّالِياتِ. سَقَطَ الدَّمْعُ في جَيْبِي الْمُعَلَّقِ فِي فَهارِسِ النِّسْيانِ، فَتَّشْتُ في قاعِهِ عَنْ دُرَيْهِماتٍ أسُدُّ بِها ثُقوبَ الْحُقولِ الْمَسْلوخَة فَلَمْ أَجِدْ رَنيناً وَوَجَدْتُ بَقايا مَخالِب ونُتْفاتٍ مِنْ زَغَب وحُشاشَةً مِنْ روح وبَعْضَ أحْلام كانتْ دَفِينَة. "

سيدي... أراك حوّلْتَ الحكيَ إلى بني البشر.

نعم، لأنّ البشر هم من دلف إلى البستانِ وسرقَ البستانَ وعاثَ في البستان ثم تركَ الثّقْبَ يتّسع في البستان...

***

قصية قصيرة

نورالدين حنيف أبوشامة - المغرب

في نصوص اليوم