نصوص أدبية

سنية عبد عون رشو: النازحة

يصرخ جابر مذعورا خائفا كل ليلة دون ان يعرف الآخرون سببا لذلك حتى أمه التي باتت تواسيه وهي تقرأ أدعيتها واضعة يدها فوق جبينه.. وحين تسأله.. أين حبيبتك الأثيرة وما أخبارها.. ؟؟.. يصاب بصدمة تهز روحه ويبدو كلامه بلا جدوى فيمرر أصابعه فوق رأسها ليمسد شعرها طالبا منها التوقف عن أسألتها.. ليعود لصمته كعادته..

اتفق جابر مع مجموعة من اصدقاءه ممن يبحثون عن مأوى مثله ان يبنوا بيوتا لهم فوق أرض تابعة للدولة.. (تجاوز) كما يسمونها ويقينا ان الدولة ستكون رحيمة بهم مثل الأب الذي يتعرى كي يغطي ابنائه فلا ضير ان ابتنوا بيوتا في غاية البساطة فوق أراضيها وهي الأم الرؤوم.. وليتعاون الشباب فيما بينهم لبنائها..

رغم صعوبة معاناتهم وشظف عيشهم كانوا يبتسمون للحياة راضين بكل تفاصيلها.. وقد نصحهم رجل طاعن بالسن قائلا: أجزم ان البلدية ستقوم بإزالتها في يوم ما لكنهم حافظوا على تفاؤل نفوسهم وسعوا بكل عزيمة وارادة نحو هدفهم.. انها رهان القدر ومعركة الحياة الشرسة برأيهم.. أما جابر فهذا نموذج مختلف من شباب شريحة المتجاوزين كما اتفقنا على تسميتهم.. أو لنسميهم المتعبين..

جابر.. كان من النوع المعتد بنفسه.. شاب أسمر فارع القامة ذو الشعر المجعد حليق اللحية يمتلك قوة وارادة كبيرتين ولم يستسلم لليأس أبدا بل ويزداد مرحه كلما اكتمل بناء احد الدور يرافقه صوت المذياع خلال عملية البناء يمقت نشرات الاخبار بينما يطربه صوت حسين نعمة وأغنيته الشهيرة (يا حريمة).. يعرف كل اصدقاءه قصة حبيبته النازحة.. لكن لا يتجرأ احدهم ان يسأله عنها..

كانت تشغل الجزء الأكبر من حلمه ويشعر بحنين طاغ حين يتذكرها لا تغيب صورتها عن مخيلته.. ويتذكر ضحكتها وتعانق روحيهما عند أول لقاء..

قديما سكن قومها عند مشارف مدينتهم حين حطوا رحالهم وأمتعتهم ودقوا أوتاد خيامهم نازحين من مناطق سكناهم التي اشتعلت فيها نيران حرب لا يعلم عواقبها الا الله سبحانه.. عندها بارك اهل المدينة جيرتهم بل وقاموا بمساعدتهم ومساندتهم وقدموا لهم بعضا مما يحتاجونه..

كان جابر شديد التعلق بهذه الصبية النازحة.. لا يعرف عنها شيئا سوى نظرة عينيها ولهفتها حين تلقاه.. تتباطؤ خطاها عند اللقاء لعلها تفوز بكلمة تنعش قلبها كان جابر مصدر سعادتها فنمت بروحها أحلام كثيرة وغدا لكل شيء معنى حتى لتساقط حبات المطر..

تحاول ان تخبر أهلها.. ولكن كيف تلغي تقاليد صحراء ينوح حاديها في الحل والترحال.. وخوفا من رفضهم

سرح خيالها لذكريات ماضيها.. فمنذ أعوام قرر أهلها وبتعمد قاس.. ان يعلنوا اصرارهم بطرد كل من يتقدم لخطبتها فهي ( راعية دارهم )..

ولكن.. هل يمكنها ان تضع قلبها بكهف وتتركه.. ؟؟

انها لحظات تورق الأسى.. ولكن ربما تفاجئها السعادة ذات يوم..

وكان لا يمر يوم الا ويقصد جابر تلك الربوع التي تقطنها الحبيبة رغم العادات والتقاليد ورغم حر القيظ وسطوة عيون المتطفلين..

عرفه أهل القرية انه مغرم بملاحقة الغيد وكان عظيم الاهتمام برأيهن.. وجمال الحياة بنظره يرتبط ارتباطا وثيقا برضاهن عنه.. لكنها غير النساء الاخريات.. انها حبيبته التي أضرمت نيران قلبه مذ التقيا لأول مرة فكان كطفل يحاول ان يتقن عزف معنى الحياة..

الحياة تطرق أبواب سعادته.. والنوارس ترشقه برذاذ المياه

انتظرها هناك بعيدا عن عيون الآخرين لكنها حاولت ان تهرب منه غنجا.. تجرأ فأزاح نقاب خجله ليمسك بطرف يدها المرتجفة وهو يقول : لن أدعك تهربين مني هذه المرة..

فهل ترضين بي زوجا ان تقدمت لك خاطبا..

الشمس توشك على الغروب وكانت تهم بالعودة باتجاه خيام قومها أجابته والابتسامة الخجلة لا تفارق وجهها..

نعم أرضى بك زوجا ايها المجنون..

أحدثه عنك كلما لاح القمر في عنان السماء ونام الناس وعم الهدوء أحدثه عن أحلامي وعن يوم مولدي هنا في دياركم التي عشقتها وأرى فيها كل شيء جميل..

