نصوص أدبية
نضال البدري: الأخرس

لم يعد الجيران يستغربون ذلك المشهد المتكرر كل مساء، حين يتعالى صوت خشن، لا يشبه أصوات البشر، صادر من منزل الأب الأخرس، لم يكن صوتا بقدر ما كان يعبر عن صرخة مكتومة في الأعماق، ممزوجة بالغضب، بالحسرة والحرمان.
لم يعرف الأب طعم الحروف، ولا لذة المناداة، لكن عينيه كانت تتحدثان كثيرا، أحب أبناءه كما يحب الشجر المطر، وسقاهم من صمته، أحتضنهم بيديه الخشنتين،وربت على ظهورهم كلما تعثروا، وجد فيهم صوته الذي فقده، لكنه لم يكن يوما قادرا أن يقول إني فخور بكم، حتى وان كانت ملامحه تعبر عن ذلك.
مع مرور الأيام ومضي السنين، كبر الأبناء و أصبحوا رجالا ونساء، وفي مراكز مرموقة، حققوا النجاح الذي حلم به لهم، من ثمرة تعبه وتضحياته لهم، لكن شيء ما تغير !! صاروا يحرجون من وجوده، لم يعودوا يفهمون نوبات غضبه حين يثور فجأة، صاروا يرون في صمته عجزا.
في صباح أحد الأيام، أنتفض فجأة ولده البكر والذي كان أكثرهم قسوة، كان يتضايق من وجوده في المنزل، ومن أشارته، قائلا له : كفاك، حركاتك الغاضبة لم تعد تحتمل، ماهي إلا مسرحية مملة، من واجبك كأب هو المراقبة فقط، فتح عينيه على مصراعيها، ثم أُومِئَ بيده واضعا سبابته على فمه أن "أصمت ".
كان الكل يقف وقفة المتفرج وكأنهم يؤيدون ما يحدث، نظر الأب إليهم بدهشة، بدا أمامه بكل وضوح أنه لم يكن حلما، تخضب وجهه باللون الأحمر، وراح يحدق فيهم بغضب، لم يجد ما يعبر به، ثار وخرج من بيته، مشمرا عن ذراعيه، كمن يستعد لقتال لا يملك له سلاحا، ويضربان الهواء بعنف، كأنما يلومانه على عجزه الأبدي عن النطق.
أصبح ذلك يتكرر كل يوم ودون جدوى، شعور بالتيه أنتابه، أصبح مغتربا بذاته، حزينا، محطما من سلوك أبنائه الذين تجاوزوا، وتجاهلوا، او ربما تناسوا عمدا، لم يكن بيده شيء سوى ثورة الغضب التي تعصف به كل مرة، ثم تخمد فجأة، كما لو أن قلبه انطفأ، وكما في كل مرة يعود لمنزله بصمت يجلس في الزاوية ذاتها، التي أصبح يأوي إليها، والتي التصقت بجسده حتى حفظت ملامحه، ينظر الى اللاشيء، بعينين فارغتين لا صوت، لا حركة، فقط صمت ثقيل يسكن المكان.
وفي صباح يوم بارد، طال جلوسه في مكانه المعتاد، مائل رأسه بلا أنين، بلا حراك، لم يحدث ضجيجا مثل كل مرة، بل ترك صرخته الأخيرة على هيئة جسد ساكن وروح غادرت بصمت عميق كما كانت دوما.
***
نضال البدري