نصوص أدبية

جودت العاني: الطريق إلى تقسيم..

حلقة من: المدينة الغافية في احضان البوسفور

كانت السماء بيضاء كنديف القطن تتحرك غيومها ببطئ حين هبطت طائرة الخطوط الجوية التركية فجراً على مدرج مطار اتاتوك.. فيما كانت الأضواء الصفراء الباهتة تضفي شيئاً من الشحوب على تلك المنازل القديمة والجميلة في المدينة التاريخية اسطنبول.

كانت اجراءات الدخول الى المدينة بطيئة بسبب ان ثمانية اكشاك رسمية في المطار لم يعمل منها سوى كشك واحد وسبعة غائبات وعشرات من البشر انهكهم التعب في الانتظار..!

اسطنبول في نظره مدينة وديعة ودافئة ودائمة الحركة وجميلة يراها تغفو في أحضان مياه البوسفور.. في الميدان حيث نصبْ الجندرمة القديم، كانت تحط مئات من الطيور وعشرات من البشر يقذفون اليها بقطع من الخبز، وهي تتصادم لنيل قوتها، كما البشر تماماً، يسعون الى لقمة العيش التي قد لا تكون سهلة، حيث الغلاء الذي يتصاعد ولا يتراجع والليرة التركية على الرغم من تراجعها امام الدولار إلا أن انعكاساتهاعلى الاسعار كانت كبيرة، وخاصة على محدودي الدخل كانت تبدو كارثة لا تحتمل.. انها لعبة الصيرفة وحرب الاسعار..!

الطريق من مطار اتاتورك الى قلب منطقة تقسيم كانت طويلة وصعبة وخانقة بطوابير من السيارات، وحين سأل السائق التركي، لماذا هذا الاكتظاظ، أجاب: انه زخم الصباح، ثم استدرك، نحن نعاني هذا المأزق طوال اليوم.. ولكنه ادرك ان السائق، أي سائق في هذه المدينة لا يتحمل كلف المسيرالطويل المقرف حد الفزع، إنما الشخص الراكب الذي يستقل سيارة الاجرة، هو الذي يتحمل الكلفة المضاعفة.!

سأل صاحب الفندق في منطقة تقسيم، كم هي اجرة التاكسي من المطار إلى الفندق؟ قال: بين اربعين الى خمسين ليرة تركية.. وحين اعطاه خمسين ليرة أحتج، أعطاه خمس ليرات اخرى فزاد احتجاجه، اعطاه خمس ليرات اضافية فزاد غضباً بطريقة متعجرفة.. والمشكلة انه لا يعرف غير التركية، وحديثه كان معه بالإشارات، حيث طلب من صاحب الفندق ان يتولى الترجمة، لأن اكتظاظ الطريق ليس مسؤولية الراكب، ثم ان السائق كان قد تاه في الازقة الضيقة التي تكتظ بها المدينة القديمة ولا يعرف مكان الفندق، علماً بان عنوان الفندق بين يديه كاملا حتى رقم الهاتف.. ومع ذلك فقد بين له انه تاه.!

تلك مشكلة عويصة، واسطنبول مدينة سياحية جميلة ربما تعتمد ميزانية السياحة فيها على ادامة الحياة في زمن تراجعت فيه معدلات الدخل القومي الاجمالي ودخل الفرد الى مستوى الخسارة بعد الرجات السياسية التي ضربت تقسيم كما ضربت تركيا بمجملها.. فالسائق التركي كان ينبغي ان لا يكون انانياً ويترك انطباعاً ينعكس بالسلب على بلده فتخسر السياحة بسبب مراوغته واجرته الفاحشة.!

أحبَ هو اسطنبول.. هذه المدينة القديمة الوادعة والنظيفة.. نعم كانت الرقابة البلدية صارمة اغضبت محال في سوق تقسيم لبيع الفواكه والخضار وبيع السمك الطازج.. لقد غضب بائع الخضار لأن رجل البلدية طلب منه أن يدخل صناديق الفواكه والخضار ولا يزحف بها نحو الخارج ولا يعيق طريق السابلة.. ولم يتزحزح مأمور البلدية الا بعد ان نفذ صاحب الفواكه طلبه على الرغم من الغضب الشديد الذي كاد ان يحطم سلال المعروض من الفواكه.. والرجل المراقب كان هادئاً ولديه اوراق التغريم اذا لم يطع أمره.. هكذا اذن هي البلدية ونظامها الصارم الذي يفرض النظام وهيبة القانون ويفرض النضافة والمنظر الجميل للمدينة.!