ولكني أتساءل أصحيح ما تقوله عنك بعض النسوة.. ؟؟

يقلن : انك كنت تطارد الغيد..

وماذا تقولين أنت.. لا يهمني سوى رأيك

اني أرى ما لا يراه الاخرون.. أرى في عينيك الصدق ومستقبلنا القادم..

وأقول : انك ناسك يتعذب بأوجاعه.. !!!

مع بزوغ الفجر تفاجأ حي المتجاوزين كأن الأرض تهتز تحت أقدامهم وسمعوا قرقعة ( التركترات ).. وأصوات غير مفهومة وزمجرة ( الحفارة ) ذات الخرطوم الممتد الذي يستخدمونه لهدم الدور.. بعد عدة أشهر من انتقالهم فيها

خرج جابر مندهشا لا يعرف كيف يتصرف فوجد تجمع سكان الحي يتوسلون بهم لمنحهم مدة كافية.. شاط غضبه فلم يتمالك نفسه الا وهو يرفع صخرة كبيرة مهددا اياهم بتحطيم معداتهم فقلده كل سكان الحي رجالا ونساء.. وبذلك تمكنوا من طردهم..

يتنازع بداخله احساسان أحدهما انه شديد التعلق بهذه المرأة والثاني انه يخاف من أسرتها وعالمهم المجهول بالنسبة له.. لكن عليه مساعدتها على الاقل.. ربما يذوي شبابها ويشيخ كما غيرها من نساء أسرتها.. كما اخبرته..

.. لكن أهلي.. ( تقول فتاته ).. أجابها بثقة عالية..

لن أدخر أي وسيلة لإقناعهم.. ابتسمت بغنج واضح وهي تحدثه عن مشاعرها وأمانيها وعن تلك الايام التي تنتظرهم

قرأ آيات صدقها بنبرات صوتها وارتعاشه..

أخذت النسوة يسألنه عن حبيبته الجديدة

لكنه هذه المرة لن يجيب عن سؤال بشأنها..

فمن أجلها تعلم كيف يخفي أسراره..

فانطلق يجري بين حقول الحشائش ولأول مرة في حياته يشعر بانسجام وثيق بينه وبين النخيل والأشجار.. ولأول مرة يسمع كلاما صادقا من امرأة بشأن مشاعرها تجاهه..

هناك صوت خفي بداخله يقول له.. انها تحبك كان يشعر بضربات قلبه وتعرق جسده.. وشعوره الى كأس من ماء

ينفلت خياله وهو يحلم ببيت صغير يجمعهما..

.. فيهمس مع ذاته.. يا للسعادة التي سننعم بها ونحن نراقب أطفالنا يلعبون.. هكذا.. فأخذ يقفز كأنه يطير في الهواء..

يجلس بين الاشجار بجانب مجرى النهر.. هادئا مفكرا بما سيفعله من اجلها.. يفرك بين راحتيه قطعا من خبز ثم يرمي بفتاتها لسمكات صغيرة كانت تغازله.. وإذ يسمع ضجيجا وصراخا ومجموعة من الرجال يتجهون نحوه.. فصاح أحدهم امسكوه قبل ان ينهزم منكم.. انتصب واقفا دون ان يشعر بلحظة من خوف..

صاح الثاني.. هذا الذي شجعهم وعرقل عمل رجال البلدية بهدم الدور..

ولسوء حظه انه متهم.. متهم بجريرة لا يعرف كيف يعتبرها القانون ذنبا ويحاسب شريحة الفقراء.. وربما تطاول فقابل المسؤولين طالبا ان يمنحونهم قطع أراض بديلة قبل هدم دورهم.. لذا قدموا شكوى ضده

ضاعت حروفه وبحت حنجرته.. وبين كل شهيق وزفير يحس بالاختناق والضجر وهو ينتزع ذراعيه من قبضة احدهم.. لا يدعونه يتكلم.. وبين التحقيق وعدمه ضاع الفتى.. في توقيفهم..

في بناية رطبة كئيبة جلس القرفصاء واضعا رأسه بين يديه تتوالى صرخاته بين الجدران.. دون ان يسمعه احد.. لست مذنبا صدقوني..

نعم نسوه بين تلك الجدران الكئيبة.. ولا يدري كم مضى عليه من الزمن.. شهور كثيرة أو أشهر قليلة وربما عام.. لا يدري.. !!!

وبعد ان تقيأته دهاليز السجن.. وقف مشدوها أمام باب السجن الحديدي ذي المزاليج العديدة.. يبدو سقيما مشوش الافكار.. اما عذابه الادهى هو شعوره.. بعدم عدالة الحياة في هذه البقعة..

لكن تبقى المرأة النازحة هي حقيقته الوحيدة والتي لم تغب عن باله ولن تكتمل فرحته قبل ان يقصد ديارها..

وفي غمرة شوقه كان يسابق الريح ليعيد شرارة حبهما الضائعة.. وكان يتمنى رؤيتها مجددا..

لكنه بقي طريح الفراش وأسير الذكريات.. وكلما ترتفع حرارة جسده تزداد شدة هذيانه.. فيلعن الحرب ويلعن الفقر.. ويلعن الأحجار المتناثرة وبقايا مخلفات قومها الذين رحلوا..

***

قصة قصيرة

سنية عبد عون رشو

 

في نصوص اليوم