في الشارع النازل من الميدان الى عمق تقسيم ، تسمع موسيقى الطريق بإيقاعات مختلفه يقوم بها محترفون وهواة احدهم كان يعزف موزارت وباخ وآخر كان يتولى الضرب على القانون وزميله يقرع الطبلة بإيقاع جميل وهو يروج لنسخ من انتاجه الموسيقي على شكل اقراص حيث الناس يتحلقون حوله ولا يأبهون بمرور الترام الصغير، وهو عبارة عن قاطرة واحدة  أو إثنتان حمراء اللون لا تسمع لها ضجيجاً، تأتي وتذهب عبر هذا الشارع المكتظ بالبشر وهي تنساب بهدوء كأنها نسمة صيف عابرة، ولا يكترث لها احد.

كان دائماً يقول، أن هنالك فرقاً بين المدنية والحضارة.. المدنية تقتني كل شيء حديث ، والحضارة ومقوماتها الثقافية تضع المعايير في كيفية التعامل مع المدنية المعاصرة.. المدنية ليست حضارة، والحضارة أكبر وأعمق من أي مسحة مدنية قد تأتي من الخارج وليس لها جذور ضاربة في أعماق المجتمع حيث يبرز الافتراق ويظهر الاغتراب بين المدنية والحضارة.!

ابتزه سائق التاكسي بوضح النهار، وحين خرج الى الشارع رأه مكتظاً بصورة لا تصدق.. مسحة طاغية من أوربا في الشكل والمظهر.. الفتيات يتأبطن الفتيان وهن يتأبطن بعضهن، والملبس أوربياً والمقاهي والمطاعم والفنادق والمباني والشوارع هي مسحة من أوربا تقريباً.. التقليد ليس كافياً، ولكن الجوهر يبقى شرقياً تتحكم فيه العادات والتقاليد والأحكام المسبقة، وإن عنصر الإحتكام هو العقل وليس المعيارالعاطفة وشهادة القلب معاً.. المعايير مخفية في أعماق الذات يكشفها السلوك والموقف عند الحاجة وعند الإستفزاز وعند الإثارة، كما قال " هنري بيرغسون" الفيلسوف الذي تحدث عن الحقيقة والمبادئ والاخلاق.(الجوهر يكشف عن نفسه دائماً).. ولا يعني ذلك أن الغرب أحسن اخلاقاً.

الغيوم تتراكض في السماء وتتراقص معها اجنحة النوارس القريبة من الساحل، والعالم هنا يستيقظ على صوت مرور السفن المتنائية من بعيد.. حتى تكاد لا تسمعها وهي تختلط مع اصوات الناس الذين يتدفقون من كل حدب وصوب مع اصوات النوارس وموسيقى الهوات الصاخبة وهم يفترشون رصيف الشارع، ليس عرضاً لفن إنما طلباً لبضعة ليرات تكفي ليوم واحد على أقل تقدير.

أحبَ هو اسطنبول بكل ما فيها وعليها.. أما الخارج الغربي السادي فهو يسعى ويتكالب من اجل ان يغير كل شيء في العالم ويبقيه مجرد هياكل تتحرك دون ان تتمكن حتى من استخدام عقولها.. هياكل مهووسة بالأكل والشرب والجنس.. لا شيء يغير ما يريده الأوغاد في الخارج، سوى إرادات الناس حين يقررون.. انهم يريدون أن يفككوا كل شيء حتى الإنسان يفصلوه عن ثقافته، ويسلخوه عن بيئته ويمسخوه وحشاً لا يعير اهتماماً لأدمية الانسان، يرى الدم مجرد شيء مسفوح لا يحرك فيه غير شهوة الموت من جديد.. إنه " الزومبي " اللعين الممسوخ الخالي من القيم والقادم من العالم السفلي، لا يبصر، لا في عينيه ولا في بصيرته سوى الدم ومحق الآخر..!

حضارة الخارج المادية باتت تفضل هذا الأسلوب لقهر الشعوب وارغامها على الإنصياع إلى حيث التدجين، بدلاً من اعلان الحروب وتجييش الجيوش والطائرات والدبابات والراجمات والصواريخ والجنود من اجل القتل والاحتلال.. انه حشد مكلف في المال والرجال، أما "الزومبي" المحلي القاتل المحترف فهو المثال باعتباره أداة التغيير المعاصرة، أداة الحضارة الغربية الراهنة..!!

***

د. جودت العاني

12/07/2023

في نصوص اليوم